الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتفصيلُ المقام أَنَّ الأَسبابَ إمَّا ظاهرة أو معنوية والأُولَى معلومةٌ بالحسِّ والمشاهدةِ لا حاجةَ إلى التنبيه عليها، وإنَّما تدلُّ الشريعة على أسبابٍ معنويةٍ غير مدرَكة بالحسِّ، وهو الذي يليقُ بشأنِها، فدلَّت على أنَّ معدن الخير والسرور كلها هو الجنَّة، ومعدن المهالك والشرور كلها هو جهنَّم، فالخِزَّانة هي في الجنة والنَّار، وهذه الدارُ مركبة من أشياء المعدنين وليست بخِزَانة في نَفْسِها، فالحرارَة وإِنْ كانت في النَّظرِ الحسي مِنْ أَجْلِ الشمس، إلا أنَّها في النظر الغَيْبي كلها من معدنها، فإِذا رأيتهما أينما كان فهي من معدنها.
فإِنْ قُلْتَ إِنَّ الصيفَ والشتاءَ إذا دارا على النفسين، فينبغي ألا يكون شتاءً عند نفسِ الصيف وبالعكس مع أنَّهما يجتمعانِ في زمنٍ واحدٍ باعتبارِ اختلافِ البلاد. قلت: ولعلَّ تَنَفُّسها بحرِّها من جانب وإِرْسَالها إلى الآخر، فإِذا تَنَفَّس مِنْ جانب صارَ شتاءً وإلى جانب صار صيفًا؛ ولعلَّ الحرَّ والبردَ كيفيتان لا تتلاشيان أصلا بل إذا غَلَب الحرُّ دَفَعَ القَرِّ إلى باطنِ الأرض، وإذا غلب القَرُّ دَفَع الحرَّ، إلى باطنها، لا أَنَّ إِحدى الكيفتين تَنعَدِم عند ظُهورِ الأخرى، وهذا كما في الفَلْسَفَة الجديدةِ أَنَّ الحركاتِ كلَّها لا تَفْنَى بل تَنتَقِل إلى الحرارة. والأصوات كلُّها مِنْ بدء العالم إلى يومِنا هذا موجودة عندهم في الجو فالشيء بعد ما وجِدَ تأَبَّد عندَهم. وأَمَّا عند اليونانيين: فلا حَرارةَ عندهم في الأجسامِ الأثيرية ولا بُرودة.
تحقيق لطيف في حديث الإبراد
واعلم أنَّه عُلِّل الإِبراد بفيح جهنَّم فأشعر بكراهةِ الصَّلاة قَبْلَ الإِبرادِ، لأنَّ التسجيرِ مِنْ آثارِ غضبهِ تعالى، ولذا لا تسجر يوم الجمعة. وعند أبي داود مرفوعًا وصحح أبو داود إرسالَه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَرِه الصَّلاةَ نصفَ النَّهارِ إلا يوم الجمعة، وقال «إنَّ جهنم تُسْجَر إلا يوم الجمعة» . انتهى.
ولذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى إِنَّ النَّوافِل تصح يوم الجمعة عند نصف النَّهار أيضًا. فإِنْ قلتَ: إنَّ التَّسْجِير ينتهي بالزوالِ فلا كراهة بعده. قلتُ: ولكن يَبْقَى الفيح وإِنِ انتهَى التسْجِير، ولذا أُورِد الحديث: بلفظ «الفيح» وهو أيضًا أَثَر مِنَ التَّسْجِير فلا ينبغي المواجهة عند غضبه تعالى، لأنَّه تعرض لصلاته بالرَّد.
والحاصل: أَنَّا إِنْ نَظَرْنَا إلى التعليل فإِنَّه مُشْعِر بكراهَةِ الوقتِ، وإِنْ ذهبنا إلى عدمِ كراهتِه فلا يَرْتَبط به التعليل، لأنَّه ينبغي أَنْ يكون بأمرٍ حسي نحو قوله: فلا تتحملوا مشقةَ الحرِّ، ليكونَ إشارة إلى أَنَّ أمرَ الإِبرادِ للشفقةِ لا لمعنى في الوقت، بخلافِ الإِحالة إلى حهنَّم، فإِنَّه يوجِّهُ الدهنَ إلى كراهةٍ شرعية لا محالةَ، فإِنْ كان الأمرُ بالإِبراد على الشفقة، فلا كراهة في الصَّلاة بعد الزوال، وإنْ كان لمعنى شرعي ففيها ذلك.
والذي يتبين أَنّ ما هو من آثارِ الغضبِ هو التَّسْجِير دون الفيح، ولهذا المعنى نُهِيَ عن الصَّلاة عندما يستقِل الظِّل بالرمحِ، كما يدل عليه ما أخرجه مسلم: ثُمَّ اقْتُصِر عن الصَّلاةِ فإِنَّ حينئذ تَسْجُر جهنَّم، فإِذا قِيل الفيءُ فصلِّ. انتهى.
وفي حديثِ البابِ إحالة على الفيح دون التسجير، ولعلَّ الفيحَ من آثارِ الرحمة، لأنَّه من أَثَرِ تنفسِ جهنَّم، فلو كان الفيحُ من آثارِ الغضبِ، لَزِمَ أَنْ يكونَ موسمُ الصيف كلُّه أثرًا للغضب، فإِنَّ الصيفَ كلَّه من أجل فَيْحِ جهنم، وحينئذٍ لا تكون في الصَّلاةِ بعدَ الزوال كراهة أصلا، وإِنَّما أُمِرنا بالإِبراد شَفَقَة ورحمة. وحاصلُ التعليل: أَنِ اربعوا على أنفسكم فلا تصلوا في شِدَّةِ الحرِ التي تكون من أجل الفيح، فالتعليل بالحقيقة بشدة الحر وهو أمرٌ حسي فيكون مُشْعِرًا بكونِهِ للشفقة كما قررنا.
أما قوله: «مِنْ فيحِ جهنم» فبيان للسبب الغَيْبي للحرَارة، ولا دَخْلَ له في التعليل، ويؤيدهُ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد الزَّوالِ وقال:«ويفتح عند ذلك أبوابُ السماءِ فأُحِبُّ أَنْ يَصعَد لي فيه عَمَل» أو كما قال. فدلَّ على انتهاءِ أَثَرِ التسجيرِ بالزوال، وعدمِ كراهةٍ بعده، وأنَّ أَمْرَ الإِبراد لأجلِ الشفقة فقط. فإِنْ قلتَ: إذا كان في الصَّلاةِ عند التَّسجيرِ تعريضٌ لها بَرَدّها لكونِه مِنْ آثارِ غضبهِ تعالى، فكيفَ بصلاتِهِ صلى الله عليه وسلم عند رؤيةِ آثارِ الغضب، فإِنَّه كُلَّما كان يَرى مَهْيَعة بادرَ إلى الصَّلاةِ، وهذا يدلُّ على أَنَّ السنةَ عند غضبه تعالى، هو الالتجاءُ بالصَّلاة.
قلت: فهذه حالات قد تكون بالصَّلاةِ عند السُّخْطِ تعريض لها بالرَّد، وقد تكونُ بفعلها التجاء إليه، وهكذا هو في الدنيا، قد تكونُ عاقبةُ العبدِ بالانسلالِ عن مواجَهةِ مولاه، وقد تكونُ بالخدمةِ له والتملقِ إيَّاه، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم ههنا أيضًا على الحالات، فما كان من آثار غضبهِ كل يومٍ رأَى الملجأ منه بعَدَمِ المواجهةِ في ذلك الوقت، والتنكبِ إلى جانب، وما كان نادرًا لم يَرَ منه ملجأً إلا إليه، فهذه حالاتٌ تَشْهَدُ بها الفِطرَة السليمة.
ثمَّ اعلم أنَّ حديثَ الإِبرادِ حَمَله الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى على معنىً آخر، نقله الترمذي ما نصه: وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إنَّما الإِبرادُ بِصلاةِ الظهرِ، إذا كان مسجدًا ينتابه أهله من البعد، فأما المصلي وحده، والذي يُصَلِّي في مسجد قومِه، فالذي أُحِبُّ له أَنْ لا يُؤخِّر الصَّلاة في شدة الحرِّ. انتهى.
ولم يرض الترمذي بهذا التأويل مع كونِه شافعيًا، ولم يصرِّح بخلافِه مع إمامه في موضع من كتابه إلا هذا، فقال: قال أبو عيسى: ومعنى من ذهب إلى تأخير الظهر - وهم الحنفية رضي الله عنهم في شدَّةِ الحرِّ هو أولى وأشبه بالاتباع. وأمَّا ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى أَنَّ الرخصةَ لمن ينتابُ مِنَ البُعدِ وللمشقة على الناس فإِنَّ في حديث أبي ذرٍ ما يَدلُّ على خلافِ ما قال الشافعي رحمه الله تعالى - قال أبو ذر رضي الله عنه: كنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فأَذَّنَ بلال رضي الله عنه بصلاةِ الظُّهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم «يا بلال أَبْرِد ثُمَّ أبرد» . فلو كان الأمرُ على ما ذهبَ إليه الشافعي رحمه الله تعالى، لم يكن للإِبرادُ في ذلك الوقت معنىً، لاجتماعهم في السفرِ، وكانوا لا يحتاجون أنْ ينتابوا من البُعد. انتهى.
وقال الطحاوي: إنَّ تعجيلَ الظهرِ قد كان يُفعَل ثُمَّ نُسِخَ، وأَخْرجَ عن المُغِيرَةِ بن شُعْبَة قال صلَّى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الظُّهرِ بالهَجِير، ثمَّ قال: «إِنَّ شدَّة الحرِّ من فَيحِ جهنَّم، فأبردوا