الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
662 -
(نُزُله)، والنُّزُل: أول ما يُهَيَّأ للضيف، ومحصَّل الحديث: أن المساجدَ تُدْعَى بيوت الله، فمن أتاها ينبغي أن يُعَدَّ له فيها نُزُلٌ.
38 - باب إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَاّ الْمَكْتُوبَةَ
663 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ مَرَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ. تحفة 9155 - 169/ 1
قَالَ وَحَدَّثَنِى عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ سَمِعْتُ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ قَالَ سَمِعْتُ رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ مَالِكٌ ابْنُ بُحَيْنَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَاثَ بِهِ النَّاسُ، وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الصُّبْحَ أَرْبَعًا، الصُّبْحَ أَرْبَعًا» . تَابَعَهُ غُنْدَرٌ وَمُعَاذٌ عَنْ شُعْبَةَ فِى مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ سَعْدٍ عَنْ حَفْصٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ. وَقَالَ حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا سَعْدٌ عَنْ حَفْصٍ عَنْ مَالِكٍ. تحفة 11181، 9155
ذهب طائفةٌ من أهل الظواهر إلى ظاهر الحديث، وقالوا: إن أُقِيمَتِ الصلاةُ وهو في خلال الصلاة بَطَلَتِ صلاته، ولم يَذْهَب إليه أحدٌ من الأئمة غيرها. وقال الجمهور: بل يُتِمُّها ولا يقطعها. وراجع كُتُب الفِقْه.
وأمَّا تفصيل المذاهب في الفجر، فقال الشافعيُّ رحمه الله تعالى في الجديد: إذا أُقِيمَتِ صلاةُ الفجر، فلا صلاةَ مطلقًا، فلا يَرْكَع ركعتي الفجر أصلا، لا في داخل المسجد، ولا في خارجه وقال في القديم مثل الحنفية، وبه قال مالك رحمه الله تعالى غير أنه فرَّق بين الدَّاخل والخارج، فقال: يَرْكعهما خارج المسجد إذا رَجَا أن يُدْرِكَ الركعتين كلتيهما، وإلاّ فلا وقال ابن العربي في «الاقتراب»: يَدْخُلُ فيهما إن رجا القعدة الأخيرة، وهذا مُخَالِفٌ لِمَا في عامة كُتُبهم.
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى على ما تقرَّر عندي من مذهبه: إنه يَرْكَعُهُمَا خارجه بشرط إدراك ركعة. ولعلَّ التخصيص بالركعة من الاجتهاد ناظرًا إلى مثل حديث: «من أَدْرَكَ ركعة، فقد أدرك الصلاة» . ولا رواية عنه في داخل المسجد. وهذا هو المذهب عندي، كما في «الجامع الصغير» و «البدائع» ، واختار صاحب «الهداية» ، وصرَّحوا به في باب إدراك الفريضة. وصرَّح به علماء المذاهب الأخرى أيضًا كالقَسْطَلاني من الشافعية، وابن رُشْد والباجي من المالكية، ثم وسَّع محمد رحمه الله تعالى في إدراك ركعة، وأجاز بهما عند إدراك القعدة أيضًا.
ثم مشايخنا رحمهم الله تعالى وسَّعوا بهما في المسجد أيضًا، وأظنُّ أنَّ أول من وسَّع بهما في المسجد هو الطحاويُّ، فذهب إلى جوازهما في ناحية المسجد بشرط الفَصْل بينهما وبين المكتوبة، حتَّى لا يُعَدَّ واصلا بينهما وبين المكتوبة، وهو مثار النهي عنده ولعلَّك عَلِمْتَ أن القَيْدَين الَّذَيْن كان صاحب المذهب ذكرهما ارتفع أحدهما بتوسيع محمد رحمه الله تعالى، والآخر بتوسيع الطحاويِّ رحمه الله تعالى.
أمَّا أنا فأعمل بمذهب الإمام أبي حنيفة، وقد أفتى به الناس، غير أني لا أُنَازِعُ من صلاهما في المسجد، وأقول: لعلَّه أَخَذَ بقول محمد رحمه الله تعالى والطحاويِّ رحمه الله تعالى. هذا هو تحريرٌ لمذهب الإمام الأَعْظَم عندي. وأمَّا مذهب الشافعيِّ رحمه الله تعالى، فقد عَلِمْتَه. وتمسُّكه من حديث الباب، فإنه يَدُلُّ على النهيِّ عن الصلاة بعد الإقامة مُطْلقًا، سواء كان في المسجد أو خارجه.
فكأن مَنَاط النهيِ عندهم: الدخول في سنة الفجر بعد الإقامة للفرض، ولمَّا لم يكن فيه فرقٌ بين داخل المسجد وخارجه عَمَّ النهيُ أيضًا بعموم المناط، ولم تَجُزْ ركعتا الفجر في الخارج والداخل مطلقًا. فأجاب عنه الطحاويُّ: أمَّا أولا: فبأن الحديثَ موقوفٌ وليس بمرفوع، كما يُعْلَمُ من صنيع البخاري في «صحيحه» ، حيث لم يُعَبِّرْهُ بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإن مال في «جزء رفع اليدين» إلى رفعه، ولكن العِبْرَة بما في «الصحيح» لأن دَأْبه في الخارج أوسع، وفي «الصحيح» أحكم. فإنه قد يَلْتَزِمُ في الخارج بعض ما يكون بديهي البُّطْلان، كدعواه في عدم ثبوت ترك الرفع عن أحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم، ومنه قوله بعدم أدراك الركعة بإدراك الركوع عندهم، وكل ذلك مما لا يُقْبَلُ، كما فصَّلْته في «نيل الفرقدين» ، و «فصل الخطاب» .
وكذا الشافعيُّ رحمه الله تعالى عَبَّره في «الأم» بقول أبي هريرة، مع اختياره في الجديد مسألة الحديث. وكذا ترجمة ابن أبي شَيْبَة على الحديث المذكور تَدُلُّ على أنه موقوفٌ عنده، وهذا القدر يُوجِبُ التوقُّف في رفعه إن لم يُجْزَم به. وظنِّي أنه جاء بالنحوين: موقوفًا ومرفوعًا، وأجد في الصحابة كثيرًا: أنهم كانوا يستعملون عنوان الحديث المرفوع فيما بينهم على شاكلة الأمثلة السائرة، والمقدمات الدائرة، والمسائل المسلَّمة، وحينئذٍ لا يذكرون
(1)
له إسنادًا ولا يهتمُّون به لعدم احتياجه إليه واستغنائه عنه عندهم.
وقد وقع مثله في حديث: «من كان له إمام ..... » الخ، وحديث النهي عن البُتَيْرَاء فزيدُ بن ثابتٍ أَفْتَى في سجدة التلاوة عند مسلم، وابن عمر رضي الله عنه في «الموطأ» بعين هذه الألفاظ:«من كان له إمام .... » الخ فتبيَّن لي: أن هذا الحديث قد اشتهر فيما بينهم حتى استعملوه كالمسلَّمات، وإن ذَكَر له ابن الهُمَام إسنادًا صحيحًا على شرط الشيخين أيضًا، وراجع
(1)
قلت: ويَقْرُب منه ما ذكره السيوطي في "التدريب": قال بعضهم: يُحْكَمُ للحديث بالصحة إذا تلقَّاه الناسُ بالقَبُول، وإن لم يكن إسناده صحيحًا - قلت: ومن هذا الباب حكم الترمذي على أحاديث مُنْقَطِعة بالتحسين، كحديث عُبَيد الله، عن عبد الله في باب: الاستنجاء بالحجرين، فإِنه مُنْقَطِع، وكذلك حديث فاطمة بنت الحسين، عن جدتها في باب: ما يقول عند دخول المسجد، فإِنه أيضًا مُنْقَطِع، مع أنه حسَّنهما، فاحفظه.
ثم إنك تجد في موضع من تقريرنا هذا أن البحثَ عن الأسانيد لم يكن بين السلف، وإنما احتاج إليه الخَلَف، وذلك كما ذَكَرَه الترمذيُّ في "العلل" عن ابن سيرين قال: كانوا في الزمن الأول لا يسألون عن الإسناد، فلمَّا وقعت الفتنة، سألوا عن الإسناد
…
إلخ. وهذا أصلٌ عظيمٌ يَظهَرُ منه السر في فقدان الأسانيد لبعض الأحاديث الصحيحة، فاحفظه واغتنمه. ثم هذا إنما ينفع لمن رُزِقَ فَهْمًا صحيحًا، وقلبًا سليمًا.
رسالتي، فإذا لم يتعرَّضُوا لإسناده في الصدر الأول، وتَدَاوَلُوه فيما بينهم كالمسلَّمات، خَفِي إسناده فيما بعد لا محالة. فجعل بعضهم يَزْعُمُ أنه موقوفٌ لصحة طُرُقه واستقامة إسناده، بخلاف إسناد المرفوع، ومنهم من يجعله مرفوعًا لاكتفائه بالثبوت في الجملة، وعدم تنقيره فيه، والأمرُ في مثله ما نبَّهناك آنفًا، فانظر فيه بعين الإنصاف، وإياك وخُطَّة الاعتساف
(1)
.
وأمَّا ثانيًا، فكما عَلِمْتَ أن المناط عنده ليس ما نقَّحُوه، بل هو وَصْلُه بين نافلة العبد، وفريضة الله مكانًا، وذلك لأن المناطَ لو كان ما ذكروه لاقتصر النهيُ على ما بعد الإقامة فقط، مع أنه ثَبَتَ النهيُ عنها قُبَيْل الإقامة وبعدها، وبعد الفراغ عن الصلاة أيضًا: فدلَّ على أنه لا دَخْل فيه للإقامة، فحديث مالك بن بُحَيْنَة في «الصحيحين»: أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وقد أُقِيمَت الصلاة يُصَلِّي ركعتين
…
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم آلصبح
(2)
أربعًا» وعند مسلم: «أَتُصَلِّي الصبح أربعًا» ؟ اهـ. وَرَدَ فيما بعد الإقامة، وكذا حديث عبد الله بن سَرْجِسَ عنده، وفيه قال:«دَخَلَ رجلٌ المسجدَ ورسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الغداة، فصلَّى ركعتين في جانب المسجد، ثم دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا فلان، بأي الصلاتين اعْتَدَدْتَ: بصلاتك وَحْدَكَ، أم بصلاتك معنا» . وعند أبي داود قال: «يا فلان، أيتهما صلاتك: التي صلَّيت وَحْدَكَ، أو التي صلَّيتها معنا» ، فهذان أيضًا فيما بعد الإقامة.
وأما النهيُ عنها بعد الفراغ عن الصلاة، فكما في حديث قَيْس بن عمرو عند أبي داود، قال:«رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجلا يُصَلِّي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ركعتان، فقال الرجل: إني لم أكن صلَّيت الركعتين اللتين قبلهما، فصلَّيتهما الآن، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعند الترمذي: «مهلا يا قَيْس، أصلاتان معًا؟ قلتُ يا رسول الله، إني لم أكن رَكَعْتُ ركعتي الفجر، قال: فلا إذن» . اهـ.
أما قوله: «مهلا يا قَيْس» ، فهو على وزَان قوله:«مهلا يا عائشة» حين سمعت اليهود يسلِّمون عليه بالسَّام عليك، أي: رِفْقًا، وعلى هذا يَلِيقُ أن يكونَ الخطابُ به قبل الشروع، مع
(1)
وفي تقرير الفاضل عبد العزيز من كلام الشيخ: أن أبا حاتم أيضًا صوَّب وَقْفَه في "علله"، وهو مُعَاصِرٌ للبخاري رضي الله تعالى عنه، وكنتُ مترددًا في أنه حكم على إسنادٍ واحدٍ، أو على جميع أسانيده، فلمَّا رأيت أنه أخرجه في ثلاث مواضع، وحكم على كلِّه بالوقف، ظَهَرَ أنه حكم على الإِطلاق.
(2)
قلتُ: وراجع لفظ ابن عمر رضي الله عنه، من باب: الصلاة بعد الجمعة عند أبي داود: "لما رأى رجلًا يُصَلِّي ركعتين يوم الجمعة في مقامه، فدفعه وقال: أتُصَلِّي الجمعة أربعًا
…
" إلخ. وفيه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه، عن عطاء: "أنه رأى ابن عمر رضي الله تعالى عنه يُصَلِّي بعد الجمعة، فَيَنْحَاز عن مصلَّاه الذي صلَّى فيه الجمعة قليلًا غير كثيرٍ، قال: فيرْكَعُ ركعتين. قال: ثم يَمْشِي أنفس -أي أبعد- من ذلك، فيركع أربع ركعات
…
" إلخ. وفي الفصل الثالث من باب: الذكر بعد الصلاة من "المشكاة": "أنه قام الرجل الذي أَدْرَك معه -أي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبيرة الأولى من الصلاة يَشْفَعُ، فَوَثَبَ عمر رضي الله تعالى عنه فأخذ بمَنْكِبيه، فهزَّه، ثم قال: اجلس، فإنه لن يُهْلك أهل الكتاب إلَّا أنه لم يكن بين صلاتهم فَصْلٌ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره، فقال:"أصاب الله بك يا ابن الخطاب"- رواه أبو داود.
أنه لا يُلائم سائر طُرُقه، فإِنه يَدُلُّ على أنه خاطبه بعدما فَرَغَ عنها. وكذلك لا يُلائِمُ قوله:«لم أكن» بالنفي في الماضي. ولعلَّ قَيْسًا لمَّا أراد أن يَرْجِعَ إلى بيته بعد الفراغ عنها، استوقفه ليعلِّمه المسألة، فقال:«مهلا» .
ثم إن هذا اللفظ أخرجه مالك رحمه الله تعالى في صلاتهم قبل الفجر، والترمذي فيما بعدها، ويُتَوَهَّمُ منه أنه اضْطِرَابٌ. فعند مالك عن أبي سَلَمَة بن عبد الرحمن قال:«سَمِعَ قومٌ الإِقامةَ فقاموا يُصَلُّون، فخرج إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أصلاتان معًا أصلاتان معًا» وذلك في صلاة الصبح في الركعتين اللتين قبل الصبح اهـ.
ولعلَّك عَلِمْتَ من هذه الأحاديث: أن النهيَ لا يختصُّ بما بعد الإقامة، بل يَعُمُّه وما بعد الصلاة أيضًا، وإذن لا يكون المثار ما قالوه، بل يجوز أن يكونَ المناط ما علَّل به الطحاويُّ: وأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم بهذا النهيِ أن يُصَلِّي غير الفريضة في الموطن الذي صُلِّيَتْ فيه الفريضة، فيكون مصلِّيها قد وَصَلَها بتطوُّعٍ، فيكون النهيُ من أجل ذلك، لا لمن يُصَلِّي في آخر المسجد، ثم يَتَنَحَّى من ذلك المكان، فَيُخَالط الصفوف ويَدْخُل في الفريضة، ويَدُلُّ عليه ما رواه الطحاويُّ عن محمد بن عبد الرحمن:«أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم مرَّ بعبد الله بن مالك بن بُحَيْنَة وهو مُنْتَصِبٌ يُصَلِّي ثَمَّةَ بين يدي نداء الصبح، فقال: لا تجعلوا هذه الصلاة، كصلاة قبل الظهر وبعدها، واجعلوا بينها فصْلا» . اهـ.
ولعلَّ الطحاويَّ حَمَلَه على عدم الفصل مكانًا، إلا أنه يَرِدُ عليه: أن لا يكون الفصلُ مطلوبًا في الظهر، ولا يقول به أحدٌ، وتفسيرُه عندي: أن سنةَ الظهر قد تُؤدَّى فى المسجد بخلاف سنة الفجر، كما يَظْهَرُ من حديث البخاري. ولعلَّه تعليمٌ لأمرين: جواز سنة الفجر، فإنه ليس بعدها، والأمر الثاني: الفصل. قال الطحاويُّ: فبيَّن هذا الحديثُ أن الذي كَرِهَهُ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لابن بُحَيْنَة: هو وَصْلُه إياها بالفريضة في مكانٍ واحدٍ لم يَفْصِلْ بينهما بشيءٍ، فتحصَّل أن المناطَ هو الفصلُ، لا ما قالوه.
ثم يُعْلَمُ من الأحاديث: أن الفصلَ مطلوبٌ في المَكْتُوبات كلِّها وإن كان في سنة الفجر آكَدَ وأبلغَ، فعنده عن أبي هُرَيْرة رضي الله تعالى عنه مرفوعًا قال:«لا تكاثروا الصلاة المكتوبة بمثلها من التسبيح في مقامٍ واحدٍ» . وعند مسلم في الجمعة، عن عمر بن عطاء، في قصة السائب مع معاوية. «فقال معاوية رضي الله تعالى عنه: لا تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ، إذا صلَّيت الجمعة، فلا تَصِلْها بصلاةً حتى تتكلَّمَ أو تَخْرُجَ، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك أن لا نُوصِلَ بصلاةٍ حتى نتكلَّمَ أو نَخْرُجَ». اهـ. ولذا أقول: إن الفصلَ عندي عامٌّ سواء كان بالمكان أو بالقول، وإن كان عند الطحاويِّ بالمكان فقط، وأنتَ تَعْلَمُ أن العبرةَ بعموم اللفظ لا لخصوص المَوْرِد، فالحديث وإن وَرَدَ في الجمعة، لكنه يَعُمُّ في سنة الفجر أيضًا. وعند النَّسائي:«عليكم بهذه الصلاة في البيوت» ، ولم يَثْبُت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أداء السنن في المسجد إلا مرةً أو مرتين.
فإن قلتَ: إن تصديره بقوله: «إذا أُقِيَمت الصلاة» يَدُلُّ على أن المناط: هو كونه مُصَلِّيًا بعد الإقامة، كما زَعَمَه الشافعية. قلتُ: نعم، وله أيضًا دَخْلٌ، إلا أنا لمَّا رأينا الإنكار قُبَيْل الإقامة وبعدها وبعد الفراغ، عَلِمْنَا أن الدعامةَ هو عدم الفصل.
ثم أخرج الطحاويُّ آثارًا عديدة تَدُلُّ على جواز السنة في ناحية المسجد، منها عمل العَبَادِلة الثلاثة: ابن عمر رضي الله عنه مع كونه راوي الحديث، وابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهما. وأخرج ابن أبي شَيْبَة
(1)
نحو تسع من الآثار تَدُلُّ على جوازها خارج المسجد، وفي البعض إيهامٌ بكونها خارج المسجد أو داخله. ثم إنه وقع عند البيهقيِّ في الحديث المذكور استثناءُ ركعتي الفجر. وهو مُدْرَجٌ عندي، وليس بموضوع، ومن حَكَمَ عليه بالوضع، فكأنه أراد به الإدراج. ونقيضه في «كامل ابن عدي» ، وهو أيضًا لا يَصِحُّ. وعندي: من روى الاستثناء أو النفي، كان هو في الحقيقة مذهبه، فاختلط بالمرفوع
(2)
.
ثم أقولُ: والمناط على ما حقَّقت من مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو الجواز في الخارج دون الداخل، كونه مُصَلِّيًا في المسجد غير الصلاة المكتوبة بعد إقامتها. وحينئذٍ يكون الحكم مقصورًا على المسجد فقط، لكون المسجد داخلا في المثار. وإن كان للإقامه أيضًا بعض دَخْلٍ فيه عندي، لكن العُمْدَة فيه: هو كونه مُصَلِّيًا في المسجد
(3)
وهو مدار الحكم بالجواز وعدمه. وهو الذي فَهِمَه ابن عمر رضي الله عنه، كما قال البهكلي في «شرح النَّسائي» ،
(1)
وقد ذكرها الزبِيدِي في "الإِتحاف" قال: أخرج أبو بكر بن أبي شَيْبَة في "المصنف"، عن الشَّعْبِي، عن مَسْرُوق:"أنه دَخَلَ المسجدَ والقوم في صلاة الغداة، ولم يكن صلى الركعتين، فصلاهما في ناحيةٍ، ثم دَخَلَ مع القوم في صلاتهم"، وعن سعيد بن جُبَيْر:"أنه جاء إلى المسجد والإمام في صلاة الفجر، فصلَّى الركعتين قبل أن يَلِجَ المسجد عند باب المسجد"، وعن أبي عثمان النَّهْدِي قال:"رأيت الرجلَ يَجيء وعمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة الفجر، فيصلي الركعتين في باب المسجد، ثم يَدْخُلُ مع القوم في صلاتهم"، وعن مجاهد قال:"إذا دخلت المسجد والناس في صلاة الصبح، ولم تركع ركعتي الفجر، فاركعهما وإن ظننتَ أن الركعة الأولى تَفُوتُك". وعن وَبَرَةَ قال: "رأيتُ ابن عمر رضي الله عنه يفعله". وعن إبراهيم: "أنه كَرِه إذا جاء والإمام يُصَلِّي: أن يصلِّيهما فى باب المسجد أو في ناحيته" وعن أبي الدَّرْدَاء. قال: إني لأجيء إلى القوم وهم صفوف في صلاة الفجر، فأُصَلِّي الركعتين، ثم أنْضَمُّ إليهم". اهـ.
(2)
قلت: وقد نبَّهتك فيما مرَّ: أن مثله يَقَعُ كثيرًا، كما في الركعتين قبل المغرب، فروى واحدٌ: "صلُّوا قبل المغرب
…
". إلخ. وجاء آخر، فقال: "بين كل أذانين صلاة، إلَّا المغرب". ولا يلتقيان إلَّا حين يلتقي السُّهَيْل مع السُّهَا، أو لا يلتقي إذ ذاك أيضًا. فراعِ الاستثناء مع النفي ههنا أيضًا، وقد بَسَطَ الشيخُ الكلامَ على إسنادهما في دراسة "جامع الترمذي".
(3)
وُيؤَيِّده ما أخرجه الهيثمي رحمه الله تعالى في "مجمع الزوائد"، عن عبد الله قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاةَ لمن دخل المسجد والإمام قائم يُصَلي، فلا يَنفَرِدُ وحده بصلاة، ولكن يَدْخُل مع الإمام في الصلاة". اهـ. وفيه: يحيى بن عبد الله البَابْلُتي، وهو ضعيف. قال الشيخُ رحمه الله تعالى في درس الترمذي: إن البَابْلُتِّي هذا ربيب الأوزاعي، وكان يَرْوِي من كتابه، وقد أخذ عنه البخاري مُعَلَّقًا في كتاب الحج وهو عندي من رواة الحِسَان، ونُقِلَ أن ابن معين لما بَلَغَ إلى الشام، أهدى إليه البَابْلُتي من النقد وغيره شيئًا، وكان ثَمَّة، فأخذ ابن معين غير النقد وردَّ الدراهم، ثم سأله رجل عن البَابْلُتي كيف هو؟ فقال: والله إن هديته لطيبة، ولكن ما سَمِعَ عن الأوزاعي شيئًا - ويؤيِّده أن الحديثَ يرويه ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما. أَمَّا ابن عمر رضي الله عنه، ففتواه عند مالك رحمه الله تعالى في "موطئه". وأمَّا ابن عباس رضي الله عنه، ففتواه عند الطحاويِّ في "معاني الآثار": أن تُصَلي الركعتان خارج المسجد، وإن دَخَلَ الإمام في الصلاة".
وقد فَهِمَ ابن عمر رضي الله تعالى عنه هذا المعنى، وأنه مُخْتَصٌّ بالمسجد، لا خارجًا عنه. وهو كذلك في «الفتح» .
بقي الفرق بين داخل المسجد وخارجه هل اعتبره الشرع أو لا؟ ففيه أحاديث: منها حديث أبي هُرَيْرَة رضي الله تعالى عنه: «أمَّا هذا، فقد عَصَى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم وزاد أحمد: «أمرنا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا كنتم في المسجد فُنُودِي بالصلاة، فلا يَخْرُجْ أحدُكم حتى يُصَلِّيَ» ، إسناده صحيح. وحديث: «إذا صلَّيتما في رِحَالكما، ثم أَتَيْتُمَا مسجد جماعةٍ
…
» الخ. وحديث «لا يَخْرُج أحدٌ من المسجد بعد النداء إلا منافقٌ إِلا رجلٌ يَخْرُجُ لحاجته، وهو يريد الرَّجْعَة إلى المسجد» (عب ق). وقد رُوِيَ: «لا صلاة لمن دَخَلَ المسجد والإمام قائمٌ يُصَلِّي، فلا يَنْفَرِدُ وحده بصلاةٍ، ولكن يَدْخُل مع الإمام في الصلاة» . (طب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه).
والحاصل: أن المناطَ عند الطحاويِّ: هو عدم الفصل، مكانًا، دون الملام بعدم الاشتراك في الجماعة، أو بعد الإقامة، كيف وقد قال لقيس بعد الفراغ عن الجماعة:«أصلاتان معًا» ؟
(1)
، فهولعدم الفصل، قبل الإقامة كان، أو عندها، أو بعدها. قلتُ: والفصلُ عندي عامٌّ سواء كان مكانًا أو زمانًا وإن أخذه الطحاويُّ في المكان خاصةً، كما يُسْتَفَادُ من لفظ مسلم:«حتى نتكلَّم أو نَخْرُج» وقد مرَّ. وأمَّا عند الشافعية، فهو كونه مُصَلِّيًا بعد الإقامة، سواء كان خارج المسجد أو داخله. وعندي كونه مُصَلِّيًا في المسجد بعد الإقامة، فللمسجد دَخْلٌ بل هو المناط وقد عَلِمْتَ تغايرُ الحكمين في داخل المسجد وخارجه. وإذ قد راعاه الشرع في غير بابٍ واحدٍ، اعتبرناه في هذا الباب أيضًا.
ثم ههنا حديث نقله العَيْنِي عن «صحيح ابن خُزَيْمَة» ، ولو صحَّ لكان فاصلا في الباب: عن أنسٍ قال: «خَرَجَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أُقِيمَتِ الصلاةُ، فرأى ناسًا يُصلُّون ركعتين بالعَجَلة، فقال أصلاتان معًا؟ فَنَهى أن تُصَلَّيا في المسجد إذا أُقِيمَتِ الصلاةُ» . اهـ. وفيه تصريحٌ: أن النهيَ مُقْتَصِرٌ على المسجد، وهو المناط على ما حقَّقت سابقًا، وهذا الحديثُ أَصْرَحُ فيه، لكونه واردًا في خصوص سنة الفجر، بخلاف الأحاديث المارَّة، فإنها وإن دَلَّت على الفرق بين الداخل والخارج، لكنها لم تُرْوَ في خصوص سنة الفجر.
(1)
قلت: وفي مذكرة الشيخ عندي بعض نظائر الفاء في مورد الإنكار، وقوله:"فلا إذن" في محله فأحببت ذكرها.
فعند مسلم: أنَّ النُّعْمَان بن بشير نَحَلَ ابنه قُطعةً من ماله، فأراد أن يُشْهِدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فجاء إليه فقال:"هل نَحَلْتَ أبناءك مثله"؟ فقال: لا. قال: "فلا إذن". أي: فلا أشهد إذن -بالمعنى- وفي "المشكاة": أن رجلًا استقطع النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَعْدِنًا فأقطعه، فقيل له: إن قطعت له الماء المعد، قال:"فلا إذن" كنز. وعند مسلم: "إذًا لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه". وعند البخاري: "إذا يحلف من الشرب" وعند النَّسائي: "فقال عمر رضي الله عنه: فَسَيْفان إذًا في غَمْدٍ لا يَصْلُحَان". من "الفتح" ومثله في موضع ردِّ العذر في "الصحيح" فلمَّا صلَّى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال:"فلا تفعلوا"، وغيره من مواضع الفاء في القراءة خلف الإمام، وإتيان مسجد جماعةٍ بعد الصلاة في الرحال، وعند النَّسائي في المتوفَّى عنها زوجها، وبَسَطَ الحافظ الكلام في تلك الكلمة، فراجعه. اهـ.
فلقائلٍ أن يقولَ: إن هذا الفرق اسْتُفِيدَ مع الأحاديث العامة، وقد عَلِمْنَا عدمه في سنة الفجر بحديثٍ وَرَدَ فيها خاصةً، والترجيحُ عندك للخصوص دون العموم. فالذي هو حُجَّةٌ قاطعةٌ هو الحديث الصحيح على شرط ابن خُزَيْمَة، وأخرجه العيني، إلا أني أتردَّد فيه، لما في النُّقُول أن العَيْنِي كان سريعَ القلم جدًا، حتى نقل القُدُورِي بتمامه في يومٍ واحدٍ، وكانَ يَتَعَسَّرُ على الناس قراءة كُتُبه من أجل سرعة قلمه، فَيُمْكِنُ أن يكونَ فيه سهوٌ ثم أخرجه مالك أيضًا، لكن بحذف الجملة الأخيرة. وأخرجه الحافظ في «مسند البزَّار» بحذف:«في المسجد» . ولنا أن نحمله على رواية وجوب سنة الفجر أيضًا، وحينئذٍ فهي داخلةٌ في الاستثناء، ولا سؤال ولا جواب.
وبعد هذا الإطناب والإسهاب، أريد أن أُلْقي عليك فرقًا بين ما وَرَدَ في صِيَغ الإنكار، فقال تارةً:«أصلاتان معًا» وتارةً: «الصبح أربعًا» ؟ وأخرى: «بأي الصلاتين اعْتَدَدْتَ؟» فاعلم أن كلَّ ذلك إنكارٌ بأوصاف، ولا تعرُّض فيها لوقوعها بعد الإِقامة، ولا لكون الوقت وقت كراهة، وذلك لأنه من باب تلقِّي المُخَاطب بما لا يُتَرَقَّب، ولا يتأتَّى في ذكر السبب الواقعي، فحاصل الأول: أتجعل الصلاتين الموقَّتتين بوقتين في وقتٍ واحدٍ؟ وحينئذ يكون الإِنكار على عدم فَصْلِه زمانًا، ومحطُّه كراهة الجمع بين الصلاتين في وقتٍ واحدٍ. ويَصْلُحُ لعدم الفصل مكانًا أيضًا، فإِن «مع» كما في «القاموس»: تكون بمعنى «عند» أيضًا، فَيصِيرُ معناه: أتُصَلِّي صلاتين مكانهما على حِدَةٍ في مكانٍ واحدٍ؟ وحينئذٍ يفيد الطحاويّ.
وحمله ابن رُشْد على الاختلاف على الإمام، ولا يَظْهَرُ إلا إذا خالط الصفوف. وفي لفظ:«أَتُصَلِّي صلاةً واحدةً مرتين» ؟ يعني لكون هذا الوقت وقت الفرض، فإذا وصل غيره، فكأنه صلَّى فرضين، ومحطُّه كراهة تكرار الفريضة في نظر صاحب الشرع. ولمّا كان الشروع في حديث ابن بُحَيْنَة بعد الإقامة ألزمه بقوله: «آلصبح أربعًا؟ ومحطُّه كراهة جعل الثنائية أربعًا.
وتلك مسائل من غير هذا الباب تُلْمَحُ من عرض الكلام، تأتي كلُّها على فقه الحنفية. وسوق التعبير يَدُلُّ عليها كأنها مفروغٌ عنها في نظر الشارع، فبنى عليها التعبير كأنه مسلَّمٌ ومعلومٌ، وبها يتأتَّى الإِنكار. فإِن فَرَضْنَا أن لا كراهة في: الجمع بين الصلاتين، أو تكرار الفريضة مرتين، أو جعل الثنائية أربعًا، لا يكون في هذه العبارات رَدْعٌ وتوبيخٌ.
بقي قوله: (فلا إذن) قال الشافعي: معناه: فلا بأسَ إِذن، فدلَّ على جواز قضاء ركعتي الفجر إن لم يصلِّها قبل فرضه، وقال الحنفية رحمهم الله تعالى: معناه: فلا جوازَ إذن، إلا أنه لا يَظْهَرُ فيه منى الفاء، بخلاف ما اختاره الشافعية رحمهم الله تعالى، فإنها تكون فصيحةً. فتردَّدت لنظيره حتى وَجَدْتُ في «الكشاف» قُدِّرَ بمثله في قوله تعالى:{أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} [الطور: 15] دخلت الفاء فيها في موضع الإنكار. قال الزمخشري: معناه أمّا معجزاتُ الأنبياء عليهم السلام فكنتم تَزْعُمُونها سِحْرًا، فما تَنْظُرُون الآن من أهوال المحشر، فهي سِحْر أيضًا. وترجمته عندي (نهر بهى نهين). كما في الحديث: إنا كنا قد صلَّينا في