الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والنظر فَلَغا ولم يَنْصِت كان عليه كِفْلان من وِزْر - إِلخ
(1)
وكِفْلان مِن وِزْر مع اتحاد الشَّرْط في الصورتين.
32 - باب إِذَا رَأَى الإِمَامُ رَجُلاً جَاءَ وَهْوَ يَخْطُبُ، أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّىَ رَكْعَتَيْنِ
930 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ «أَصَلَّيْتَ يَا فُلَانُ» . قَالَ لَا. قَالَ «قُمْ فَارْكَعْ» . طرفاه 931، 1166 - تحفة 2511 - 15/ 2
33 - باب مَنْ جَاءَ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ
931 -
حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا قَالَ دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ «أَصَلَّيْتَ» . قَالَ لَا. قَالَ «فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» . طرفاه 930، 1166 - تحفة 2532
وهو مذهب الشافعي، وأحمد، ومذهب مالك وأبي حنيفة أنه يَقْعُد كما هو ولا يصلي، ولا يترك فريضةَ الاستماع والإنصات.
ويقضي العَجَب من الشيخ النووي كلّ العجب حيث نَقَلَ عن القاضي عياض أنه هو مذهبُ
(2)
الجمهور من الصحابة والخلفاء الراشدين، ثم قال: إن ما أَوَّل به الخصومُ قصة سُلَيك تأويلٌ باطل يَرُدُّه صريحُ الحديث.
(1)
يقول العبد الضعيف: هكذا هو في النسخة الموجودة عندنا وُيشكل عليها قوله: "كِفْل من وِزر". ثُم تبين بعد الرجوع إلى النسخة التي في "البَذل" للشيخ الأجَلِّ الأمجد مولانا الشاه خليل أحمد رحمه الله تعالى وأدخل الفردوس الأعلى أنه من اختلاف النسخ فكان في نسخة: "كِفْل من وِزْر"، وفي نسخة أخرى:"كِفْلان أوكِفْل" من وِزر فجمع الكاتب بين النسختين في الصلب فأوجب خلطًا وظهر من شرحه أنهما بالترديد عند البيهقي هكذا: كفلان أو كفل. ويظهر لهذا العبد الضعيف من سياق الحديث أن الأرجح كِفْلان، لأنه إذا تمكَّنَ من الاستماع والنظر ثُمَّ لَغَا ولم يَنْصِت استحق الوزرين كما لو كان أَنصت ولم يَلغُ لاستحق الأجرين.
وحاصل الحديث حينئذ استحقاقُ الأجرين بالإِنصات وعدم اللغو عند تَمَكن الاستماع والنظر، واستحقاقُ الأَجْر عند عدمِهِما وهو بالإِنصات، وعلى وِزَانه استحقاق الوِزرَين بِتَرك واجب الإِنصات واللغو عند التمكن منهما. وفيه دليل على وجوب الإِنصات كما ذهب إليه الجمهور، والله تعالى أعلم.
(2)
واعلم أن أعظم شيء في فَصْل المسائل وأبنيَة تَعَامُلُ الصحابة رضي الله عنهم كما عَلِمْته مرارًا، فحينئذٍ إذا كان تَعَامُل جمهورِ الصحابة مع عمل الخلفاء الأربعة على تَرْك هاتين الركعتين، فلا ريب في كون مذهبنا أرجحَ المذاهب، بقي الحديث، فالأمرُ فيه بعد نَقْل التعَامُل المذكور سَهْل، فإِن شئت حَمَلْته على النسْخ كما هو رأي العيني رحمه الله تعالى، وإن شئت أبديتَ له تاويلًا كما ذكره هو أيضًا، أما تقريرُ الأول فعلى ما أقول: إن أمر الخطبة كان مُوَسعًا في أوائل الإِسلام وذلك مما لا نزاعَ فيه، ثُم تَدَرَّج أَمْرُها إلى التضييق حتى عُدَّ الآمِرُ =
وجملةُ المقال في هذا الباب أن هناك أمرين: واقعة سُلَيك، وقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
أما واقعة سُلَيك فكما في الأحاديث: أنه دخل ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يومَ الجمعة، فقال:«أصليتَ» ؟ قال: لا، قال:«قُمْ فَصَلِّ الركعتين» -مسلم-.
وأما القول فكما في «الصحيحين» بعده: «إذا جاء أحدُكُم يومَ الجمعة والإِمامُ يخطُبُ
= بالمعروف لاغيًا فيها، وذلك معلوم بالتواتر، وإذن نسألُك أن سنة سلَيك رضي الله عنه وما وقع في قِصْته من إمساك الخطبة ونزع الناس ثيابهم وصلاته بالركعتين كله يليق بزَمن التوسيع أو بزمن التضييق؟ ولا أراك شاكا في أنها أقرب بزمن التوسيع، فإِن نَزع الناس ثيابَهُم ونَبْذَهم إليه لا يليق بمجلس الاستماع. وأوْضَحُ منه ما عند مسلم: قال أبو رفاعة: "انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب قال: فقلت: يا رسول الله رجلٌ غريبٌ جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينُه! قال: فأقبل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتَرَك خطبَتَهُ حتى انتهى إلي فأتى بكرسيٍّ حَسِبت قوائمه حديدًا. قال: فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلَ يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبتَهُ فأتم آخِرَها". اهـ. فقوله: "فأتم آخرها" يدل على البِنَاءِ دون الاستئناف. والظاهر من سياق "مسلم" أنه قِصَّة يومِ الجمعة، فإِنه أخرجها في تضاعيف أحاديث خطبة الجمعة فالذي يظن أنها أيضًا قصة في الأَوائل، كقِصَّة سلَيك رضي الله عنه.
وبالجملة إذا عَلِمنا توسيعًا وتضييقًا في أَمرٍ واحدٍ بحسب زمانين، فما يروى فيه مِن التوسيعات كلها تحمَل على زمن التوسيع، وذلك معقول وإن عارَضَه مجادل. وهذا السبيل سلكناه في مواضعَ: منها في أَمر التسبيع مِن سؤر الكلب. ومنها: في رَفْع اليدين. ومنها: في الركعتين قبل المَغْرِب. ومنها: في الكلام في حديث ذي اليدين كل ذلك يليق بزمن التوسيع سواء سميته نسخًا، كما هو المشهور، أو قلتَ: إنه كان ثم اختتم، ولم تتكلم بلفظ النسخ كما هو ذوق شيخنا قدس سره إلا في حديث "ذي اليدين" ألا ترى ما أخرجه مالك في "موطئه" عن ثَعْلَبة بن أبي مالك القُرَظي أنه أخبرهم أنهم كانوا في زمن عمرَ بن الخطاب يصلُّون يومَ الجمعة حتى يخرج عمرُ بن الخطاب. فإذا خرج عمرُ رضي الله عنه وجلس على المنبر، وقام يخطُب أنصتنا فلم يتكلم منا أحَدٌ -قال ابن شِهاب: فخروج الإِمام يقطع الصلاةَ، وكلامُه يقطعُ الكلامَ. اهـ. مختصرًا فهذا نحوٌ من الإِجماع على أن مِن سُنَّة الخُطبة قَطْعَ الصلاة مطلقًا. ولا فرق فيها بين مَنْ كان داخلَ المسجدِ، أو دَخَله حين الخُطبة. والفرق بين الداخل والآتي إنما وجدَه مَنْ أراد أن يعملَ بهذا الإِجماع على أن مع العمل بسنَّة سُلَيك رضي الله عنه، فلما تعذَّر عليه الجَمْعُ بينهما قَصَر أحاديثَ الإِنصات على مَنْ كان داخِل المسجد، وجعل حديثَ سُلَيك فيمَن دخل بعد شروعِ الخطبة.
قلت: وهذا تطبيق بين الحدييثين من جانبه وحَسَب معتقَدِه في المسألة، فإِن كان يسع له أن يَحْمِله على ذكر فلخصمه أيضًا أن يحمله على ما وَجْه لا ينافي التواتر. والظاهر أن التأويل في قضية جزئية أيسرٌ من التأويل في أحاديث متواترة، وهَدم سُنة من السُّنن المختصةِ بالجمعةِ أَمْر من تَرْك سنةِ جزئية، لم يظهر لها مناسبة بالجمعةِ.
وبعد ذلك نقول: إنَّ الفرق بين الداخلِ والآتي إنما يليق إذا كان فيه معنى، وإذ ليس فليس لأنا، قد عَلِمنا أن الدعامة في تلك الأحاديث هي الإنصاتِ والاستماع. ولا شك أنَّ من اشتغل بالركعتين فقد أخلَّ في فريضة الاستماع سواء كان داخلًا في المسجدِ مِنْ قَبْلَ أو أتى فيه بعد شروعِها، فإن جاز للآتي أن يركَعَ ركعتين وإمامُهُ يَخْطُب، فللداخل القاعدِ أيضًا أن يركعهما، ولئن فرضنا اشتغالَ الطائفتين بالركعتين لا يكون مثل مَنْ خاطبهما إلا كَمَثَلِ مَنْ يخاطب مَنْ لا يلزمه الاستماع لحدِيثه.
وبالجملة إن كان الإخلال بالاستماع ممنوعًا، فذلك يستوي فيه الداخل والخارج، وإن لم يكن ممنوعًا فقد جاز للداخل أيضًا أن يركع ركعتين، وإذن لا يبقى لحديثِ الإنصات مصداقٌ، فإنه إذا جازَ تَرْك الإِنصات للداخل ومَنْ أتى الخطبة أيضًا، فكأنه ارتفع حُكم هذه الأحاديثِ رأسًا فتفكر وأما تقرير الثاني فكما ستعرِفه في صلب الكتاب.
فليركع ركعتين وليتجوَّز فيهما». والتفضِّي عن القول مُشْكِل فإِنه تشريع، أما الواقعة فيمكنُ حَمْلُها على الأعذار، فمنها ما عند النِّسائي في «كبراه»: أنَّ هذا الرجلَ دخَل بِهيئةٍ رَثَّةٍ ولم تكن عليه ثيابٌ، فأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يتصدَّقَ عليه الناسُ فَرَعَّبهم فيه، فَأَمَرَه بالصلاة ليرى الناسُ هيأَته البذة فتصدقوا عليه. هكذا في «المسند» ، و «صحيح ابن حِبَّان» ، والطحاوي. وبَوَّب عليه النسائيُّ بالحَثِّ على الصدقة، إشارة إلى ما هو الأَهم في قِصَّته.
فإِن قلت
(1)
: لو كان كما قلتم لَمَا أمره بالركعتين في الجمعة الأخرى، وفي التي بعدَها أَيضًا، فهل كان يريد الإِراءة كلَّ مرة؟ وإِذن لا يكون المقصودُ إلا تَحْرِيضَه على تحية المسجد، والتصدُّق عليه يكون تَبَعًا. قلتُ: وفي الجمعة الثالثة تَرَدَّدَ الراوي. ولا بُعْد في الجُمُعتين أن يكون أَمْرُه لذلك، وعند ابن حِبَّان فيه زيادة وهي:«لا تَعُودن لِمِثْل هذا» . اهـ. فحملوها على النَّهي عن تَرْك هاتين الركعتين. قلتُ: بل نَهْيُّ عن الإِبطاءِ عن الجمعة وحُضُوره في وقت الخطبة حنى لزِمه إمساكُها، فهو كقوله لأبي بَكْرة رضي الله عنه حين بادر إلى إِدْرَاك الرُّكوع:«زادك اللَّهُ حِرْصًا ولا تَعُد» . وقد اختلفوا في شَرْحه أيضًا كما مرّ.
ثم عند مسلم - ص 287 - أَنه جاء ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم قاعِدٌ على المِنْبر، فدلَّ على أنه لم يكن دَخَل في الخُطبة بَعْدُ، بل كان يريدْ الخطبة سيما على مذهب الشافعية، فإِن القِيام من شرائط الخطبة عندهم. فلزِمهم أن يقولوا إِنَّه لم يكن دَخَل في الخطبة.
وتمسك الشيخ العيني رحمه الله تعالى برواية النسائي، وليس فيه ما رامه فلا يتم التقريب،
(1)
قال الشيخ رحمه الله تعالى: والوَجْه أن التحريضَ على الصَّدقة وقَعَ في الجمعتين إلا أنه كان التحريضُ في الجُمعة الأُولى لأجله خاصَّة، وفي الجمعة الأُخرى كان لرجلٍ آخر. فلما حَرض النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الصَّدقة، نَبَذ هذا الرجلُ أيضًا أحدَ ثَوْبيه اللذين كان أعطيهما في الجُمعةِ الماضية. فردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثوبَه ولامه على تَصَدُّقِه. فإِن خيرَ الصدقة ما كانت عن ظَهْرِ غَنِي هذا ما سمعناه منه في درس الترمذي. قلتُ: يَرد على الشافعية أن هذا الرَّجُل لما جاء في الجمعة الأولى قعد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"قُم فاركع". هكذا عند "مُسلم". فأجابوا عنه أنه كان جاهلًا عن المسألةِ، والجهل عندهم عُذْرٌ، فصحَّت له تحيةُ المسجد بعد الجلوس أيضًا. ثُم ورد عليهم تكرُّر القصة، فإِنَّه إن كان جاهلًا في أول مرةٍ فقد عَلِمهما بعد تعليمه وحينئذٍ كيف جلس في الجمعة الثانية أو الثالثة أيضًا؟، فأجابوا أنه نسي والناسي عندهم كالجاهل، والغرضُ منه أن قِصة التكرُّر ترِدُ علينا وعليهم لا أنَّا منفردون فيه.
ثم جوابُنَا في تأويلها أَوْجَهُ من جوابهم، فإنك تعلمُ أن عُذر النسيان مما يحتاج إلى دليل، وهلا يقال: إنها كانت سنةً قَبلِية للجمعة، فإِن السؤال والجواب إنما يناسِبُ عنها، فإنها آكَدُ من تحية المسجد التي لا تزيد على الاستحباب مع أنها لا تفوتُ بالجلوس مع تأييده بِلَفظ قبل أن تجيء، بل أقول: إنَّ سؤاله صلى الله عليه وسلم بعدما جاء الرجلُ وقَعَد بين يديه لا يكون إلا عن صَلاتِهِ قبل المجيء، ولا يناسب عن الصلاة قبل القعود، فإِنه كان بمرأى عينيه، وقد شاهده أنه لم يَزِد على أنه قد جاء وقَعَد. وحينئذٍ لا يلائمهُ السؤالُ بأنك ركعتَ ركعتين قبل أن تَجْلِس، بل سؤاله إنما يليقُ به: أنك هل صليت قبل أن تجيء إلى المسجد؟ ففيه تأييدٌ للفظ ابن ماجه. لأن صلاتَه كانت سُنَّة قَبليَّة لا تحية المسجد إلا أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَرَه حتى جاء الرَّجُل وقعد، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال ما قال. قلت: كيف ولم يكن المسجدُ مُتَسِعًا كذلك ولم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم دَخل في الخطبة على لَفْظ "مسلم".
ولذا عَدَلْت عنه إلى حديث مسلم. وبه يَتم مقصوده إن كان غرضُه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن دخَل في الخطبة، وإن كان مقصودُه أنه كان بدأَ الخطبةَ إلا أنه أمسك عنها
(1)
. فله ما عند الدَّارقطني: أنه كان أمسك عن خطبته. وهو مرسَلٌ جيد، وهو صَرِيح في أنه كان دخل في الخطبة، إلا أنه أمسكها ريثما صلى الرجل صلاته وحَثَّ فيه على التصدق عليه، ولا يُدْرَى أنه استأنفَ خطبته بعده، أو بَنَى عليها، والظاهر الأول.
بقي أنه هل يجوز للإِمام أن يتكلم في الخطبة؟ فالأحسن عندي أن لا يوسع فيه. وينبغي أن يُقْتَصر على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإن صَرَّح الشيخ ابنُ الهُمام رحمه الله تعالى بجوازه عند الحاجة
(2)
.
ثم إنه ما الدليل على كونها تحيةَ المسجدِ كما فهموه؟ لمَ لا يجوز أن تكون سنةً قَبْلِيةً للمجمعة؟ فعند ابن ماجه بِسَندٍ قويَ: «أصليتَ الركعتين قَبْل أن تجيءَ» ؟ ومعلومٌ أن تحية المسجدِ لا تكون إلا بعد المجيءَ. ولذا أخرجه الزَّيلَعي في السُّنة القَبْلِيَّة، وحَكَم عليه أبو الحجاج
(1)
قلتُ: فإن شئت أن تجمع بين الألفاظ المختلفة في ذلك فقل: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان قاعِدًا على المِنْبَر ويريدُ أن يخطُب. إذ جاء الرَّجُلُ فرآه في هيئةٍ، بذةٍ فأمسك عن الخطبة وجعل يُحَرِّضُ الناسَ. وبذلك يَحْصُل الجمعُ بين الأحاديث. فإِن ما عند مسلم بيانٌ لأول حاله، والإِمساك عند الدارقطني عبارةٌ عن إمساكه عن الشروع في الخطبة، ومعنى قوله وهو يَخْطُب، أي أنَّه يريد أن يخطب. وهذا مجازٌ واسِعٌ. هكذا جَمَعَ الشيخُ رحمه الله تعالى في درس الترمذي.
(2)
قلتُ: وقد نُوقش أن الصلاةَ بعد خروج الإِمام مكروهة عند أئمتنا. فالتأويلُ المذكورُ لا يجدي نَفْعًا. والجواب عندي والله تعالى أعلم بالصواب: أن وَضْع مسألتنا فيما يوجِبُ الاشتغالَ بالصلاة إِخلالٌ في فرْض الاستماع كما يُشعِر به تَعْلِيلُهم. قال الزيْلَعِي في "شرح الكنز" في تعليل مذهب الصاحبين: لهما أن الكراهيةَ للإِخلال بفَرْضِ الاستماع ولا استماع ههنا -أي في الكلام-، بخلاف الصلاة، لأنها تمتد ثُم قال من جانب الحنفية في عَدَم الفَرْق بين الكلام والصلاة، إن الكلامَ قد يمتدُّ فأشْبه الصلاة. اهـ. فدل على أن وَضْع المسألة فيما أخرج الكلام أو الصلاة في فَرْض الاستماع، وحيث لا إِخلالَ لا منع أيضًا. وليس في قصة الحديث شيءٌ من ذلك فإِن النبي صلى الله عليه وسلم كان قاعدًا للخُطبة ولم يَخْطب بعد على لفظ "مسلم" أو أمْسَكَها -على لَفْظ الدارقطني- ثُم أمَه بالركعتين، وأيًّا ما كان، فلم يوجد منه الإِخلال ولا كان خشيةً لكونه أمْسَكَ خُطبته لأجْل ذلك. وأَوْضَحُ منه لفظ أحمدَ رحمه الله تعالى كما في العيني قال:"قُم فَصَلِّ، ثم انتظره حتى صلَّى"، فَفَرْقٌ بين مَنْ امسك له الإمام خطبتَهُ، ثم أمَرَهُ بالركعتين بنفسه، وحرَّضَ الناسَ ليتصدقوا عليه، وبين مَنْ جاء والإمامُ يَخْطُب. فلم يُلْق لقوله بالًا. وجعل يُقَدِّمُ وظيفتَه، واشتغل بالركعتين، فأين هذا مِن ذاك ولعل هذا هو الذي أراده القاضي أبو بكر بن العربي في "شَرْح الترمذي" حيث قال ما معناه: أنه لما تشاغل النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمخاطبة سُلَيك سقط عنه فَرْضه الاستماع، إذ لم يكن منه حينئذٍ خطبةٌ لأجلِ تلك المخاطبة. وزعم أنه أقوى الأجوبة.
وإنما وضعوا المسألةَ في الصلاة والكلام عند خروج الإِمام، لأنه لا يليق اليوم لأحد أن يُمسِك خطبته. والشيخ ابو الهُمام رحمه الله تعالى وإن صَّرح بجواز الكلام عند الحاجة إلا أني لا أرى أن يجيز بمجموع ما ورد في قصة سُلَيك رضي الله عنه. والشيخ قدس سره قد ضيَّق في الكلام أيضًا وقصره على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولم يناسب التوسيع وبالجملة لما أمن الرَّجُل من الإِخلال بالاستماع فقد انتفى عنه سببُ الكراهة وجازت له الركعتان مع قعود الإمام على المِنبر أما اليوم فإِنْ الإِمام يخرج للخطبة ولا يمهِل أحدًا أن يصلِّي شيئًا ولا ينتظر له، فتحقق الإِخلال، فظهر الجواب عن الشبهة إن شاء الله تعالى ولم يخالِف شيئًا مما في كُتُبنا ولله الحمد.
المِزّي الشافعي وابن تيمية بكونه تَصْحِيفًا من الكاتب. والصواب: «قبل أن تَجْلِس» .
قلتُ: كيف يُحْكم عليه بالتَّصْحِيف مع أن الإِمام الأَوْزاعي، إِسحاق بن رَاهُويه رحمهما الله تعالى بَنَيا عليه مذهبهما، فذهبا إلى أَنه يصليهما في البيت وإلا ففي المسجد، وإن دخَل الإِمام في الخطبة. وقد مرَّ معنا أن الحديث إذا ظهر به العملُ انقطع عنه الجدل. ثم رواية جابر رضي الله عنه ومَذْهبُه كما في جزء القراءة أنه كان يصلِّي بهما في المسجد وإنْ خطب الخطيب، وإن كان قَدْ صلَّى في البيت.
وهذا يدل على صِحَّة لفقظ: «قبل أن تجيءَ» ، لأن قوله ذلك ناظر إلى لفظ:«قبل أن تجيء» ، يعني به أَنه لا يقتصر عليهما في البيت، بل يصلِّيهما في المسجد أيضًا على سُنَّة سليك، وإن لم يكن مذهبه كمذهبنا.
ثمَّ سؤالُه عن الركعتين إنما يتأَتَّى إذا كان عن السُّنةِ القَبْلية، أما عن تحية المسجد فإِنه حَضَر بمرأَى عينيه ولم يُصَلِّ فما معنى السؤال؟ اللهم إلا أن يقال إِنه لم يقع بصرُه عليه ابتداءً، فإِذا رآه سئل عنها. وأَوَّله الحافظ بأن المرادَ منه قَبْل أن تجيءَ من ذلك المكان إلى هذا المكان، فإِذن السؤالُ عن الصلاة في المسجد دون البيت. قلتُ: وهو غَنيُّ عن الردِّ. بقي القول: فجوابه أن الدَّارقطني
(1)
تَتَبَّعَ على «الصحيحين» في عدة مواضعَ، وتتبَّع على البخاري في
(1)
قلت: وقد أخرج له الحافِظُ رحمه الله تعالى متابِعًا فانتفى التفرُّدُ وارتفع الشذوذُ، ولكن مَعَ ذلك لا يبلغ ما هو المشهور فيه، أعني كونه قصة سليك رضي الله عنه. ثُمَّ جاء بعض الرواة فذكر معها الحديثَ القولي أيضًا في سلسلة واحدة. أعني أنه كان عنده قِصَّةُ سُلَيك رضي الله عنه، وكان قد بلغته تلك الروايةُ بالمعنى أيضًا، فحمله على أنه حديث فألحقه بها على نحو استدلال، لا أنهما حديثان مستقلان ونظيرُه أيضًا في الأحاديث: فإِن الرواةَ يكون عندهم حديث ثم يستشهدون عليه من آيته في سنن واحدٍ، وُيتوهم منه أنه مرفوعٌ مع أنه لا يكون غيرُ خَفي على الممارس. وكذلك قد يكون عندهم حديثان من باب واحد أو من بابين ثم يروونه في سلسلة واحدة ويتوهم منه كونه حديثًا واحدًا ويُفْضِي إلى الاضطراب. ونظيرُه حديثُ عُبادة، فإِنه روى قصة المنازعة، ثُم ذكر معها حديث:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحةِ الكتاب"، مع أنه كان حديثًا مستقلًا، وتقريرُه وتحقيقُه في مَوْضِعه معلوم، وهكذا حديث أَبي هريرة رضي الله عنه في سؤال تلميذه إني أكونُ وراء الإِمام فقرأ عليه:"قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصْفين فإِنهم اتفقوا على أَنهما حديثان".
وبالجملةَ مَنْ يجَرب تصرفات الرواة لا يستبعد ما قلنا، وبعدُ فليس في مِثل تلك الأمور إلا حكم الوُجدان، وهو القول الفَصل عند الاختلاف، ويؤيده ما ذكره أبو الوليد بن رشد أن قوله صلى الله عليه وسلم "إذا جاء أَحدكم والإِمام يَخْطب"
…
إلخ. أخرجه "مسلم" في بعض رواياته. وأكثر رواياتِه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَر الرجلَ الدَاخِلَ أَن يَركع، ولم يقل: إذا جاء أحدكم" الحديث. فينظر إلى هذا الخلاف في أنه هل تقبل زيادة الراوي الواحد إذا خالفه أصحابهُ عن الشيخِ الأوَّل الذي اجتمعوا في الرواية عنه أم لا؟ اهـ. "بداية المجتهد".
ثم القرينة عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان قاله في تلك القصة فَلِم أمسك الخطبة إِذن؟ فإِن سُنة التحية حينئذ أن تؤدَّى خلال الخطبة أيضًا، فلا حاجة إلى الإِمساك مع ثبوتِه قطعًا. فاتضح بِفِعل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وأَمرِه بالإِنصات أَن حال الإِمام مع المستمعين على أَحَد هذين الوَجهَين: إِما أن يَقطع المستَمِع صلاتَه اْو يُمسِك الإِمامُ خطبتَه، ولذا لما أَمر النبي صلى الله عليه وسلم سُلَيكا رضي الله عنه أن يصلِّي الركعتين أَمسَك خطبتَه. ولما كان مِن سُنَّة الإِمام يومَ الجمعة أن يَخطب، =
نحو مئة موضع ونَيِّف، وكلها في الأسانيد إلا هذا الحديث فإِنه تَكلم فيه في المتن. وقال: إن أَصْلَه «واقعة» جعَلَه الراوي «ضابطة» . فالصواب أنه مُدْرَج من الرَّاوي.
قلتُ: ويؤُيده صنيعُ البخاريّ، فإِنه أخرج هذا القول مِرارًا ثُمَّ يُترجِم عليه بهذه المسألةِ مع أنه اختارها، فلو كان القول هو الأصل عنده لأَخرجه البتة لكونه صريحًا فيما ذهب إليه، لكنه لم يُخَرِّجه في أبواب الجمعة، وتمسك به في مسألة أخرى، وهي مثنوية الصلاة مع أن لها أحاديثَ أخرى أصرَحُ منه عنده، والذي سيق له الحديث هو الركعتان عند الخطبة. فَتَرْك التمسك منه على مسألةٍ مذكورة صراحةً والتمسُّك على مسألةٍ ضمنيةٍ دليلٌ واضحٌ على أنه لم يثبت عنده القولُ، ولكنه واقعةٌ كما قال الدارقطني.
وقد تحقق عندي أَن من عادة البخاري أن الحديث إذا كان صحيحًا عنده في نفسه، وتكون فيه مسألة لا يقوم هذا الحديثُ حجَةً عليه لأَمرٍ سَنَح له، لا يترجم على هذا الجزء وعلى هذه المسألة.
ثم أقول: إن السُّنَّة لو كانت جَرَت بهذا القول وإن الداخل في المسجد يصلِّي تحية المسجد، وإن خطب الإِمام، فلم أمسك النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن خطبته كما مرَّ عن الدارقطني، فإِذا نظرنا إلى فِعْله صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن دَخَل في الخطبة على لفظ مُسلم، أو دخلها ثُمّ أمسك عنها على ما عند الدارقطني عَلِمنا شَرْحَ قولِهِ من فِعْله صلى الله عليه وسلم وهو أَنَّ المراد من قوله:«والإِمام يخطُبُ» أي كاد
= أَمَرَ الناسَ أن يقطعوا كلامَهم وصَلاتَهم لئلا يكونَ الإِمام خطيبًا لمن لا يستمعون لكلامِه. وهذا ظاهر وليس يدخل فيما قلنا إن الإِمساك كان للتحريض. فإن ذلكَ أيضا سببٌ، بل هو السبب. ولكنِّي أقول: إنَّ في إباحتِه للصلاة نظرا إلى سكوته عن الخطبة أيضا. فافهم ولا تُسرع في الرد والقبول. وقد سمعتُ بعضه من شيخي.
بقي القول، أي الحديث القولي فقط، فلم يخلص عن اضطراب، فإِن ألفاظَه تشعِر بأنه مأخوذٌ من أَلفاظ القصة لتقاربها من ألفاظ القصة جدًا. فإِذا كان نحو الدارقطني عَلله، ونحو البخاري أشار إليه، فلا أَقَل من أنه يورث شبهة في كونِه مَرويا بالمعنى. والحافظ رحمه الله تعالى وإنْ أخرج له متابِعًا فذلك وإن رَفَعَ التفردَ لكن احتمال الرواية بالمعنى قائم بَعد، ثم الشيخ رحمه الله تعالى عَدَل عن هذا الجواب لذلك، وذهب إلى أنه يروى بالشك: والإِمام يخطبُ تارة، أو قد خرج أخرى.
وظاهرٌ أن الإِمام إذا كان في إِبانِ الخروج يسع له أن يأتي بالركعتين، ويتجوز فيهما.
ثم إنك تعلم أن مسائلَ الأئمة تكون ملائمة ومتناسبة فيما بينهما، ولا تكون من باب الجَمْعِ بين الضب والنون فالشافعي رحمه الله تعالى لما خَفَّف أَمر الإِنصات في الخطبة، خفف الاستماع في الصلاة أيضا. وحينئذٍ ساغ يوسع بهاتين الركعتين أيضا، بخلاف الحنفية. فإِنهم ضَيَّقوا في تلك المواضع كلها، فلا يليق لهم التوسيعُ بهما ولا يأتي هذا على مسائلهم، وهو الملحَظ في اختيار صفة صلاة الخوف، فإِن الأحاديثَ صحَّت فيها على الوجوه كلها، لكن الحنفية اختاروا منها ما لا يخالفُ مَوضِعَ الإِمامة وإن احتاج إلى الحركات الكثيرة والشافعية لم يبالي بذلك فجوزوا تَقَدمَ فراغ المقتدي عن إمامه. فاختاروا صفة ناسبت مسائلهم. وهكذا صنيعُنا وصنيعُهم في مِثل هذه الأبواب. فليس هذا أول قارورةِ كسرت ليتعجب منه. ومن هذا الباب الفاتحة، ورَفْع اليدين في صلاة الجنازة فمن اختارهما في الصلاة المطلَقة اختارهما في صلاة الجنازة أيضًا كالشافعية ومَن تركهما في المُطلقَة تركهما في صلاة الجنازة أيضًا. فتلك سلسلة المسائل فتدبر وأمعن النظر فيه، والله تعالى أَعلم.