الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بقي أنه هل يجب علينا أن نُعَيِّن مِصْدَاقه بحَسَبِ مسائلنا أو لا؟ فأقول: إن الحديث لم يُسَقْ لِمَا فَهِمُوه؛ بل سِيقَ لتَسْلِيَة المقتدين في اقتدائهم بالأئمة الفُسَّاق، كما في الحديث الآتي:«ويصلِّي لنا إمام فتنة ونتحرَّج» ، فهذا التحرُّجُ بحَسَب معتقداتهم الذهنية، أو الفِسْق الخارجي، كما يُسْتَفْتَى اليوم: إن إمامنا زوجته تَخْرُج بدون الحجاب، أو ليس بمتدِيِّن، أو يأكل الرِّبا، أو يصلِّي لغير الوقت مثلا. فهذه كلها نقائص من الخارج، لا أنهم تحرَّجُوا عن الاقتداء خلفهم لأن إمامهم كان يصلِّي بهم بدون طهارة، أو مع تَرْك التعديل، أو كان يُنْقِص في أجزائها، وحنيئذٍ لم يبقَ لنا حاجةٌ إلى تعيين مِصْدَاقه، لأنه لم يُسَقْ في أفعال الصلاة؛ بل سِيقَ لإزالة التحرُّج الذي حَدَث في أذهانهم بحَسَبِ الاعتقاد السوء للإمام، وهو ذهني، وهذا الذي أَرَدْنَاه بالدواخل والخوارج فيما مرَّ فأزاحه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعلَّمهم أن نياتكم معكم، وعاقبتهم معهم.
ومع هذا لو تبرَّعنا ببيان مِصْدَاقه كان أحسن فاعلم أن ما يُسْتَفَاد من كُتُب الحنفية في الاقتداء بالأئمة الذين يُميِتُون الصلوات أن يصلُّوها منفردين في أوقاتها، فإِن أدركوها معهم لا يُعِيدُون غير الظهر والعشاء. وأَقول من عند نفسي: لهم أن يُعِيدُوا سائرها إن خافوا الإيذاء منهم
(1)
لقوله صلى الله عليه وسلم «إن وَبَاله يكون عليهم» . - بالمعنى - وقد مرَّ عن «البحر» : أن الإمام لو كان مُبْتَدِعًا، فإن لم تبلغ بدعته إلى حدِّ الكُفْرِ يَصِحُّ الاقتداء به، وهو أفضل من الانفراد، وكَتَبَ فيه هذا اللفظ، أعني: وعليه ما عليه. والابتداع قد يكون في أفعال الصلاة، وقد يكون في خارجها أيضًا.
قوله: (فإن أصابوا فلكم)، واتفق
(2)
الشارحان أن هذه الأحاديث في الأوقات، فالمراد منها إصابة الوقت والخطأ فيه. وأما مسائل الشافعية فمن باب التَّفقُّه، وقد نَبَّهناك أنها لا تأتي تحت هذه الأحاديث، ولا يُنَاسِب استنباطها منها، ومع ذلك أدرجها الحافظ رحمه الله ههنا. وجملة الكلام: أن اللفظ وإن كان عامًا، لكن عمومه ليس بِمْنَوِيَ ولا مقصودٍ، والحديثُ أضيقُ ما حَمَلَ عليه الشافعية، فافهم.
56 - باب إِمَامَةِ الْمَفْتُونِ وَالْمُبْتَدِعِ
وَقَالَ الْحَسَنُ صَلِّ وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ.
695 -
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِىُّ حَدَّثَنَا الزُّهْرِىُّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِىِّ بْنِ خِيَارٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى
(1)
قلتُ: وأخرج الطحاوي عن إبراهيم: أنه كان يَكْرَه أن يُعاد المغرب إلَّا أن يَخْشَى الرجل سلطانا، فيصليها ثم يشفعُ بركعة، وهذا يؤيد ما قاله الشيخ رحمه الله تعالى.
(2)
قال الطحاوي في "مشكله" ما حاصله: إن الحديث سِيقَ في خطأ الإمام في إصابته وقت الصلاة، فدل على أنه أيضًا حمله على الوقت، لا على الانتقاص في أجزاء الصلاة.
قلت: وقد كرَّرت في البيان ليتقرَّر منه شيء في الأذهان، ويَخْرُج من الغياب إلى العيان.
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رضى الله عنه - وَهْوَ مَحْصُورٌ فَقَالَ إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ، وَنَزَلَ بِكَ مَا تَرَى وَيُصَلِّى لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ وَنَتَحَرَّجُ. فَقَالَ الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ. وَقَالَ الزُّبَيْدِىُّ قَالَ الزُّهْرِىُّ لَا نَرَى أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُخَنَّثِ إِلَاّ مِنْ ضَرُورَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا. تحفة 9827، 19372 أ
696 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِى التَّيَّاحِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لأَبِى ذَرٍّ «اسْمَعْ وَأَطِعْ، وَلَوْ لِحَبَشِىٍّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» . طرفاه 693، 7142 - تحفة 1699
قيل: الأحسن أن يقول: المُفْتَتَن، وقيل: الفَاتِن، ثم قيل: إن المفتون يُطْلَق على الفاتِن أيضًا. والمراد منه: من لا يَحْتَاط في دينه، ولا يَتَقَيَّدُ بالشرع في آدابه وعقائده حتى تذهب به نفسه كل مَذْهَبِ، لا من لم يكن يُحْسِنُ يصلِّي، أو يَقْصُر فيها، ليصِحَّ استدلال المصنِّف رحمه الله.
695 -
قوله: (ويُصَلِّي لنا إمام فِتْنَة، ونَتَحَرَّجُ)، وهذا الذي نَّبْهتُك عليه آنفًا: أن الحديثَ لم يُسَقْ لبيان المَخْرَج، ولم يعلِّمهم الاقتداء بهم، ولم يرغِّبهم في تطلُّب الجماعة خلفهم. وإنما وَرَدَ في تسليتهم، وتفريج تحرُّجهم، وتبريد صدرهم، وإذهاب حرِّهم، وإطفاء لوعتهم عندما اضْطَروا إلى الاقتداء بهم، فشقَّ عليهم الاقتداء لِمَا يَرَوْنَه مفتونًا مبتدعًا.
وحمله الشافعية رحمهم الله تعالى على أنه وَرَدَ في صورة العمل، وهدى إلى المخلِّص في تلك الأيام، ونبَّه على ضعف رابطة القدوة جدًا فيمكن لهم أن يتداركوا لأنفسهم ما قَصَرَ فيه إمامهم، حتى يكون تكميله لهم وتقصيره عليه لا عليهم.
وإذ قد عَلِمْت أنه لم يَرد في تقصيرهم في نفس أركان الصلاة؛ بل وَرَدَ في الأمور الخارجية التي أوجبت عليهم التشويش والتحرُّج في الاقتداء بهم، فكيف يمكن التكميل منهم فيما قَصَرَ فيه الإِمام في الخارج؟ وإنما يأتي التكميل من المقتدي فيما فَرَضْنَا أن الإمام قَصَرَ في أجزاء الصلاة، وإذا كان مَبْنَى التحرُّج عمَّا يفعله في الخارج لا يمكن تكميله في المقتدي في الصلاة؛ بل لا يُتَصَوَّر أيضًا.
ثم إن سبب تهُّيج هذه الفتن: أن أمر المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه كان يَسْتَعْمِلُ أقاربه، وكان بعضهم لا يُحْسِنُون العمل، فَقَدَحَ الناس فيهم، وبلَّغُوا أمرهم إلى عثمان رضي الله تعالى عنه، فلم يصدِّقهم وظنَّ أنهم يَغُرُّون بأقاربه بلا سببٍ، ولعلَّلهم لا يَطِيب بأنفسهم تولية أقاربه، فُيشُون بهم. ومرَّ على ذلك بُرْهةٌ من الزمان حتى جاءه محمد بن أبي بكر يَسْتَعْمِلُه، فأمر مروان - وكان كاتبًا له - أن يَكْتُب إذا جاءكم محمد بن أبي بكر فاقبلوه، فكَتَبَ مروان: فاقتلوه، مكان فاقبلوه، واتَّفق أن محمد بن أبي بكر فَعَلَ فِعْل المُتَلَمِّس، فَفَتَحَ المكتوب، فإِذا فيه أمر القتل، فرجع على أعقابه وقصَّه على عليّ رضي الله عنه، فطلب عليّ رضي الله عنه مروان، فلم يفعله عثمان رضي الله عنه، وعند ذلك أثارت تلك الفِتَن وهاجت حتى مضى عليه