الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووافق دخول عمرو الإسكندريّة عيدا فيها عظيما، يجتمع فيه سائر ملوكهم، وأبناء ملوكهم، وأشرافهم، ولهم [أكرة](1) من ذهب مكلّلة، يترامى بها ملوكهم، ويتلقونها بأكمامهم، فمن وقعت تلك الأكرة فى كمّه واستقرّت فيه لم يمت حتى يملكهم، فلما قدم عمرو أحضره الشمّاس معه للفرجة فى ذلك المجلس، ورمى بتلك الأكرة، فأقبلت تهوى حتى وقعت فى كمّ عمرو، فعجبوا من ذلك، وقالوا: ما كذبتنا أكرتنا قطّ إلاّ هذه المرّة: أترى هذا الأعرابى يملكنا؟ هذا ما لا يكون أبدا.
ثم إنّ ذلك الشمّاس وفى لعمرو بما قال له، وأعطاه ألف دينار، وأكرمه، وسيّره مع من وصله إلى أصحابه، فوفى أيضا عمرو لأصحابه، وشاطرهم المال كما ذكر، قال عمرو: فكان ذلك أوّل مال عقدته وملكته، وهذا سببه، والله أعلم.
ذكر فتح مصر على يد عمرو بن العاص
رضى الله عنه
قال (2): حدّثنا عثمان بن صالح، قال: حدّثنا ابن لهيعة، عن [عبيد الله](3) ابن أبى جعفر، وعيّاش بن عبّاس [القتبانى](4)، وغيرهما، يزيد بعضهم على بعض، قال: لمّا قدم عمر بن الخطّاب رضى الله عنه الجابية قام إليه عمرو ابن العاص، فخلا به، فقال:(170) يا أمير المؤمنين، ائذن لى أن أسير إلى مصر،
وحرّضه على ذلك، وقال له: إنّك إن فتحتها كانت قوّة للمسلمين، وعونا لهم، وهى أكثر الأرض أموالا، [وأعجزها](1) عن قتال وحرب، فتخوّف عمر رضى الله عنه على المسلمين، وكره ذلك، فلم يزل به عمرو يعظّم أمرها وأموالها، ويستصغر حرب أهلها وعجزهم، ويهوّن عليه أمرها، حتّى ركن لذلك عمر رضى الله عنه، فعقد له على أربعة آلاف، كلّهم من عك، ويقال بل ثلاثة آلاف وخمسمائة.
قال (2): حدّثنا أبو الأسود النضر بن عبد الله أو ابن عبد الجبّار-وهو الصحيح-، قال: حدّثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن [أبى حبيب](3) أنّ عمرو ابن العاص دخل مصر بثلاثة آلاف وخمسمائة، وأنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه قال له: سر وأنا مستخير الله تعالى فى سيرك، وسيأتيك كتابى سريعا إن شاء الله تعالى، فإن أدركك كتابى آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها، أو شيئا من أرضها، فانصرف قافلا، وإن أنت دخلتها قبل أن يأتيك كتابى فامض لوجهك، واستعن بالله واستنصره.
فسار عمرو ولم يشعر به أحد من الناس، واستخار عمر رضى الله عنه الله تعالى، فكأنّه تخوّف على المسلمين فى وجهتهم تلك، فكتب إلى عمرو بن العاص أن ينصرف بمن معه من المسلمين، فأدرك الكتاب عمرا وهو بمنزلة رفح، فتخوّف عمرو من أخذ الكتاب إن هو أخذه من الرسول وفتحه أن يجد فيه الانصراف كما عهد إليه عمر، فلم يأخذ الكتاب من الرسول، ودافعه، وسار
لوجهه حتى نزل قرية فيما بين رفح والعريش، فسأل عنها، فقيل: إنّها من مصر، فدعى بالكتاب فقرأه على المسلمين، فقال عمرو لمن معه: ألستم تعلمون أنّ هذه القرية من مصر؟ قالوا: بلى، قال: فإنّ أمير المؤمنين عهد إلىّ وأمرنى (171) إن لحقنى كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع، وإن كنت دخلت أرض مصر فأمضى لما ندبنى إليه، فسيروا بنا على بركة الله.
ويقال: بل كان عمرو بفلطسين، فتقدّم بأصحابه إلى مصر، بغير إذن عمر رضى الله عنه، فكتب إليه وهو دون العريش، فحبس الكتاب ولم يقرأه حتى بلغ العريش، فقرأه فإذا فيه: من عمر بن الخطاب إلى العاصى بن العاصى. أما بعد، فإنّك سرت بالمسلمين إلى مصر، وبها جموع الروم، وإنّما معك نفر يسير، ولعمرى لو كانوا [ثكل أمّك](1) ما سرت بهم، فإن لم تكن بلغت مصر فارجع، فقال عمرو: الحمد لله، أيّة أرض هذه؟ قالوا: مصر، فتقدّم على ما كان عليه، واتّفقت أكثر الروايات على مثل هذا الكلام وأنظاره.
وكان صفة عمرو بن العاص كما حدّث سعد بن عفير، عن الليث بن سعد، قصيرا، عظيم الهامة، ناتئ الجبهة، واسع الفم، عظيم اللحية، عريض ما بين المنكبين والقدمين، قال الليث بن سعد: يملأ هذا المسجد.
فلمّا بلغ المقوقس قدوم عمرو بن العاص إلى مصر، توجّه من الإسكندرّية إلى الفسطاط، فكان يجهّز العساكر، وكان على القصر رجل من الروم، يقال له الأعيرج واليا، وكان من تحت أمر المقوقس.
وأقبل عمرو حتى [إذا](1) كان بجبل الخلال [نفرت](2) معه راشدة وقبائل من لخم، فكان أوّل موضع قوتل فيه الفرما، قاتلته الروم قتالا شديدا نحوا من شهر، ثم فتح الله على يديه.
وكان عبد الله بن مسعود على ميمنة عمرو بن العاص، منذ توجّه من قيساريّة، إلى أن فرغ من حربه.
وعن مشائخ من أهل مصر قالوا: كان بالإسكندريّة أسقف القبط يقال له:
أبو ميامين (3)، فلمّا بلغه قدوم عمرو بن العاص إلى مصر، كتب إلى (172) القبط يعلمهم أن لا للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقّى عمرو ابن العاص، فيقال إنّ القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو عونا، قال عثمان فى حديثه: ثم توجّه عمرو فلا يدافع إلاّ بالأمر الخفيف، حتى نزل القواصر.
قال: حدّثنا عبد الملك بن المسلمة، قال: حدّثنا ابن وهب، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن شريح أنّه سمع شراحيل بن يزيد يحدّث عن أبى الحسين أنّه سمع من رجل من لخم يحدّث كريب بن أبرهة (4) قال: كنت أرعى غنما لأهلى [بالقواصر](5)، فنزل عمرو ومن معه، فدنوت إلى أقرب منازلهم، فإذا [بنفر](5) من القبط كنت قريبا منهم، فقال بعضهم لبعض: ألا تعجبون
من هؤلاء القوم، يقدمون على جموع الروم وإنّما هم قلّة من الناس فأجابه رجل آخر فقال: إنّ هؤلاء لا يتوجّهون [إلى أحد](1) إلاّ ويظهرون عليه، حتى يقتلوا خيرهم، قال: فقمت إليه فأخذت بتلابيبه، فقلت: أنت تقول هذا؟ انطلق معى إلى عمرو بن العاص حتى يسمع الذى قلت، فطلب إلىّ أصحابه حتى خلصوه، فرددت الغنم إلى منزلى، ثم جئت حتى دخلت فى القوم.
قال عثمان فى حديثه: فقدم عمرو ولا يدافع إلاّ بالأمر الخفيف، حتى أتى بلبيس، فقاتلوه بها قتالا شديدا، وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه يستمدّه، فأمدّه بأربعة آلاف، تمام ثمانية آلاف، فقاتلهم.
ثم رجع إلى حديث [ابن](1) وهب، عن عبد الرحمن بن شريح، عن شراحيل ابن يزيد، عن أبى الحسين أنّه سمع رجلا من لخم قال: فجاء رجل إلى عمرو ابن العاص فقال: اندب معى خيلا حتى آتى من ورائهم عند القتال، فأخرج معه (173) خمسمائة فارس، فساروا من وراء الجبل، حتى دخلوا مغار بنى وائل قبل الصبح، وكانت الروم قد خندقوا خندقا، وجعلوا له أبوابا، فثّبتوا (2) فى أقبيتها حسك الحديد، فالتقى القوم حين أصبحوا، وخرج اللخمى بمن معه من ورائهم، فانهزموا حتى دخلوا الحصن.
وقال غير ابن وهب: بعث خمسمائة عليهم خارجة بن حذافة، فلمّا كان وجه الصبح نهض القوم، فصلّوا الصبح، ثم ركبوا خيلهم، وغدا عمرو بن العاص على
القتال، فقاتلهم من [وجههم](1)، وحملت التى كانت من ورائهم، واقتحمت عليهم [فانهزموا](2).
قال ابن وهب فى حديثه: فسار عمرو حتى نزل على الحصن، فحاصرهم، حتى سألوه أن يسيّر منهم بضعة عشر أهل بيت [ويفتحوا](2) له الحصن، ففعل ذلك، ففرض عمرو لكلّ رجل من أصحابه [دينارا وجبّة](2) وبرنسا وعمامة وخفين، وسألوه أن [يهيّئوا له ولأصحابه صنيعا](3) ففعل.
قال عبد الرحمن: قال، حدّثنى أبو عبد الله بن عبد الحكم أنّ عمرو ابن العاص أمر أصحابه فتهيّئوا (4)، ولبسوا البرود، ثم أقبلوا قال [ابن] (5) وهب فى حديثه: وسألوه أن يصنعوا له طعاما ولأصحابه، فلمّا فرغ عمرو من طعامهم سألهم: كم أنفقتم؟ قالوا: عشرين ألف دينار، قال عمرو: لا حاجة لنا فى صنيعكم بعد اليوم، أدّوا إلينا عشرين ألف دينار، فجاءه نفر من القبط، فاستأذنوا إلى قراهم وأهلهم، فقال لهم عمرو: كيف رأيتم أمرنا! قالوا: لم نر إلاّ حسنا، فقال الرجل الذى قال فى المرّة الأولى ما قال لهم: إنّكم لن تزالوا تظهرون على كلّ من لقيتم حتى تقتلوا خيركم، فغضب عمرو وأمر به، فطلب إليه أصحابه وأخبروه أنّه لا يدرى ما يقول حتى خلّصوه، فلما بلغ عمرا قتل عمر بن الخطّاب رضى الله عنه
أرسل (174) فى طلب ذلك القبطى فوجده قد هلك، فعجب عمرو من كلامه، قال عمرو: فلمّا قتل عمر بن الخطّاب، قلت: هو ما قال القبطى، فلما حدّثت (1) إنّما قتله أبو لؤلؤة رجل نصرانى قلت: لم يعن هذا إنّما عنى من قتله المسلمون فلما قتل عثمان عرفت أنّما قال الرجل حقّ.
قال ابن وهب فى حديثه: فلمّا فرغ القبط من صنيعهم، أمر عمرو بن العاص بطعام، فصنع لهم من الثريد ولحم الأباعر، وجعل الأكارع على وجوه الجفان، وأمر أصحابه بلبس الأكسية، واشتمل الصماء، والقعود على الركب، فلمّا حضرت الروم وضعوا كراسىّ الديباج فجلسوا عليها، وجلست العرب إلى جوانبهم، فجعل الرجل من العرب يلتقم اللقمة من الثريد شبه البعير، وينهش من تلك الأكارع فيتطاير على من إلى جنبه من الروم، فيستغيث الرومى بذلك، وقالوا:
أين أولئك الذين كانوا أتونا قبل؟ فقيل لهم: أولئك أصحاب المشورة، وهؤلاء أصحاب الحرب (2).
وروى فتح القصر من وجه آخر فيه طول، فاختصرنا هذا، إذ القصد أن لا يخلو تأريخنا من واقعة جرت بطريق الاختصار، والله الموفق للصواب.
ولمّا طلب المقوقس من عمرو بن العاص رسلا يسمعون كلامه، أنفذ إليه عبادة بن الصامت، وكان شديد السواد، هائل الطول والمنظر، مع جماعة من المسلمين، فلمّا رآه المقوقس هابه وقال: قدّموا غير هذا يكلّمنى! فقالوا: هو