الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشام، فلمّا مضى لقيه رجال من الشام فقالوا: من أنت؟ قال: أمير على الشام، قالوا:
إن كان عثمان بن عفّان بعثك فأهلا بك، وإن كان غيره فارجع من حيث جئت، فرجع، وأمّا قيس بن سعد لمّا وصل إيلة فلقيه خيل، قالوا: من أنت؟ قال:
من [فالة](1) عثمان، فأنا أطلب من أوى إليه فأنتصر به، فمضى حتى (256) دخل مصر، فافترق الناس فرقا، حتى قتل محمّد بن أبى حذيفة، واستقرّ قيس بن سعد بمصر.
وفيها كانت وقعة الجمل بين علىّ وعائشة رضى الله عنهما.
ذكر نبذ ممّا جرى فى وقعة الجمل
كانت وقعة الجمل بين علىّ وطلحة والزبير وعائشة رضى الله عنهم يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ستّ وثلاثين، وذلك أنّ طلحة والزبير وعائشة لما قدموا تلقاهم الناس، وكان عثمان بن حنيف عامل علىّ عليه السلام على البصرة، فخرج إليهم فى جمع فتواقعوا، حتى زالت الشمس، ثم اصطلحوا، وكتبوا بينهم كتابا أن يكفّوا عن الحرب حتى يقدم علىّ عليه السلام وعلى أن يكون لعثمان بن حنيف الإمارة والصلاة وبيت المال.
فلمّا قدم علىّ عليه السلام وصحبته عمّار بن ياسر، ومعهما أهل الكوفة، وكان علىّ عليه السلام قبل خروجه من المدينة دخل بيت المال فوجد فيه مالا، فقسّمه بين النّاس، وساوى بينهم، وكنسه ونام فيه، وعزم على التوجّه إلى العراق لمّا بلغه خبر طلحة والزبير وعائشة رضى الله عنهم، فأشار عليه عبد الله بن سلاّم بلزوم المدينة، وقال له: أين تريد؟ قال: العراق، قال: عليك بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فالزمه، ولا أراه يحرّرك، والذى نفسى بيده لئن خرجت إلى العراق لا ترجع إلى منبر رسول الله فيما بقى، فكان كذلك، وأقام علىّ بالمدينة بعد المبايعة بالخلافة أربعة أشهر، ثم توجّه للعراق، والله أعلم.
فلمّا قدم علىّ عليه السلام ومعه عمّار بن ياسر، وكان قد أتى عليّا فى سبعة آلاف من أهل الكوفة، وكان علىّ فى أربعة آلاف من أهل المدينة، فقال عمّار:
والله إنّى لأعلم أنّ عائشة زوجته فى الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بهذا لتتّبعوه أو لتتّبعوها، وكان عمّار يوم الجمل على الخيل، والراية مع محمّد بن الحنفيّة، وعلى الميمنة الحسن، (257) وعلى الميسرة الحسين، وكان على الرجّالة محمّد بن أبى بكر الصدّيق.
ولمّا قدم علىّ عليه السلام البصرة، قال لعبد الله بن عبّاس: ائت الزبير، ولا تأت طلحة، فإن الزّبير ألين، وطلحة كالثور عاقص بقرنه، يركب الصّعوبة، ويقول هى أسهل (1)، فأقرئه منّى السّلام، وقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتنى بالحجاز، وأنكرتنى بالعراق؟ فما عدا [ممّا] بدا (2)، فلمّا أبلغه ابن عبّاس مقالة علىّ قال له الزّبير: قل له: بيننا وبينك عهد خليفة، ودم خليفة، واجتماع ثلاثة، وانفراد واحد، وأمّ مبرورة، ومشاورة العشيرة، ونشر المصاحف، نحلّ ما أحلّت، ونحرّم ما حرّمت، قال علىّ كرّم الله وجهه: ما زال الزبير منا أهل البيت حتى أدرك ولده عبد الله، فلفته عنّا.
وخطبت عائشة رضى الله عنها يوم الجمل، وكان فى عسكرها لغط، فقالت:
صه صه، فكأنّما قطعت الألسن فى الأفواه، فقالت: أيّها الناس، إن لى عليكم حقّ الأمومة، وحرمة الموعظة، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحرى ونحرى، وأنا إحدى نسائه فى الجنّة، ذخرنى له ربّى، وبى ميّز بين منافقكم ومؤمنكم، وإنّ أبى ثالث ثلاثة من المؤمنين، فهو ثالث الإسلام، وثانى اثنين فى الغار، وأوّل من سمّى صدّيقا، مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض، طوقّه طوق الإمامة، ثم اضطرب حبل الدين فمسك أبى بطرفيه، ورتق فتقه، وأغاض نبع الرّدة، وأطفأ ما أو قدت يهود، وأنتم يومئذ جحظ العيون، تنظرون الغدوة وتستمعون الصّيحة، رأب الثأى (1)، وأودم (2) الغلطة، وانتأش (3) من المهواة، واحتجن دفين الدواء، حتى أعطن (4) الوارد، وأورد الصادر، وعلّ الناهل، فقبضه الله عز وجل (258) واطئا على هامات النفاق، مذكيا نار الحرب للمشركين، فانتظمت طاعتكم بحبله، ثم ولّى أمركم رجلا مرعيا إذا ركن إليه، بعيد ما بين اللابتين، يقظان اللّيل فى نصرة الإسلام، فسلك مسلك السابق، وفرّق شمل الفتنة، وجمع أعضاد ما جمع القرآن، وأنا نصب المسألة عن مسيرى هذا، لم ألتمس فيه إثما، ولم أوطئكم فتنة، أقول قولى هذا، وأستغفر الله لى ولكم، وأسأله أن يصلّى على محمّد، وأن يخلفه فيكم بأفضل الخلافة، خلافة المرسلين.
وكتبت عائشة إلى أمّ سلمة رضى الله عنها كتابا تقول فيه: ولنعم المطلع مطلع فرّقت فيه بين فئتين متشاجرتين، فإن أقعد فعن غير حرج، وإن أمض فإلى ما لا غنى لى عن الازدياد منه.
وخطب علىّ عليه السلام يوم الجمل، فقال فى خطبته، بعد حمد الله تعالى والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم: أمّا بعد، فإنّ الله عز وجل بعث محمّدا صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين كافّة، والناس فى اختلاف، والعرب بشرّ المنازل، فرأب الله به الثأى، ولأم به الصدع، ورتق به الفتق، وأمّن به السّبل، وحقن به الدماء، وقطع به العداوة الواغرة للقلوب، والضغائن المخشّنة للصدور، ثم قبضه الله إليه مشكورا سعيه، مرضيّا عمله، مغفورا ذنبه، كريما عند الله نزله، فيالها مصيبة عمّت المسلمين، وخصّت الأقربين، وولى أبو بكر رضى الله عنه فسار بسيرة رضيها المسلمون، ثم ولى عمر فسار بسيرة أبى بكر رضى الله عنهما ثم ولى عثمان، فنال منكم ونلتم منه، حتّى إذا كان من أمره ما كان، أتيتموه فقتلتموه، ثم أتيتمونى فقلتم: بايعنا، فقلت:
لا أفعل، وقبضت يدى، فبسطتموها، ونازعتكم بكفّى، فجذبتموها، وقلتم:
لا نرضى إلاّ بك، ولا نجتمع إلاّ عليك، (259) وتداككتم علىّ تداكّ الإبل الهيم على حياضها يوم وردها، حتى ظننت أنّكم قاتلىّ، أو بعضكم قاتل بعضا، فبايعتمونى على الأمر، وبايعنى طلحة والزبير، فما لبثا أن استأذنانى إلى العمرة، فصارا إلى البصرة، ففعلا بها الأفاعيل، وهما يعلمان والله أنّى لست بدون واحد ممّن مضى، ولو أشاء أن أقول لقلت: الّلهمّ إنّهما قطعا قرابتى، ونكثا بيعتى، وألّبا علىّ عدوّى، الّلهمّ فلا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المسألة فيما عملا وأمّلا.
قال الحارث بن سويد، وكان يوم الجمل فى عسكر طلحة: والله ما رأيت مثل يوم الجمل، لقد أشرعوا رماحهم فى صدورنا، وأشرعنا رماحنا فى صدورهم، فلو شاءت الرجال أن تمشى عليها لمشت، يقول هؤلاء: لا إله إلاّ الله والله أكبر، ويقول الآخرون كذلك، فو الله لوددت أنّى لم أشهد الجمل، وأنّى أعمى مقطوع اليدين والرجلين.
وقال عبد الله بن سلمة: ما يسرّنى أن غبت عن ذلك اليوم، ولا عن مشهد شهده علىّ رضى الله عنه بحمر النعم.
وكان اسم جمل عائشة عسكرا، وكان يعلى بن منية وهبه لها، وجعل لها هودجا من حديد، وجهّز من ماله خمس مائة فارس بأسلحتهم وأزوادهم، وكان يعلى بن منية أكثر أهل البصرة مالا.
وكان علىّ يقول: بليت بأنضّ النّاس، وأنطق النّاس، وأطوع النّاس فى الناس (1)، يريد بأنضّ النّاس يعلى بن منية كان أكثرهم ناضا (2)، ويريد بأنطق الناس طلحة بن عبيد الله، وبأطوع النّاس فى النّاس عائشة رضى الله عنها، وروى أنّ عليّا كان يقول: بليت بأشجع النّاس، يعنى الزبير، وأسخى الناس، يعنى طلحة.
وكان كعب بن سور ممسكا زمام الجمل، فأتاه (260) سهم فقتله، فتعاقد النّاس الزّمام، كلّما أخذه واحد قتل، حتّى عدّ من قتل الزّمام سبعون رجلا، وقيل
قطعت عليه سبعون يدا، وشكّت السهام الجمل حتى صار كأنّه جناح نسر، وأخذ بزمامه رجل من بنى ضبّة وهو يقول:
نحن بنو ضبّة أصحاب الجمل
…
الموت أحلى عندنا من العسل
ننعى ابن عفّان بأطراف الأسل
…
ردّوا علينا شيخنا ثم بجل
ولمّا عقر الجمل، احتمل الهودج حتى وضع بين يدى علىّ، فأمر به فأدخل فى منزل عبد الله بن بديل، وكان الذى احتمله محمّد بن أبى بكر، أخا عائشة، وعمّار ابن ياسر، وكان علىّ قد دنا من الهودج، ولمّا سار إليه، فكلّم عائشة، فقالت له: ملكت فأسجح، فجّهزها وأحسن جهازها، وبعث معها أربعين امرأة، ويقال: جهّز معها سبعين امرأة، أكثرهم من نساء همدان، فلم يزالوا معها حتّى قدمت المدينة.
قال الشاعر ممّن شهد الجمل:
شهدت الحروب فشيبننى
…
فلم ترعينى كيوم الجمل (1)
أشدّ على مؤمن فتنة
…
وأقتل منه لخرق بطل (2)
فليت الظعينة فى بيتها
…
وليتك عسكر لم ترتحل
كنى بعسكر عن الجمل إذ كان اسمه.
قال قتادة: قتل يوم الجمل مع عائشة رضى الله عنها عشرون ألفا، منهم ثمانمائة من بنى ضبّة، وقتل من أصحاب علىّ خمسمائة.