الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر صفاته المعنويّة صلى الله عليه وسلم
عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: سألت عائشة رضى الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، وكان لا ينتقم لنفسه ولا يغضب لها إلاّ أن تنتهك حرمات الله عز وجل فيكون لله ينتقم، وإذا غضب لم يقم لغضبه أحد، وكان أشجع الناس وأجرأهم صدرا.
قال علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه: كنّا إذا اشتدّ البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان أسخى الناس وأجودهم، ما سئل قطّ شيئا فقال لا، وأجود ما كان فى شهر رمضان، وكان لا يبيت فى بيته دينار ولا درهم، فإن فضل ولم يجد من يعطيه وفجأه الليل لم يأو إلى منزله حتى يبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ ممّا آتاه الله إلاّ قوت أهله عاما فقط من أيسر ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك فى سبيل الله، ولا يدّخر لنفسه شيئا، ثمّ يؤثر (1) من قوت أهله حتّى ربّما احتاج قبل انقضاء العام.
وكان أصدق الناس لهجة، وأوفاهم بذمّة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، محقود محسود، لا عابس ولا مفند، فخما مفخّما (2)، وكان أحلم الناس، وأشدّ حياء من العذراء فى خدرها، لا يثبّت بصره فى وجه أحد، خافض لطرفه، نظره إلى الأرض (70) أطول من نظره إلى السماء، جلّ نظره الملاحظة.
وكان أكثر الناس تواضعا، يجيب من دعاه من غنىّ أو فقير، أو شريف أو دنئ، أو حرّ أو عبد، يصفّى الإناء للهرّة فما يرفعه حتى تروى رحمة لها، ويسمع بكاء الصغير وهو مع أمّه فى الصلاة فيخفّف رحمة لها.
وكان أعفّ الناس لم تمسّ يده امرأة قطّ لا يملك رقّها أو نكاحها أو تكون ذات رحم.
وكان أشدّ الناس كرامة لأصحابه، ما رؤى قطّ مادّا رجله بينهم، ويوسّع عليهم إذا ضاق المكان، ولم تكن ركبتاه تتقدّمان ركبة جليسه، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبّه، له رفقاء يحفّون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام.
وكان يقول: «لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنّما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» . وكان يتجمّل لأصحابه فضلا، ويقول:
«إنّ الله يحبّ من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيّأ لهم ويتجمّل» ، وكان يتفقّد أصحابه ويسأل عنهم؛ فمن كان مريضا عاده، ومن كان غائبا دعا له وتفقّد أهله، ومن مات استرجع فيه وأوسعه بالدعاء، ومن كان يتخوّف أن يكون وجد فى نفسه شيئا قال:«لعلّ فلانا وجد علينا فى شئ، أو رأى منّا تقصيرا، انطلقوا بنا إليه» . فينطلق حتى يأتيه فى منزله، وكان يخرج إلى بساتين أصحابه ويأكل ضيافة من أضافه فيها، ويتألّف أهل الشرف ويكرم أهل الفضل، ولا يطوى بشره عن أحد، ولا يجفو عليه، ولا يقبل الثناء إلاّ من مكافئ، ويقبل معذرة من يعتذر إليه، والقوىّ والضعيف والقريب والبعيد عنده فى الحقّ سواء.
وكان لا يدع أحدا يمشى خلفه ويقول: «خلّوا ظهرى للملائكة» ، ولا يدع أحدا يمشى معه وهو راكب حتى يحمله، فإن أبى قال: «تقدّمنى المكان
الذى (71) تريد»، وركب صلى الله عليه وسلم حمارا عريانا إلى قباء، وأبو هريرة معه، فقال:«يا أبا هريرة، أحملك» ؟ [فقال: ما شئت، فقال: «اركب»](1)، وكان فى أبى هريرة ثقل فوثب ليركب، فلم يقدر، فاستمسك برسول الله صلى الله عليه وسلم فوقعا جميعا، ثم ركب صلى الله عليه وسلم، فقال:«أحملك؟» فقال: ما شئت يا رسول الله، فقال:«اركب» ، فلم يقدر فاستمسك بالنبى صلى الله عليه وسلم فوقعا جميعا، ثم قال:
«يا أبا هريرة، أحملك؟» فقال: لا، والّذى بعثك بالحقّ لا صرعتك ثالثا.
وكان صلى الله عليه وسلم له عبيد وإماء لا يترفّع عليهم فى مأكل ولا ملبس ويخدم من خدمه، قال أنس رضى الله عنه: خدمت النبى صلى الله عليه وسلم نحوا من عشرين سنة فو الله ما صحبته فى سفر ولا حضر لأخدمه إلاّ وكانت خدمته لى أكثر من خدمتى له، وما قال لى أفّ قطّ، ولا لشئ فعلته لم فعلت كذا.
وكان صلى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره، فأمر بإصلاح شاة فقال رجل: يا رسول الله علىّ ذبحها، وقال آخر: وعلىّ سلخها، وقال آخر: وعلىّ طبخها، فقال صلى الله عليه وسلم:
«وعلىّ جمع الحطب» . فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك، فقال:«إنّ الله يكره من عبده أن يراه متميّزا بين أصحابه» ، وقام صلى الله عليه وسلم وجمع الحطب.
وكان صلى الله عليه وسلم فى سفر فنزل للصلاة، فتقدّم إلى مصلاّه، ثم كرّ راجعا، فقالوا: يا رسول الله أين تريد؟ قال: «أعقل ناقتى!» قالوا: نحن نكفيك! قال: «لا يستعن أحدكم بالناس ولو فى وصمة من سواك» .
وكان يوما جالسا يأكل هو وأصحابه تمرا، فجاء صهيب وقد غطّى على عينه
وهو أرمد، فسلّم وأهوى فى التمر يأكل، فقال صلى الله عليه وسلم:«تأكل الحلوى وأنت أرمد؟» فقال: يا رسول الله إنّما آكل بشقّ عينى الصحيحة.
(72)
وكان يأكل ذات يوم رطبا، فجاءه علىّ عليه السلام وهو أرمد، فدنا ليأكل فقال:«أتأ كل الحلوى وأنت أرمد؟» ، فتنحّى ناحية، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إليه، فرمى له برطبة ثم أخرى، حتى رمى إليه سبعا، فقال:«حسبك، فإنّه لا يضر من التمر ما أكل وترا» .
وأهدت إليه أمّ سلمة رضى الله عنها قصعة ثريد، وهو عند عائشة، فرمت بها عائشة وكسرتها، فجعل صلى الله عليه وسلم يجمع ذلك فى القصعة ويقول:«غارت أمّكم، غارت أمّكم» .
وحدّث صلى الله عليه وسلم ذات ليلة نساءه حديثا، فقالت امرأة منهم: كأنّ الحديث حديث خرافة، فقال صلى الله عليه وسلم:«أتدرون ما خرافة؟ إنّ خرافة كان رجلا فى عذرة، أسرته الجنّ فى الجاهليّة، فمكث فيهم دهرا، ثم ردّوه إلى الإنس، فكان يحدّث الناس بما رأى منهم من العجائب، فقال الناس: حديث خرافة» .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء، جزء لله، وجزء لنفسه وجزء لأهله، ثم جزّأ جزأه بينه وبين الناس، فيردّ ذلك بالخاصّة على العامّة.
وكان صلى الله عليه وسلم من سيرته فى جزء الأمّة إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمته على قدر فضلهم فى الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما يصلحهم، ويخبرهم بالذى ينبغى لهم، ويقول: «ليبلغ
الشاهد [منكم](1) الغائب وأبلغونى حاجة من لا يستطيع [إبلاغها، فإنّه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها](1) ثبّت الله قدميه يوم القيامة» لا يذكر عنده [إلاّ](1) ذلك ولا يقبل من أحد غيره، ويدخلون روّادا (2)، ولا [يتفرّقون](3) إلاّ ذواق (4)، ويخرجون أدلة، يعنى على الخير.
وكان صلى الله عليه وسلم يؤلّف أصحابه ولا ينفّرهم، [ويكرم كريم كلّ قوم](5) ويولّيه عليهم، والّذى يليه من النّاس خيارهم، أفضلهم عنده (73) أعمّهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة، ولا يجلس ولا يقوم إلاّ على ذكر، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهى به المجلس: ويأمر بذلك ويعطى كلّ جلسائه [نصيبه](6)، لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه ممّن جالسه، وإذا جلس أحد إليه لم يقم حتى يقوم الذى جلس إليه إلاّ إن استعجله أمر فيستأذنه، ولا يقابل أحدا بما يكره، ولا ضرب خادما قطّ ولا امرأة ولا أحدا إلاّ فى جهاد أو حدّ، ويصل ذا رحمه من غير أن يؤثره على من هو أفضل منه، ولا يجزى السيئة بمثلها بل يعفو ويصفح، وكان يعود المرضى، ويحبّ المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيرا لفقره، ولا يهاب ملكا لملكه، ويعظّم النعمة وإن قلّت، لا يذمّ منها شيئا، ويحفظ ويكرم ضعيفه ويبسط له رداءه.
وجاءته ظئره التى أرضعته يوما فبسط رداءه لها وقال: «مرحبا بأمّى» وأجلسها عليه.
وكان أكثر النّاس تبسّما وأحسنهم بشرا، مع أنّه كان متواصل الأحزان، دائم الفكرة، لا يمضى له وقت من غير عمل لله، لو فيما لا بدّ له. أو لأهله منه، ولا خيّر فى شيئين قطّ اختار أيسرهما، إلاّ أن يكون فى قطيعة رحم فيكون أبعد النّاس منه.
وكان يخصف نعله، ويرفّع ثوبه ويخدم فى مهنة أهله ويقطع اللّحم معهنّ.
ويركب الفرس والبغل والحمار، ويردف خلفه عبده أو غيره ويمسح وجه فرسه بطرف كمّه، أو بطرف ردائه، وكان يتوكّأ على العصى، وقال:«التوكّؤ على العصى من أخلاق الأنبياء» ، ورعى الغنم، وقال:«ما من نبىّ إلاّ وقد رعاها» .
وعقّ صلى الله عليه وسلم عن نفسه بعد ما جاءته النبوّة. وكان لا يدع العقيقة عن المولود من أهله، ويأمر بحلق رأسه (74) يوم السّابع، وأن يتصدّق عنه بزنته فضّة، وكان يحبّ الفأل، ويكره الطّيرة، ويقول:«ما منّا إلاّ من يجد فى نفسه، ولكن الله يذهبه بالتوكّل» .
وكان إذا جاءه ما يحبّ قال: {الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»} ، وإذا جاءه ما يكره قال:«الحمد لله على كل حال» ، وإذا رفع الطّعام من بين يديه قال:«الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وآوانا وجعلنا من المسلمين» ، وروى فيه:«الحمد لله حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه غير مودّع ولا مستغنى عنه ربّنا» ، وإذ عطس خفض صوته واستتر بيده أو بثوبه.
وكان يكثر الذّكر ويقلّ الّلغو ويطيل الصّلاة ويقصّر الخطبة ويستغفر فى المجلس الواحد مائة مرّة، وينام أوّل الليل، ثم يقوم من السحر ثم يوتر، ثم يأتى فراشه، فإذا سمع الأذان وثب، فإن كان جنبا أفاض عليه وإلاّ توضّأ وخرج إلى الصّلاة، وكان يصلّى قائما وربّما صلّى قاعدا، قالت عائشة رضى الله عنها:
لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى كان أكثر صلاته جالسا. وكان يسمع لجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء وهو فى الصّلاة.
وكان يصوم الاثنين والخميس، وثلاثة أيّام من كلّ شهر، وعاشوراء، وقلّ ما كان يفطر يوم الجمعة، وأكثر صيامه فى شعبان، وكانت تنام عيناه ولا ينام قلبه انتظارا للوحى، وإذا نام نفخ ولا يغطّ غطيطا، وإذا رأى فى منامه ما يروعه قال:«هو الله لا شريك له» ، وإذا أخذ مضجعه وضع كفّه اليمنى تحت خدّه، وقال:«ربّ قنى عذابك يوم تبعث عبادك» ، وكان يقول:
«الّلهمّ باسمك أموت وأحيا» ، وإذا استيقظ قال:«الحمد لله الذى أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» .
وكان إذا تكلّم بيّن كلامه حتى يحفظه من جلس إليه، ويعيد الكلمة ثلاثا لينقل عنه، ويخزن لسانه لا يتكلّم فى غير حاجة، ويتكلّم بجوامع الكلام، فضل لا فضول ولا تقصير.
(75)
وكان يتمثّل بشئ من الشعر، وكثيرا ما يتمثّل بقول:
ويأتيك بالأخبار من لا تزوّد (1)
…
أو بغير ذلك. وكان جلّ ضحكه التبسم، وربّما ضحك لشئ يعجبه حتى تبدو نواجذه صلى الله عليه وسلم من غير قهقهة.
وما عاب صلى الله عليه وسلم طعاما قطّ، إن اشتهاه أكله وإن لم يشته تركه، وكان لا يأكل متّكئا ولا على خوان، ولا يمتنع من مباح، ويأكل الهدّية ويكافئ عليها، ولا يأكل الصّدقة ولا يتأنّق فيما كان يأكل، يأكل ما وجد تمرا كان أو خبزا، وإن وجد شواء أكله وإن وجد لبنا اكتفى به، ولم يأكل خبزا مرقّقا حتى مات صلى الله عليه وسلم.
قال أبو هريرة: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدّنيا لم يشبع من خبز الشعير، وكان يأتى على آل محمّد الشّهر والشّهران لا يوقد فى بيت من بيوته نار، كان قوتهم التمر والماء، وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع، وقد أتاه الله مفاتيح خزائن الأرض، فأبى أن يقبلها واختار الآخرة عليها.
وكان يأتى عائشة فيقول: «عندك غذاء؟» فتقول: لا، فيقول:«إنىّ صائم» . فأتاها يوما، فقالت: يا رسول الله: أهدى لنا هدّية، قال:«وماهى؟» قالت: حسيا. قال: «أما إنّى أصبحت صائما» ، قالت، ثم أكل وأكل صلى الله عليه وسلم الخبز بالخلّ، وقال:«نعم الإدام الخلّ» ، وأكل لحم الدّجاج، ولحم الحبارى، وكان يحبّ الدّبّاء ويتبعه، ويعجبه الذراع من الشاة، وقال «إنّ أطيب اللحم لحم الظهر» ، وقال:«كلوا الزيت وادّهنوا به، فإنّه من شجرة مباركة» ، وكان يعجبه التفل، يعنى ما بقى من الطّعام، وكان يأكل بأصابعه الثلاثة ويلعقهم.
وعن سلمى زوجة أبى رافع أنّ الحسن وابن عبّاس وابن جعفر أتوها فقالوا:
اصنعى لنا طعاما ممّا كان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحسن أكله! فقالت:
إنّكم لا تشتهونه اليوم، قالوا: بلى، اصنعيه! قال: فقامت فطحنت شعيرا وجعلته فى قدر، وصبّت عليه شيئا من زيت، ودقّت الفلفل والتوابل وقرّبته إليهم، فقالت: هذا ما كان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحسن أكله.
وأكل صلى الله عليه وسلم خبز الشعير بالتمر، وقال: هذا أدم هذا، وأكل صلى الله عليه وسلم البطيخ بالرطب، والقثّاء بالرطب، والتّمر بالزبد. وكان يحبّ الحلوى والعسل، وكان يشرب قاعدا، وربّما شرب قائما، وتنفّس ثلاثا، وإذا فضل منه فضلة وأراد أن يسقيها بدأ بمن عن يمينه.
وشرب صلى الله عليه وسلم لبنا، وقال:«من أطعمه الله طعاما فليقل: اللهّم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه، ومن أسقاه الله لبنا فليقل: «اللهّم بارك لنا فيه وارزقنا منه» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«ليس شئ يجزى مكان الطعام والشراب غير اللبن» .
وكان صلى الله عليه وسلم يلبس الصوف وينتعل بالمخصوف، ولا يتأنّق فى ملبس، ويلبس ما وجد مرّة شملة، ومرّة بردا، ومرّة حبرة، ومرّة جبة صوف، وكان يلبس النعال السبتيّة (1)، ويتوضّأ فيها، وكان لنعليه قبالان، وأوّل من عقد عقدا واحدا عثمان، وكان أحبّ اللباس إليه الحبرة؛ وهى من برد اليمن، فيها حمرة وبياض، وكان أحبّ الثياب إليه القميص، وكان إذا استجدّ ثوبا سمّاه باسمه: عمامة أو قميصا أو بردا أو غير ذلك، يقول:«اللهمّ لك الحمد كما ألبستنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شرّه وشرّ ما صنع له» ، وكان تعجبه الثياب
الخضر، وكانت تكون قميصه مشدودة الأزرار، وكان يلبس الكساء الصوف وحده فيصلّى فيه، وربّما لبس الإزار الواحد ليس عليه غيره، يعقد طرفيه من كتفيه يصلّى فيه، وكان يلبس القلانس تحت العمائم ويلبسها دون (77) العمائم، ويلبس العمائم دونها، ويلبس القلانس ذات الآذان فى الحرب، وربّما نزع قلنسوته وجعلها سدّة بين يديه وصلّى إليها، وربّما مشى بلا قلنسوة ولا عمامة ولا رداء راجلا يعود المرضى كذلك فى أقصى المدينة، وكان يعتمّ ويسدل طرف عمامته بين كتفيه، وعن علىّ عليه السلام: عمّمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمامة وسدل طرفها على منكبى، وقال:«إنّ العمامة حاجز بين المسلمين والمشركين» .
وكان يلبس يوم الجمعة برده الأحمر، ويعتمّ، ويلبس خاتما من فضّة، فصّه منه، نقشه: محمّد رسول الله، فى خنصره الأيمن، وربّما لبسه فى الأيسر، ويجعل فصّه ممّا يلى باطن كفّه.
وكان صلى الله عليه وسلم يحبّ الطيب ويكره الريح الخبيثة، ويقول:«إنّ الله عز وجل حبّب إلىّ النسّاء والطّيب وجعل قرّة عينى فى الصّلاة» . وكان يتطيّب بالغالية والمسك حتى يرى وبيصه (1) فى مفارقه، ويتبخّر بالعود ويطرح معه الكافور، وكان يعرف فى الليلة المظلمة بطيب ريحه، وكان يكتحل بالإثمد فى كلّ ليلة فى كلّ عين، وربّما اكتحل ثلاثا فى اليمين واثنين فى اليسار، وربّما اكتحل وهو صائم، وكان يقول: عليكم بالإثمد فإنّه [يجلو (2)] البصر ويثبّت الشعر، وكان يكثر دهن رأسه ولحيته. وكان يترجّل غبّا (3)، وكان يحبّ التيمّن فى
ترجّله وتنعله وطهوره، وفى شأنه كلّه، وكان ينظر فى المرآة وربّما نظر فى الماء فى ركوة فى حجر عائشة وسوى جمته، وكان لا يفارقه فى سفره قارورة الدهن، والمكحلة، والمرآة، والمشط، والمقراض، والسواك، والخيوط والإبرة فيخيط بها ثيابه، ويخصف فعله.
وكان يستاك بالأراك، وكان إذا قام من النوم يشوّص فاه بالسواك فيستاك فى الليلة ثلاث مرار: قبل النوم، وعند القيام من النوم، وعند الخروج (78) إلى صلاة الصبح.
وكان يحتجم فى الأخدعين وبين الكتفين، واحتجم وهو محرم [بملل (1)] على ظهر القدم، وكان يحتجم لسبعة عشر وتسعة عشر وإحدى وعشرين.
وكان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلاّ حقّا، دخل يوما على أمّ سلمة وقد مات نغير (2) ابنها من أبى طلحة، [فقال له:«يا أبا عمير (3)]، ما فعل النّغير؟» وجاءته امرأة فقالت: يا رسول الله، احملنى على جمل، فقال:«أحملك على ولد النّاقة؟» فقالت:
لا يطيقنى، قال:«لا أحملك إلاّ على ولد النّاقة» . قالت: لا يطيقنى. فقال لها الناس: وهل الجمل إلاّ ولد الناقة؟ وجاءته أخرى فقالت: يا رسول الله إنّ زوجى مريض، وهو يدعوك، فقال:«لعلّ زوجك الذى فى عينيه بياض» .
فرجعت المرأة وفتحت عين زوجها لتنظر إليها، فقال: ما لك؟ فقالت: أخبرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فى عين زوجك بياضا، فقال: ويحك وهل أحد إلاّ وفى عينيه بياض؟ وجاءته أخرى فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يدخلنى الجنّة! فقال:
وقالت عائشة رضى الله عنها: سابقته ذات يوم فسبقته، فلمّا كثر لحمى سابقته فسبقنى، ثم ضرب كتفى، وقال:«هذه بتلك» وجاء صلى الله عليه وسلم إلى السوق من وراء ظهر رجل اسمه زاهر، وكان صلى الله عليه وسلم يحبّه، فوضع يده على عينيه، وما كان يعرف أنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال:«من يشترى [هذا] (2) العبد؟» فجعل يمسح ظهره برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: إذا تجدنى كاسدا يا رسول الله! فقال: «لكنّك عند ربّك لست بكاسد» ، ورأى صلى الله عليه وسلم حسينا مع صبية فى السكّة فتقدّم صلى الله عليه وسلم أمام القوم وطفق (79) الحسين يفرّ هاهنا وهاهنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضاحكه، حتى أخذه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه، والأخرى فوق رأسه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على عائشة رضى الله عنها والجوارى يلعبن عندها، فإذا رأينه تفرّقن فسيّرهن إليها، وقال لها يوما: وهى تلعب بلعبها:
«ما هذه يا عائشة» ؟ فقالت: خيل سليمان بن داود، فضحك وطلب الباب، فابتدرته واعتنقته، فقال:«ما لك يا حميراء» ؟ فقالت: بأبى أنت وأمّى يا رسول الله، ادع الله أن يغفر لى ما تقدّم من ذنبى وما تأخّر، قالت: فرفع يديه حتى بان بياض إبطيه، وقال:«الّلهمّ اغفر لعائشة بنت أبى بكر ظاهره وباطنه مغفرة لا تغادر ذنبا ولا تكسب بعده خطيئة ولا إثما» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «أفرحت
يا عائشة»؟ فقلت: إى والذى بعثك بالحقّ، فقال: أما والّذى بعثنى بالحقّ ما خصصتك بها من بين أمّتى، وإنّها لصلاتى لأمّتى فى الليل والنهار فيمن مضى منهم ومن بقى ومن هو آت إلى يوم القيامة، وأنا أدعو لهم والملائكة يؤمّنون على دعائى.
قلت: إنّ فى هذا الخبر من البشارة لأمّة محمّد صلى الله عليه وسلم ما يوجب أن يدعو لواضعه فى هذا التاريخ (1) بالعفو والمسامحة والآخرة الصالحة.
وكان صلى الله عليه وسلم خاتم النبيّين وسيّد المرسلين، وآتاه الله علم الأوّلين والآخرين ولا يحصى مناقبه أحد من العالمين، صلّى الله عليه وعلى آله أجمعين، وأصحابه صلاة دائمة إلى يوم الدين.
وأنشد الأمين العاصمى يقول:
يا جاعلا سنن النّبىّ
…
شعاره ودثاره
مستمسكا بحديثه
…
منتبّعا أخباره
[سنن الشّريعة خذ بها
…
متوسّما آثاره] (2)
وكذا الطّريقة فاقتبس
…
فى سبلها أنواره
هو قدوة لك فاتّخذ
…
فى السنّتين شعاره
قد كان يقرى ضيفه
…
كرما ويحفظ جاره
ويجالس المسكين يؤ
…
ثر قربه وجواره
الفقر كان رداءه
…
والجوع كان شعاره
يلقى [بغرّة ضاحك](1)
…
مستبشرا زوّاره
بسط الرداء كرامة
…
لكريم قوم زاره
ما كان مختالا ولا
…
مرحا يجرّ إزاره
قد كان يركب بالرّدي
…
ف من الخشوع حماره
فى مهنة هو [أو](2)
…
صلا
ة ليله ونهاره
فتراه يحلب شاة من
…
زله ويوقد ناره
ما زال كهف مهاجريه
…
ومكرما أنصاره
برّا بمحسنهم [مقي
…
لا] (3) للمسئ عثاره
يهب الّذى تجوى يدا
…
هـ لطالب إيثاره
زكّى عن الدّنيا الدّن
…
يّة ربّه مقداره
جعل الإله صلاته
…
أبدا عليه نثاره
فاختر من الأخلاق ما
…
كان الرّسول اختاره
لتعدّ سنّيا وتو
…
شك أن تبوّأ داره
صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
قلت: وأمّا المدائح الكريمة فى سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكثر من أن تحصى، وقد اعتنى بجمع ذلك الأمير علاء الدين علىّ بن أمير حاجب متولّى يومئذ