الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأُمم السابقة أُهْلِكَت بعضُها بالإِغْرَاق وأُخْرَى بالقَذْفِ وأنواعٍ من العذاب، وهذه الأُمَّة لمَّا قُدِّر بقاؤها ابتُلِيَت بالفتن للتمْيِيز بين المُخلِص والمُنَافِق، فكان لا بُدَّ منها قال تعالى:{أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126]، ثُمَّ إنَّ المنافقين كانوا معروفين في عهدِ النَّبي صلى الله عليه وسلم يَعرِفُهم أكثرُ الصحابةِ رضي الله عنهم بأسمائِهم وأعيانِهم؛ إلا أَنَّ إقامة الشَّهادة عليهم واستباحة بيضتِهِم كان خلافُ المصلحةِ فأغمض عنهم لذلك، فانْدَفَعَ ما يختلجُ في الصُّدورِ.
525 -
قوله: (فتنةُ الرَّجُلِ في أهلِهِ ومالهِ) يعني أَنَّ الرَّجُلَ يَضْطَرُّ إلى إدخالِ النقائص في دينه من جهةِ هؤلاء؛ {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15].
قوله: (يكفرها الصلاة والصيام)
…
الخ فالصَّلاة والصَّوم عبادتان حقيقةً، ومكفِّرتان تبعًا.
شرح قوله: الصوم لي وأنا أجزي به وتحقيق أَنَّ الصومُ يُؤخذُ في كفارة أم لا
؟
واعلم أَنَّهم ذَكَروا لقوله صلى الله عليه وسلم «الصومُ لي
…
الخ» شروحًا عديدة استوعبها الحافظُ رحمه الله تعالى في «الفتح» ، ولم يَتَعرض أحدٌ إلى زيادة فيه أَخْرجَها البخاري وأحمد في «مسنده» ؛ ولمَّا كانت الجملة الأخيرة واقعة موقع الاستثناء لا يجوز الخوض في معناه قبل تعيين المُسْتَثنى، فلا بُدَّ علينا أَنْ نأتيك بتمام سياقه؛ ثم لنبحث عن معناه.
أخرجَ البخاري في باب ذِكْر النَّبي صلى الله عليه وسلم ورواية عن رَبِّه: «لكل عملٍ كفارة والصومُ لي وأنا أَجْزِي به» وفي «مسند أحمد» «كل عمل كفارة
…
الخ» والفرقُ بين اللفظينِ أَنَّ العملَ على لفظ البخاري من السيئات وكَفَّارته من الحسنات؛ والمعنى أَنَّ لكلِّ سيئةٍ من بني آدم كفَّارة من حسنة؛ وعلى لفظ «المُسْنَد» من الحسناتِ؛ فتكون كفارة للسيئات. والمعنى كلُّ حسنة تكونُ كفارة للسيئات، والجملة:«والصوم لي» على كِلا التقديرين وَقَع مَوقِع الاستثناءِ، يعني إلا الصومَ فإِنَّه لي وأنَا أجزي به.
والصواب عندي ما في «المُسْنَد» فصار الحديثُ هكذا: كل عمل كَفَّارة والصومُ لي وأنا أجزي به أي إلا الصوم فإِنَّه لي وأنا أجزي به كما هو في سياق آخر عندَهُ بلفظ الاستثناء هكذا: كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصوم فإِنَّه لي
…
الخ. فَدَلَّ الحديث على أَنَّ الحسنات كُلَّها تُؤْخَذ في الكفَّارات بخلافِ الصومِ فإِنَّه لا يُؤخذ به فيها، ولكِنَّه يُجزَى به لا محالَة، لكونِه له تعالى فهذه خاصةٌ للصوم دون سائر العبادات.
ويخالفه ما أخرجه الترمذي في باب شَأْنِ الحساب والقِصاص عن أبي هريرة رضي الله عنه: «المُفْلِس مِنْ أمتي مَنْ يأتي يومَ القِيامة بصَلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ ويأتي قد شَتَم هذا، وقَذَف هذا، وأَكَل مال هذا، وَسَفَك دم هذا، وضَرَب هذا، فيقعُدُ فيَقْتَص هذا مِنْ حسناتِه، وهذا من حسناته، فإِن فَنِيَت حسناتُه قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ ما عليه من الخطايا أُخِذ من خطايَاهم فَطُرِحَ عليه ثم
طُرِح في النار» انتهى. وهذا صريحٌ في أَنَّ الصيامَ أيضًا يُؤْخَذ في الكفارات كما تُؤْخَذ سائر العبادات.
والوجه فيه عندي: أَنَّ الرَّاوي خَلَطَ فيه بين السِّيَاقينِ، والصحيحُ ما في «الموطأ» لمالك عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:«والذي نفسِي بيده لَخَلُوفِ فَمِ الصَّائمِ أطيبُ عند الله مِنْ رِيح المِسْك إنَّما يَذر شهوتَهُ وطعامَهُ وشرابَهُ مِنْ أَجْلي فالصيامُ لي وأنا أجزي به؛ كلُّ حسنةٍ بعشرِ أمثالها إلى سبعمائةِ ضَعف إلا الصيام فهو لي وأَنَا أجزي به» انتهى. فدلَّ على أَنَّ الخصوصية في الصَّوم أَنَّهُ يَدَع فيه شهوتَه لأجلِه تعالى، وهو معنى قوله:«الصومُ لي» . كما تُشعر به الفاء بعد قوله: «إنَّما يَذر شهوتَهُ» ومعنى قوله: «وأنا أجزي به» ، أَنَّ أجره غير محدود، يعلمُه الله تعالى، بخلاف أجورِ سائرِ العبادات، فإِنَّها تضعف إلى سبع مئة ضعف. وهذا هو أَصْوَبُ الشُّروح. وما ذَكَرُوه كلها احتمالات، وما أَخرجه البخاري غيره الراوي فكان الاستثناء في الأَصلِ مِنْ تضعيفِ الثَّواب، فَنَقَلَهُ إلى تكفير العمل، فأوهم
(1)
أَنَّ الصيامَ لا يُؤْخَذ في الكفَّارَة؛ وعلى هذا ليس فيه ما يَدلُّ على خلافِ حديث الترمذي أَنَّ الصومَ لا يُؤْخَذ في الكفَّارة وإنَّما خفي مُراد حديثِ البخاري لاختلالٍ في سِيَاقِه كما علمت.
والحاصل: أَنَّ الحديثَ جاءَ على أربع:
سياق الأول: ما في البخاري: «لكل عملٍ كفارة» ؛ والثاني: ما في المسند «كل عمل كفارة» . والثالث: «كل عمل ابن آدم له» . والرابع: ما في «الموطأ» «كلُّ حسنةٍ بعشرٍ أمثالِها، إلا الصيام
…
الخ» وهذه القطعيات كُلُّها صحيحة عندي، ولعلَّه مِنْ بابِ حفظِهِ كل ما لم يحفظ الآخر، لا مِنْ بابِ الرِّواية بالمعنى، وأَحقُّ السِياق: كلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ له إلا الصوم، ووجه كونِه له، ما يَظْهَر مِنْ رِواية «الموطأ» وهو أَنَّ فيه تَرْك الأكلِ، والشربِ، والجماعِ، وليس ذلك في سائر العباداتِ غير الصوم، فإنَّ الصومَ عبارةٌ عن نفس تَرْكِ هذه الأشياء قصدًا، بخلافِ الصَّلاةِ والحج ونحوهِما مِنَ العبادات؛ فإنَّها ليس فيها تَفُويت الأكلِ، والشربِ، فإِنَّ الرَّجُل يأكلُ ثُمَّ يُصلِّي، ويُصَلِّي ثُمَّ يأكل؛ فليست الصَّلاةُ اسمًا لترك هذه الأشياء، وإنْ تَعَطَّلَ فيها عن بعض حوائِجه تلك المدة، والله تعالى أعلم.
قوله: (إذًا لا يُغْلَقَ) قال العلامةُ الكَافِيجي إِنَّ «إذن» و «أنْ» الناصبة شيء واحد، وجاز كتابتها بالتنوينِ أو النُّونِ.
قوله: (بالأغاليط) جمع أغلوطة، كلُّ شيء يلقي الناس في الغلط.
قوله: (مِنَ امرأة قُبْلة) وروايةُ البخاري تَدُلُّ على أَنَّ آية {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ} نزلت
(1)
قلتُ: وفي تقرير آخر للشيخِ عندي: أَنَّ الصِّيامَ إنَّما يُؤْخَذُ في كفارةِ المَظَالِمِ وحقوق النَّاسِ، كما هو عند الترمذي، لا في سيئاتِ نفسه، بخلافِ سائر الأنواعِ مِنَ العباداتِ، وحينئذٍ استقام سيَاقُ "المُسنَد" لأحمدَ أيضًا، إلا أن هذا الجواب سمعتُه في دَرْسِ الترمذي، وهو مكتوبٌ عندي على ما فَهِمْتُه منه.