الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ما لخّص من ذكره صلى الله عليه وسلم
قال الزبير بن بكّار (1): حملت به أمّه عليه السلام-وهى آمنة بنت وهب ابن عبد مناف-أيّام التشريق فى شعب أبى طالب. وولد صلى الله عليه وسلم بمكّة فى دار محمّد بن يوسف أخى الحجّاج، وقيل بل شعب بنى هاشم، وذلك يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأوّل عام الفيل، وقيل لثمان خلون منه، وقيل لاثنتى عشرة ليلة خلت منه، وقيل لعشر خلون منه.
ووافق ولادته صلى الله عليه وسلم يوم عشرين من نيسان سنة اثنتين وثمانين وثمان مائة للإسكندر (2)، هذا المتّفق عليه.
ومات عبد الله أبوه وله من العمر خمس وعشرون سنة، وقيل ثلاثون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى بطن أمّه، وقيل إنّه مات بالمدينة ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شهران، (7) وقيل سبعة أشهر: وقيل بل كان له سنتان وأربعة أشهر. والمتّفق عليه أنّ عبد الله لم يره.
وماتت أمّه صلى الله عليه وسلم بالأبواء بين مكّة والمدينة، وعمره صلى الله عليه وسلم يومئذ أربع سنين، وقيل ثمان سنين. هذا جملة ما اختلفوا فيه.
وكفله بعد موت أبيه جدّه عبد المطّلب، قال محمّد بن ظفر (1): حدّثنى الأستاذ الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الوهّاب التميمى عن أبى محمّد الحسين المبارك بن عبد الجبّار الصيرفى، وهو ابن الطيورى، عن أبى محمّد الحسين ابن على الجوهرى، عن محمّد بن العبّاس بن حيويه، عن أبى القاسم عبد الوهّاب بن أبى حبّة، عن محمّد بن شجاع البلخى، عن أبى عبد الله محمّد ابن عمر الواقدى بإسناده أنّ شيبة الحمد، وهو عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف، كان يبسط له فراش إلى جوار الكعبة فيجلس عليه فى ظلّها، ويحدق فراشه بنوه وغيرهم من سادة أسرته، وكان الفراش يبسط ويجتمعون حوله قبل مجيئه، فيأتى النبىّ صلى الله عليه وسلم-وهو طفل-يدبّ ولا يثنيه عن الفراش شئ حتّى يجلس عليه، فيزيله أعمامه عنه، فيبكى حتى يردّوه إليه، فطلع عليهم عبد المطّلب يوما وقد أزالوه عن الفراش، فقال لهم: ردّوا ابنى إلى مجلسى، فإنّه يحدّث نفسه بملك عظيم، وسيكون له شأن. فكانوا بعد ذلك لا يردّونه عنه حضر عبد المطّلب أو لم يحضر.
ولمّا وفد عبد المطّلب على سيف بن ذى يزن فى سادة قريش يهنّونه بما
هيّأ الله له من هلاك الحبشة وملك العرب، هكذا يقول أكثر الرواة بأنّه سيف ابن ذى يزن، قلت: صحّحت ذلك أنّه معدى كرب بن سيف بن ذى يزن (1).
وعاد عبد المطّلب (2) إلى مكّة، وجلس على فراشه إلى جوار الكعبة، فأقبل النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو صغير يدرج (8) فقال عبد المطّلب: أفرجوا لابنى، ورماه ببصره حتى استقرّ على الفراش ثم أنشد عبد المطّلب:
أعيذه بالواحد
…
من شرّ كلّ حاسد
ثم قال: أنا أبو الحارث، ما رميت غرضا إلاّ أصبته، يريد ما تخطئ فراستى ولا يخيب ظنّى. فقال له ابنه الحارث: يا سيّد البطحاء، إنّك تقول قولا مضمّنا، فلو أوضحت، فقال: ستعلم يا أبا سفيان.
قلت: هذا الحديث يستدعى حديثين: فأحدهما معلق بقول عبد المطّلب:
أعيذه بالواحد، من شرّ كل حاسد. وهو أنّ آمنة بنت وهب أمّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أرسلت هى وقابلتها إلى عبد المطّلب، فى الليلة التى ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يأتى إليها، وكان عبد المطّلب إذ ذاك يطوف بالبيت، فأتاهما، فقالتا له:
يا أبا الحارث، ولد لك الساعة مولود له أمر عجيب، فذعر عبد المطّلب وقال:
أليس بشرا سويّا؟ فقالت له: بلى، ولكنّه سقط حين خرج إلى الدنيا خارّا
كالرجل الساجد، ثم [رفع](1) رأسه وإصبعه نحو السماء، لا تقدّر فيه رأسا ولا [فى](2) ذراع كفا، وخرج معه نور ملأ البيت، وجعلت النجوم تدنو حتى ظننّا أنّها ستقع علينا.
وقالت له آمنة: يا أبا الحارث، إنّى لمّا اشتدّ علىّ وجع المخاض كثرت الأيدى فى البيت، فلمّا خرج إلى الدنيا خرج معه نور رأيت فيه قصور بصرى، ولقد أتيت قبل أن ألده فى منامى، فقيل لى إنّك ستلدين سيّد هذه الأمّة، فإذا وقع إلى الأرض فقولى:
أعيذه بالواحد
…
من شرّ كلّ حاسد
وسمّيه محمّدا، فإنّ اسمه فى التوراة أحمد.
فقال عبد المطّلب: أخرجى لى ابنى، فلقد رأيتنى الساعة أطوف بالبيت، فرأيت البيت مال حتى قلت: سقط علىّ، ثم استوى منتصبا، وسمعت من تلقائه قائلا يقول:(9) الآن طهّرنى ربّى، وسقط هبل على رأسه، فجعلت أمسح عينى وأقول إنّما أنا نائم. فأخرجته آمنة إلى عبد المطّلب، فانطلق به إلى الكعبة، وطاف به أسبوعا، ثم قام به عند الملتزم، وجعل يقول:
يا ربّ كلّ طائف وهاجد
…
وربّ كلّ غائب وشاهد
أدعوك والليل طفوح راكد
لاهمّ فاصرف عنه كيد الكائد
…
واحطم به كلّ عدوّ ضاهد
وأنشه ما خلد الأوابد
…
فى سؤدد راس وحدّ صاعد (1)
قلت: وفى هذا الرجز من الغريب قوله: هاجد، وهو النائم، وقوله: طفوح، وهو الممتلئ الذى بلغ غاية الملء حتى طفح، وقوله: راكد، وهو الثابت الدائم، وقوله: لا همّ، أى اللهمّ، وقوله: واحطم به، أى اكسر به، وقوله: ضاهد، الضاهد، هو الظالم المغتصب القاهر، وقوله: الأوابد، هى الوحش، والعرب تضرب المثل: بقيت ما بقيت الأوابد.
هذا الحديث الأوّل، فأمّا الحديث الآخر، فيتعلّق بقولنا إنّ ابن ذى يزن بشّر عبد المطّلب بالنبىّ صلى الله عليه وسلم، وهو ما رواه محمّد بن ظفر (2) بإسناد بلغ به أبا صالح السّمان، أنّ ابن عبّاس قال: لمّا ظهر سيف بن ذى يزن على الحبشة
وفد عليه أشراف العرب وشعراؤهم وخطباؤهم ليشكروه على عطائه وأخذه بثأر قومه، ويهنّونه بما صار إليه من الملك. وقدم عليه وفد قريش منهم عبد المطّلب بن هاشم وأميّة بن عبد شمس وغيرهما، فاستأذنوا عليه وهو فى رأس غمدان، وهو قصر بصنعاء، فأذن لهم، فدخلوا عليه، فإذا هو مضمّخ بالمسك وعليه بردان، والتاج على رأسه، وسيفه بين يديه، وملوك حمير عن يمينه وشماله، فاستأذنه عبد المطّلب فى الكلام، فقال له: إن كنت ممّن يتكلّم بين يدى الملوك فقد أذنّا لك، (10) فقال عبد المطّلب: إن الله أحلّك أيّها الملك محلاّ صعبا باذخا، منيعا شامحا، وأنبتك نباتا طابت أرومته، وعزّت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه، بأكرم معدن وأطيب موطن، فأنت-أبيت اللعن-ملك العرب الذى إليه تنقاد، وعمودها الذى عليه الاعتماد، وسائسها الذى بيده القياد، سلفك خير سلف، وأنت لنا منهم نعم خلف، ولن يجهل من هم سلفه (1)، ولم يهلك من أنت خلفه، نحن أيّها الملك أهل حرم الله وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذى أبهجنا من كشفك للكرب الذى فدحنا. فقال له الملك: من أنت أيها المتكلّم؟ فقال: أنا عبد المطّلب بن هاشم.
قال: ابن أختنا؟ قال: نعم. فأقبل عليه من بين القوم، فقال: مرحبا وأهلا،
وناقة رحلا، ومستناخا سهلا، وملكا ربحلا (1)، يعطى عطاء جزلا، قد سمع السلطان (2) مقالتكم، وعرف فراستكم، أنتم أهل الليل والنهار، لكم الكرامة ما أقمتم والجياد (3) إذا ظعنتم.
ثم أمر بهم إلى دار الضيافة وأجرى عليهم الأنزال، وأقاموا شهرا لا يؤذن لهم ولا يصلون إليه، ثم إنّه انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبد المطّلب خاصّة، فأتاه وأخلاه ثم قال له: إنّى مفض إليك من سرّى وعلمى بشئ لو غيرك كان لم أبح به له، ولكنّى رأيتك أهله وموضعه، فليكن عندك مطويّا حتى يأذن الله فيه أمره: إنّى أجد فى الكتاب الناطق، والعلم الصادق، الذى اخترناه لأنفسنا، واحتجنّاه دون غيرنا، خيرا عظيما، وخبرا جسيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاة، للناس كافّة، ولقومك عامّة، ولك خاصّة.
فقال عبد المطّلب: أبيت اللعن أيّها الملك، لقد أبت بخير ما آب به وافد، ولولا هيبة الملك وإجلاله لسألته من كشف بشارته إيّاى ما أزداد به سرورا.
فقال الملك: نبىّ (11) هذا حينه الذى يولد فيه، اسمه محمّد، خدلج الساقين، أنجل العينين، فى عينيه علامة، وبين كتفيه شامة، أبيض كأنّ وجهه فلقة قمر، يموت أبوه وأمّه، ويكفله جدّه وعمّه، قد ولدناه مرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منّا أنصارا، يعزّ بهم أولياءه، ويدك بهم أعداءه، يضربون دونه
الناس عن عرض (1)، ويستفتح (2) بهم كرائم الأرض، يكسّر الأوثان، ويعبد الرحمن، ويخمد النيران، ويدحر الشيطان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
فقال عبد المطّلب: عزّ جدّك، وعلا كعبك، وطال عمرك، هل الملك سارّى بإفصاح؟، فقد أوضح لى بعض الإيضاح، فقال له الملك: والبيت ذى الحجب، والعلامات على النصب، إنّك يا عبد المطّلب، لجدّه غير الكذب.
فخرّ عبد المطّلب ساجدا ثم رفع رأسه، فقال له الملك: ثلج صدرك، وعلا أمرك، وبلغ أملك فى عقبك، هل أحسست بشئ ممّا ذكرت لك؟
قال: نعم، أبيت اللعن، كان لى ابن كنت عليه مشفقا، وبه رفيقا، فزوّجته كريمة من كرائم قومى، آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فجاءت بغلام سمّيته محمّدا، خدلج الساقين، أكحل العينين، بين كتفيه شامة، وفيه كلّما قلت من علامة.
فقال الملك: إنّ الذى قلت لكما قلت، فاحتفظ بابنك، واحذر عليه اليهود، فإنّهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، والله مظهر دعوته، وناصر شيعته، فأغض على ما ذكرت لك، واستره دون هؤلاء الرهط الذين معك، فلست آمن أن تدخلهم النفاسة، من أن تكون لكم الرياسة (3)،
فينصبوا لك (1) الحبائل، ويطلبوا لك (1) الغوائل، وهم فاعلون أو أبناؤهم، وإن عزّه لباهر، وإنّ حظّهم به لوافر، ولولا علمى أنّ الموت مجتاحى قبل مخرجه لسرت إليه بخيلى ورجلى، وصيّرت يثرب دار ملكى، حيث يكون بها مهاجرته، فأكون أخاه ووزيره، وصاحبه وظهيره، على من كاده وأراده، فإنّى أجد فى الكتاب المكنون، والعلم المخزون، أنّ بيثرب (2) استحكام أمره، وأهل نصره (3)، وارتفاع ذكره، وموضع قبره، ولولا الدمامة، بعد الزعامة، وصغر السنّ لأظهرت أمره وأوطأت العرب كعبه، على صغر سنّه، ولكنّى صارف (4) ذلك إليك من غير تقصير بك وبمن معك.
ثم أمر لكلّ رجل من القوم بعشرة أعبد، وعشر إماء سود، وحلّتين من حلل البرود، وعشرة أرطال من فضّة، وخمسة من ذهب، وكرش (5) مملوءة عنبرا.
أمر لعبد المطّلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال: يا عبد المطّلب، إذا كان رأس الحول فأتنى بخبره وما يكون من أمره، فمات الملك قبل أن يحول الحول فكان عبد المطّلب يقول لأصحابه: لا يغبطنى أحد منكم بجزيل عطاء الملك، ولكن يغبطنى بما أسرّه إلىّ، فيقال له: ما هو؟ فيسكت (6).
قلت: قد اشتمل هذا الحديث على ألفاظ لغوية مشكلة، هذا بيانها:
قوله: شامخا وباذخا، هما جميعا المرتفع العالى.
وقوله: طابت أرومته، الأرومة هى الأصل، وهى فى الحقيقة التراب المجتمع المرتفع يكون فى أصول الشجر ونحوها.
وقوله: بسق، معناه علا وارتفع.
وقوله: أبيت اللعن، هذه كلمة كانت العرب تحيّى بها ملوكها فى الجاهليّة، واللعن هو الإبعاد، فقيل المعنى أنّك أبيت أن تأتى أمرا تلعن من أجله، وهذا عندى بعيد، وأظنّ المعنى أنّك أبيت أن تلعن وافدك وقاصدك (13) أى أبيت أن تبعده.
وقوله: سدنة بيته، أى خدمته وحجبته.
وقوله: وتحمّلنا منه ما لا نطيقه، يعنى غلبة الحبشة على بلاد العرب.
وقوله: ملكا ربحلا، الربحل هو الضخم الطويل، وإنّما كنّى به عن عظم القدر.
وقوله: عطاء جزلا، الجزل هو الغليظ والكبير من كلّ شئ.
وقوله: احتجنّاه، أى ضممناه إلى أنفسنا وصنّاه عن غيرنا.
وقوله: خدلج الساقين، أى ممتلئهما.
وقوله: أنجل العينين، أى واسعهما.
وقوله: فى عينيه علامة، يعنى الشكلة، وهى حمرة تمازج البياض، فكانت فى عينى النبىّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: يضربون الناس عن عرض، أى يضربون فى عرض لهم دونه، ولا يبالون من لقوا، ولا يحابون أحدا فيه، وعرض الشئ ناحية منه.
وقوله: يخمد النيران، يعنى نيران فارس التى يعبدونها، أخمدها الله برسوله صلى الله عليه وسلم فأذهب ملكهم.
وقوله: يدحر الشيطان، معناه يبعده.
وقوله: على النصب هى أعلام حجارة منصوبة كانت للقبائل فى الجاهليّة، يذبح عندها ويلطّخونها بالدماء.
وقوله: أغض على ما ذكرت، أى أخفه وأسرّه، وأصل الإغضاء مقاربة ما بين الجفون.
وقوله: ثلج صدرك، أى برد، وهى كلمة يكنّى بها عن حصول اليقين.
وقوله: النفاسة، وهى نوع من الحسد على الشئ النفيس.
وقوله: الغوائل، هى المهلكات.
وقوله: مجتاحى، أى مستأصلّى بالهلكة.
وقوله: الدمامة، هى الصغر.
وقوله: الزعامة، هى السيادة والرياسة.
وقوله: يغبطنى، أى يحسدنى، والغبط والنفاسة وإن كانا من الحسد فقد يكون لهما وجه ببيحهما الشرع، والفرق بين الغبطة والحسد، أنّ الغابط يودّ أن يكون له مثل نعمة المغبوط من غير أن ينقص من نعمته شئ، وهو الذى يبيحه الشرع المطهر، والحاسد الذى يودّ أن تزول نعمة المحسود من غير أن يناله منها شئ (14) وهو الذى يحرّمه الشرع.
وهذا الحديث هو الباعث لعبد المطّلب على أن قال: أنا أبو الحارث ما رميت غرضا إلا أصبته. يريد أن الذى كان يتفرّس فى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظنّه به قد صحّ عنده بما أخبره به الملك من أمره.
الحديث الثانى: أنّ حليمة بنت أبى ذؤيب (1) السعديّة وهى ظئر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظئر هى المرضعة، قالت: قدم علينا قائف، تعنى رجلا متفرّسا، لا تخطئ فراسته، والقافة قوم بأعيانهم من بنى مدلج، يتوارثون القيافة، وإنّما سمّوا قافة لأنّهم يقفون الشبه الذى يتبعونه، وكانت العرب تقضى بأحكام القافة إذا ألحقوا رجلا بقوم أو نفوه عنهم عملوا على ما قالوه: والمشرّع حكم فى القضاء بقولهم فى قضيّة مخصوصة (2) ليس هذا موضع ذكرها.
قالت حليمة: فانطلق الناس بأولادهم إلى ذلك القائف، فلمّا نظر القائف إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم أخذه فقبّله، ثم قال: ما ينبغى لهذا الغلام أن يكون فى بنى سعد، فقال له الحارث (3): صدقت، وهو مسترضع فينا، وهو ابنى من الرضاعة، فقال القائف: ارددوه على أهله، فإنّ له شأنا عظيما، وستفترق فيه العرب، ثم تجتمع عليه.
ونحو ذلك ما روى من حديث جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه، قال:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام يلعب، فرآه قوم من بنى مدلج، فرعوه بنظرهم ونظروا إلى قدميه، وفقده عبد المطّلب، فخرج فى طلبه حتى انتهى إليهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيديهم وهم يتأمّلونه، فقالوا له: احتفظ به فما رأينا قدما
أشبه بالقدمين اللتين فى المقام من قدميه، يعنون أثر إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وسلّم (1).
ونحو ذلك ما روى بإسناد متّصل يبلغ به شدّاد بن أوس (2)، أنّه حدّث أنّ رجلا من الكهّان ضمّ النبىّ صلى الله عليه وسلم إلى صدره، ثم نادى بأعلى صوته:
يال العرب، يال العرب. . . اقتلوا هذا الغلام واقتلونى معه، فو اللاّت والعزّى لئن تركتموه وأدرك ليبدّلنّ دينكم وليسفّهنّ أحلامكم وعقول آبائكم، وليخالفنّ أمركم، وليأتينّكم بدين لم تسمعوا بمثله.
وعن شدّاد بن أوس أيضا قال: بينما نحن جلوس مع النبىّ صلى الله عليه وسلم أقبل شيخ من بنى عامر وهو مدره قومه يعنى الدافع عنهم بمقاله وفعاله، يتوكّأ على عصا، فمثل بين يدى النبى صلى الله عليه وسلم ونسبه إلى جدّه، فقال: يا بن عبد المطّلب، إنّى أنبئت أنّك تزعم أنّك رسول الله إلى الناس، أرسلك بما أرسل به إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، ألا وإنّك فوّهت بأمر عظيم، وإنّما كانت الأنبياء والخلفاء فى بيتين من بنى إسرائيل، وأنت ممّن يعبد هذه الحجارة والأوثان، فما لك والنبوّة، ولكن لكلّ حقّ حقيقة مأتنى بحقيقة ذلك وبدء شأنك
قال: فأعجب النبىّ صلى الله عليه وسلم مسألته، وقال: يا أخا بنى عامر، إنّ لهذا الحديث الذى تسألنى عنه نبأ. فجلس فثنى رجله، ثم برك كما يبرك البعير، فاستقبله النبىّ صلى الله عليه وسلم بالحديث، فقال: يا أخا بنى عامر، إنّ حقيقة قولى وبدء شأنى
أنّى دعوة (1) أبى إبراهيم، وبشرى (2) أخى عيسى، وأنّى كنت بكر أبى وأمّى، وأنّها حملتنى كأثقل ما تحمل النساء، وجعلت تشتكى إلى صواحبها ثقل ما تجد، ثم إنّ أمّى رأت فى المنام أنّ الذى فى بطنها خرج نورا، قالت:
فجعلت أتبع بصرى النور، والنور يسبق بصرى حتى أضات لى مشارق الأرض ومغاربها، ثم إنّها ولدتنى فنشأت وقد بغّضت لى الأوثان وبغّض إلىّ الشعر، وكنت مسترضعا فى بنى سعد بن بكر، فبينا أنا ذات يوم منتبذ (3)(16) عن أهلى فى بطن واد مع أتراب لى من الصبيان إذ أنا برهط ثلاثة بادية، معهم طست من ذهب ملآن ثلجا، فأخذونى من بين أصحابى، فخرج أصحابى هرّابا حتى انتهوا إلى شفير الوادى، ثم أقبلوا على الرهط، فقالوا: ما أربكم إلى هذا الغلام فإنّه ليس منّا، هذا ابن سيّد قريش، وهو مسترضع فينا، غلام يتيم ليس له أب، فماذا يردّ عليكم قتله، وماذا تصيبون من ذلك؟ فإن كنتم لا بدّ قاتليه فاختاروا منّا أيّنا شئتم فليأتكم مكانه فاقتلوه ودعوا هذا الغلام، فإنّه يتيم.
فلمّا رأى الغلمان أن القوم لا يحيرون جوابا انطلقوا هرّابا مسرعين إلى الحىّ يؤذنونهم ويستصرخون بهم.
فعمد أحدهم فأضجعنى إلى الأرض إضجاعا لطيفا ثم شقّ بطنى ما بين مفرق
صدرى إلى منتهى عانتى، وأنا أنظر إليه لم أجد لذلك مسّا، ثم أخرج أحشاء بطنى ثم غسلها بذلك الثلج وأنعم غسلها ثم أعادها مكانها.
ثم قام الثانى منهم، فقال لصاحبه: تنحّ، فنحّاه عنّى ثم أدخل يده فى جوفى فأخرج قلبى وأنا أنظر إليه، فصدعه، ثم أخرج منه مضغة سوداء ثم رمى بها ثم مال بيده يمنة منه كأنّه يتناول شيئا، فإذا بخاتم من نور يحار الناظر دونه فختم به قلبى فامتلأ نورا، وذلك نور النبوّة والحكمة، ثم أعاده مكانه، فوجدت برد ذلك الخاتم فى قلبى دهرا.
ثم قال الثالث: تنحّ، فنحّاه عنّى ثمّ أمرّ بيده ما بين مفرق صدرى إلى منتهى عانتى فالتأم ذلك الشقّ بإذن الله تعالى، ثم أخذ بيدى فأنهضنى من مكانى إنهاضا خفيفا، ثم قال للأوّل الذى شقّ بطنى: زنه بعشرين من أمّته! فوزننى فرجحت، ثم قال: زنه بمائة من أمّته! فوزننى فرجحتهم، فقال: دعه! فلو وزنتموه بأمّته كلّهم لرجحهم.
قال: ثم ضمّونى إلى صدورهم، وقبّلوا رأسى وما بين عينىّ، يعنى (17) الملائكة، وقالوا: لا ترع، فإنّك لو تدرى ما يراد بك من الخير لقرّت عينك، قال: فبينا نحن كذلك إذ أقبل الحىّ بحذافيرهم، وظئرى أمام الحىّ تهنف بأعلى صوتها، وتقول: يا ضعيفاه!
قال: فانكبّوا علىّ وضمّونى إلى صدورهم وقبّلوا رأسى وبين عينىّ، يعنى الملائكة، وقالوا: حبّذا أنت من ضعيف، ثم قالت ظئرى: يا وحيداه! قال: فانكبّوا علىّ وضمّونى إلى صدورهم وقبّلوا رأسى وما بين عينىّ، يعنى الملائكة، وقالوا: حبّذا أنت من وحيد، وما أنت بوحيد، إنّ الله معك
وملائكته والمؤمنين من أهل الأرض، ثم قالت ظئرى: يا يتيماه، استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك، قال: فانكبّوا علىّ وضمّونى إلى صدورهم، وقبّلوا رأسى وما بين عينىّ، يعنى الملائكة، وقالوا: حبّذا أنت من يتيم، ما أكرمك على الله، لو تعلم ما يراد بك من الخير لقرّت عيناك.
قال صلى الله عليه وسلم: فوصلوا إلى شفير الوادى، يعنى الحىّ، قال: فلمّا أبصرتنى ظئرى، يعنى مرضعته، قالت: ألا أراك حيّا بعد؟ فجاءت انكبّت علىّ ثم ضمّتنى إليها وإنّ يدى لفى يد بعضهم، يعنى الملائكة.
قال: فجعلت أنظر إليهم، فظننت أنّ القوم ينظرونهم، فقال بعض القوم:
إنّ هذا الغلام قد أصابه لمم أو طائف من الجنّ، فانطلقوا به إلى كاهننا ينظر إليه ويداويه. قال النبىّ صلى الله عليه وسلم: فقلت: يا هذا ما بى شئ ممّا تذكرون، إنّى أرانى سليما، وفؤادى صحيح، ليس بى غلبة، فقال أبى-وهو زوج ظئرى-:
ألا ترون كلامه كلاما صحيحا، إنّى لأرجو أن لا يكون با بنى بأس.
فاتّفقوا على أن يذهبوا بى إليه (1)، فلمّا قصّوا عليه قصّتى قال: اسكتوا حتى أسمع من الغلام فإنّه أعلم بأمره منكم. فسألنى فقصصت عليه أمرى من أوّله إلى آخره، فوثب إلىّ وضمّنى إلى صدره ونادى بأعلا صوته: يا للعرب، يا للعرب (18) اقتلوا هذا الغلام واقتلونى معه، فو اللاّت والعزّى لئن تركتموه وأدرك ليبدّلنّ دينكم وليسفّهنّ عقولكم وعقول آبائكم وليخالفنّ أموركم وليأتينّكم بدين لم تسمعوا بمثله.
فعمدت ظئرى فانتزعتنى من حجره، وقالت: لأنت أعته وأجنّ، ولو
علمت هذا من قولك لما أتيتك به، فاطلب لنفسك من يقتلك فإنّا غير قاتلى هذا الغلام.
فأصبحت مفزّعا ممّا عمل بى، وأصبح أثر الشقّ ما بين صدرى إلى عانتى كأنّه الشراك.
ذلك حقيقة قولى وبدء شأنى يا أخا بنى عامر. فقال العامرى: أشهد بالله الذى لا إله غيره أنّ أمرك حقّ. ثم سأل العامرىّ النبىّ صلى الله عليه وسلم عن مسائل عدّة غيرها.
ونحو ذلك ماروى بإسناده أنّ سادة قريش اجتمعوا فى دار الندوة يتشاورون وحضرهم قيل من أقيال اليمن، والقيل ملك دون الملك الأعلى من حمير، وكان ذلك القيل نافر إليهم ابن عمّه، أى حاكمه فى الرياسة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الندوة-وهو غلام-يدعو عمّه أبا طالب، فأشار إليه، فأتاه فناجاه، ثم خرجا معا. فقال ذلك القيل: يا معشر قريش، من هذا الغلام الذى يمشى تلعا (1) ولا يلتفت، وينظر مرة بعينى لبؤة مجرّبة، ومرة بعينى عذراء خفرة؟ قالوا: يتيم أبى طالب وابن أخيه، ثم قالوا له، أو من قال منهم: إنّ وصفك له لينبئنّ عن عظمة فى صدرك. فقال: أما ونسر، يعنى صنما كانت حمير تعبده، لئن بلغ هذا الغلام أشدّه ليميتنّ قريشا ثم ليحييها، ولقد نظر إليكم نظرة لو كانت سهما لا نتظم أفئدتكم فؤادا فؤادا. ثم نظر إليكم أخرى لو كانت نسيما لأنشرت الموتى، فقالوا له، أو من قال منهم: يا قيل حسبك، فإنّ الأمر غير ما تظنّ، فقال: سترون.
ونحو ذلك ما روى أنّ أكثم بن صيفى حكيم العرب تتّبع أبا طالب، فقال أكثم لأبى طالب:(19) يا بن عبد المطّلب، ما أسرع ما شبّ أخوك، يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو طالب: إنّه ليس بأخى، ولكنّه ابن أخى عبد الله، قال: ابن الذبيح؟! قال: نعم، قال أكثم: إنّى كنت رأيته فى حجر عبد المطّلب يوم أرسل السحاب إلى بلاد مضر (1)، فظننته ابنه، ثم جعل أكثم يتأمّل النبىّ صلى الله عليه وسلم ويتفرّس فيه، ثم قال: يا بن عبد المطّلب، ما تظنوّن بهذا الفتى؟ فقال أبو طالب: إنّا لنحسن به الظنّ، وإنّه لحيىّ، جرىّ، سخىّ، وفىّ، فقال أكثم: هل غير ما تقول يا بن عبد المطّلب؟ قال: نعم، إنّه لذو شدّة ولين، ومجلس مكين، ومفصل مبين، فقال أكثم: هل غير ما تقول يا بن عبد المطّلب؟ فقال: نعم، إنّه لنتيمّن بمشهده، ونتعرّف البركة فيما لمس بيده، فقال أكثم:
هل غير ما تقول يا بن عبد المطّلب؟ فقال أبو طالب: إنّه لغلام يعدّ، وآخرته أن يسود، ويتخرّق بالجود، ويعلو جدّه الجدود، فقال أكثم: لكنّى أقول غير هذا! قال أبو طالب: قل فإنّك نقّاب غيب، قال: أخلق با بن أخيك أن يضرب العرب قامطة، بيد خابطة، ورجل لابطة، ثم ينعق بهم إلى مرتع مريع، وورد تشريع، فمن اخرورط إليه هداه، ومن احرورف عنه أرداه. فقال أبو طالب:
إنّ عندنا لدورا من ذلك.
وقيل إنّ أكثم بن صيفى هذا عاش مائة وتسمين سنة، وقال فى ذلك:
وإن امرأ قد عاش تسعين حجّة
…
إلى مائة لم يسأم العيش جاهل
ولمّا بلغه دعوة النبىّ صلى الله عليه وسلم أمر قومه باتّباعه وحضّهم على طاعته، وأبى هو أن يسلم.
وفى هذا الكلام من الغريب ما يجب شرحه:
قوله: مجلس ركين، الركانة، وقار الحكم وطمأنينته.
(20)
وقوله: مفصل مبين، المفصل بكسر الميم الساق، والمبين المفصح ذو البيان.
وقوله: يتخرّق بالجود، أى يتوسّع به ويفيضه فى كلّ جهة، والخرق الواسع العطاء.
وقوله: يعلو جدّه الجدود، الجدّ بفتح الجيم العظمة وعلوّ القدر.
وقول أبى طالب: إنّك لنقاب غيب، النقاب، والنّقاب، والنقيب: الذى يصيب بظنّه ما خفى عن غيره، كأنّه ينقب عن ذلك الشئ حتى يستخرجه.
وقوله: جلاء ريب، أى كشف شكّ.
وقوله: يضرب العرب قامطة، أى جميع العرب، والقمط هو الجمع.
وقوله: بيد خابطة ورحل لا بطة، الخبط الضرب باليد، واللبط الضرب بالرجل.
وقوله: ينعق بهم، أى يصرخ بهم، والراعى ينعق بالغنم.
وقوله. مرتع مريع، المرتع حيث ترتع الماشية أى تأكل كيف شات، والمريع هو الخصيب.
وقوله: ورد تشريع، التشريع أن يؤتى بالماشية الواردة إلى ماء ظاهر على وجه الأرض، فتمكّن من شريعته أى المدخل إليه فتشرب كيف شاءت من غير كلفة، ومنه المثل السائر:«إن أهون الورد التشريع» .
وقوله: اخرورط إليه معناه: أسرع مقتحما، والاخروراط سير سريع لا يثنيه شئ.
وقوله: احرورف عنه، هو مثل الحرف سواء فهو من الانحراف.
وقوله: إنّ عندنا لدورا من ذلك، أى طرفا من العلم به.
وهذا الحديث أيضا يتعلّق به حديثان نذكرهما جريا على الرسم فى إكمال الفائدة، وذلك ما رويناه (1) أنّ عبد المطّلب قيل له: احفر بئر زمزم، خبيئة الشيخ الأعظم (2)، فى مبحث الغراب الأعصم، بين الفرث والدم، عند قرية النمل.
فانطلق إلى المسجد ينظر ما سمّى له، فخرّت بقرة بالجزورة، فانقلبت من الجازر بحشاشة نفسها (21) حتى غلبها الموت فى المسجد، بموضع زمزم، فجزرت البقرة فى مكانها ذلك، واحتمل لحمها فجاء غراب فوقع فى الفرث، فبحث عن قرية النمل، وقرية النمل مجتمعها ومأواها.
فقام عبد المطّلب يحفر هناك، وكانت السيول قد دفنت زمزم وعفتها، فجاء سادة قريش فقالوا لعبد المطّلب: ما هذا الصنيع؟ إنّا لا نرميك بالجهل فما بالك تحفر فى مسجدنا؟ فقال عبد المطّلب: إنّى حافر هذه البئر، ومجاهد من صدّنى عنها. وطفق يحفر هو وابنه الحارث، ولم يكن له يومئذ ولد غيره، فسفّهه الناس من قريش ونازعوه، وانتهى عنه الأشراف لما يعلمونه من صدق عبد المطّلب واجتهاده فى دينهم، واشتدّ عليه الأذى من السفهاء، فنذر لئن ولد له عشرة من
الولد وبلغوا حتى يمتنع بهم ليذبحنّ أحدهم عند البيت لله، واحتفر البئر حتى بلغ ما أراد من الرىّ، وذلك قول خويلد بن أسد بن عبد العزى:
أقول وما قولى عليهم بسبّة
…
إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم
حفيرة إبراهيم يوم ابن آجر
…
وركضه جبريل على عهد آدم
فقال عبد المطّلب: ما وجدت أحدا ورث العلم الأقدم غير خويلد بن أسد.
وقوله: يوم ابن آجر يريد إسماعيل بن هاجر عليه السلام، فأقلب الهاء ألفا.
ولمّا تكامل بنو عبد المطّلب عشرة أخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء، فقالوا:
إنّا نطيعك فمن تذبح منّا؟ فقال: ليأخذ كلّ رجل منكم قدحا، والقدح سهم بغير فصل، ثم ليكتب فيه اسمه، وليأتنّ به! ففعلوا، فأخذ قداحهم ودخل على هبل، وكان فى جوف الكعبة، وكانوا يعظّمونه ويضربون بالقداح عنده دائبا (22) فيستقسمون بها-أى يرتضون بما تقسم لهم-ولها قيمّ يضرب بها، فدفع عبد المطّلب إلى ذلك القيمّ القداح، وقام يدعو الله عز وجل، وهو يرى أنّ القدح إذا أخطأ عبد الله لم يبال من أصاب من بنيه، فخرج القدح على عبد الله.
وأخذ الشفرة، ثم أقبل إلى أساف ونائلة، وكانا صنمين عند الكعبة ينحر ويذبح عندهما النسائك، فقام إليه سادة قريش فقالوا: ما تريد أن تصنع؟ فقال: أوفى بنذرى، فقالوا: لا ندعك حتى تعذر فيه إلى ربّك، ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتى بابنه فيذبحه وتكون سنّة.
وقال له المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، والله لا تذبحه حتى تعذر فيه إلى ربّك، ولئن كان من أموالنا فداء له فديناه.
وقالوا له: انطلق إلى فلانة الكاهنة، فلعلّها أن تأمرك بأمر فيه فرج لك،
فانطلقوا حتى أتوها بخيبر، فقصّ عليها عبد المطّلب خبره، فقالت: ارجعوا اليوم عنّى حتى يأتينى تابعى من الجنّ فأسأله! فرجعوا عنها ثم غدوا عليها فقالت: كم الدية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل، فقالت: ارجعوا إلى بلادكم، ثم قرّبوا صاحبكم، وقرّبوا عشرة من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح، فإن خرجت القداح على صاحبكم فزيدوا فى الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح، فإن خرجت القداح على صاحبكم فزيدوا فى الإبل، ثم اضربوا أيضا هكذا حتى يرضى ربّكم، فإذا خرجت على الإبل فانحروها فقد رضى ربّكم، وتخلّص صاحبكم.
فرجع القوم إلى مكّة وقرّبوا عبد الله وقرّبوا عشرة من الإبل، وقام عبد المطّلب يدعو الله، فخرجت القداح على عبد الله، ولم يزل يزيد عشرا عشرا حتى بلغت الإبل مائة، فخرجت القداح على الإبل، فقال سادة قريش لعبد المطّلب:
قد رضى ربّك، فقال: لا والله حتى أضرب بها ثلاث مرات، (23) فضربوها فخرجت على الإبل فنحرت الإبل، وتركت لا يصدّ عنها إنسان ولا طائر ولا سبع.
وانطلق عبد المطّلب بابنه عبد الله من فوره حين أنجاه الله من الذبح فمرّ بالكعبة، وكانت أخت لورقة بن نوفل هناك، فرأت عبد الله فدعته، فجاءها، فقالت: أين تذهب؟ قال: مع أبى، فقالت له: هلاّك يا عبد الله أن تقع علىّ، فأعطيك مائة من الإبل مثل الذى نحرت عنك فدية، فقال لها: إنّى لا أستطيع فراق أبى، وانطلق معه فأتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة فأنكحه ابنته آمنة، وأدخل عليها مكانه، فعلقت منه لوقتها برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولبث عندها ثلاثا ثم خرج، فمرّ بأخت ورقة بن نوفل، فلم تقل له شيئا، فقال لها: ما لك لم تعرضى
علىّ اليوم ما عرضت علىّ قبل؟ فقالت له: والله ما أنا بزانية، ولكن رأيت فى وجهك نورا كغرّة الفرس، فأحببت أن يكون فىّ، وأراه قد فارقك، فما الذى صنعت بعدى؟
فقال: زوّجنى أبى آمنة بنت وهب، فكنت عندها إلى وقتى هذا، فقال:
أبى الله أن يجعله إلا حيث شاء، ثم أنشدت:
إنّى رأيت مخيلة لمعت
…
فتلألات بتساير القطر
ورأيت نورا قد أضاء له
…
ما حوله كإضاءه البدر
لله ما زهريّة سلبت
…
نوريك (1) ما سلبت وما تدرى
وهذا أحد الحديثين، وهو متعلّق بقول أكثم بن صيفى: أهو ابن الذبيح؟ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن الذبيحين» عبد الله والآخر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. وإن كان قد ذهب بعض العلماء إلى أنّ الذبيح إسحاق عليه السلام فإن صحّ هذا فالعرب (24) تجعل العمّ أبا، قال الله تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام:{وَاِتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ} (2)»، فسمّى إسماعيل أبا، وإنّما هو عمّه لقوله تعالى [على لسان يعقوب] (3):
{ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي، قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ»} (4).
وأمّا الحديث الآخر، فهو متعلّق بقول أكثم بن صيفى أيضا: رأيته فى حجر عبد المطّلب يوم أرسل السحاب إلى بلاد مضر، ومعنى ذلك ما روى أنّ بلاد قيس ومضر أجدبت وأتت عليهم سنة ذات حطمة شديدة، فاجتمعوا إلى زعمائهم فتشاوروا، فقام أحدهم خطيبا فقال: يا معشر مضر، إنّكم أصبحتم فى أمر ليس بالهزل، وقد بلغنا أنّ صاحب البطحاء استسقى فسقى، وشفّع فشفع، فاجعلوا قصدكم إليه واعتمادكم عليه، فارتحلت قيس ومضر ومن داناهم حتى أتوا مكّة، ودخل ساداتهم على عبد المطّلب، فحيّوه، فقال: أفلحت الوجوه، وسألهم عمّا قصدوا فقام خطيبهم فقال: أبا الحارث [نحن](1) ذوو رحمك الواشجات (2)، أصابتنا سنون مجدبات، وقد بان لنا أثرك، ووضح عندنا خبرك، فاشفع لنا إلى شفيعك! فقال عبد المطّلب: موعدكم جبل عرفات.
ثم خرج من مكّة وولده وولد ولده وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ستّ سنين أو نحوها، فركب عبد المطّلب ناقة وسدّل عمامته ذؤابتين على غارب ناقته، وكان برايته صفائح الفضّة، حتى انتهى إلى عرفات، فنصب له كرسىّ فنزل عليه، وجلس متربّعا، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدى الكرسىّ، فأخذه عبد المطّلب، فأجلسه فى حجره، وقال: اللهم ربّ البرق الخاطف، والرعد القاصف، والقطر الواكف، وربّ الأرباب (25) ومسبّب الأسباب، ومنشئ السحاب، هذه قيس ومضر، خير البشر، قد شعثت شعورها، وحدبت ظهورها، يشكون شدّة
الهزال، وذهاب الأموال، فارخ اللهم لهم سحابا خوّارة، وسماء خرّارة، تضحك أرضهم، وتذهب ضرّهم.
فما استتمّ كلامه حتى نشأت سحابة دكناء فيها دوىّ، فقال عبد المطّلب مخاطبا للسحابة: هذا أوانك، سحّى سحّا، وانهلى سمحا! ثم قال: يا معشر قيس ومضر، ارجعوا إلى بلادكم، فقد سقيتم! فرجعوا إلى بلادهم، وقد كثرت أمواهها، واخضرّ صحراها.
قلت: إنّما كانت السّقيا ببركة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحسب أنّ عبد المطّلب تعمد أخذه إلى حجره لذلك، وقد صنع أبو طالب مثل هذا حين استسقى لمضر بعد موت عبد المطّلب، فإنّه قام على قدميه، واحتمل النبىّ صلى الله عليه وسلم على كتفه، وكان صلى الله عليه وسلم قد أربى على تسع سنين، لم يكن مثله يحمل على الكتف لغير ضرورة.
وفى هذا الحديث ألفاظ لغوية نزيل اللبس عنها: قوله: ذوو رحمك الواشجات، أى المشتبكات (1)، وإنّما جمع نعت الرحم يريد الأرحام.
وقوله: فارخ اللهم لهم سحابا، أى سقها إليهم، أرخيت معناها: سقت سوقا رفيقا.
وقوله: خوّارة، أى ضعيفة تسحّ ولا تستمسك.
وقوله: خرّارة، أى تسمع لها ولسيولها خريرا، أى صوتا.
وبعد، فإنّى لم أعتمد فيما قدّمت من القول عن صدق الفراسة فيمن أهّله
الله تعالى لحمل رسالاته، والتحدّى بآياته، وأضفى عليه سرابيل كراماته، وكلأه بحفظ معقّباته (1)، فإنّ من كان من الله سبحانه بعظيم هذه المنزلة، فخطبه جليل، وعليه لكلّ عين دليل. وإنّما صدّرت (26) هذه الدرر الفريدة، والكلمات المفيدة، إذ بدأنا بذكرها، وتزيّنا بفخرها، إذ هى من صحح الأحاديث الواردة، المتّفق على صحّتها من رجال الحديث المتواردة (2)، ولا طمع فى إحصاء جميع شواهد آياته، ولا إحصار معجزاته، ولنبدأ بتلخيص ما تصل القدرة من ذكره، إذ كل فصيح وبليغ يعجز عن أداء واجبات شكره.
وكفله بعد موت أبيه بخمسة أيام جدّه عبد المطّلب، فلمّا حضرته الوفاة، أوصى به أبا طالب عمّه، وعمره يومئذ صلى الله عليه وسلم ثمانى سنين، وقيل أكثر، وقيل أقلّ، فأحسن تربيته، إلى أن ملك نفسه صلى الله عليه وسلم، وانفرد عنه.
وكان أبو طالب قد خرج إلى الشام تاجرا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معه فرآه بحيرا الراهب فعرفه بعلامة النبوّة والصفة التى كانت عنده، فقال لعمّه، أتحبّ هذا الغلام؟ قال: نعم، فقال: والله لئن عاينه اليهود ليقتلنّه، فإنّه عدوّهم! وأشار على عمّه بردّه إلى مكّة، فردّه، وأقام بها إلى أن بلغ خمسا وعشرين سنة.
ثم خرج إلى الشام لتجارة خديجة بنت خويلد، ثم عاد إلى مكّة، فتزوّجها بعد ذلك بشهرين.
ولذلك أنّه لمّا عاد من تجارة خديجة، ورأى منه ميسرة فى طريقه من المعجزات ما أبهره، عرّف ذلك لسيّدته خديجة، فطلبته إلى عندها وخطبته لنفسها، وقالت: يا ابن العمّ، إنّى رغبت فيك لقرابتك منّى، وشرفك فى قومك وأمانتك عندهم، وصدق حديثك، فلمّا قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك خرج فعرّف عمومته، فخرج معه حمزة بن عبد المطّلب، حتّى دخل على خويلد ابن أسد فخطبها إليه، ثم حضر أبو طالب، ورؤساء مضر، فخطبها أبو طالب فقال: الحمد لله الذى جعلنا من ذرّية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضئ معدّ (1)، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته وسوّاس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا، وحرما آمنا، وجعلنا الحكّام على الناس، ثم إنّ ابن أخى هذا محمّد ابن عبد الله، لا يوزن به رجل إلاّ رجح به، فإن كان فى المال قلّ فإنّ المال ظلّ زائل، وأمر حائل، ومحمّد من قد عرفتم [قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالى كذا، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطب جليل](2).
فتزوّجها وله من العمر خمس وعشرون سنة وشهران وعشرة أيّام، وهى يومئذ ابنة ثمان وعشرين سنة.
وروى أنّه أصدقها اثنتى عشرة أوقيّة ذهب فبقيت عنده قبل الوحى خمس عشرة سنة، وبعده إلى قبل الهجرة بثلاث سنين.
وماتت ولرسول الله تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وكانت له وزير صدق.
روى أنّ آدم عليه السلام قال: «إنّى سيد البشر يوم القيامة، إلا رجلا من ذرّيتى، فضّل علىّ باثنتين: كانت زوجته عونا له وكانت زوجتى عونا علىّ، وأعانه الله على شيطانه فأسلم وكفر شيطانى» .
وقال رسول صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أبشّر خديجة ببيت فى الجنّة من قصب (1) لا صخب فيه ولا نصب» .
وأتى جبرائيل النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أقرئ خديجة من ربّها السلام، فقالت:
الله السلام، ومنه السلام، وعلى جبرائيل السلام».
فلمّا بلغ خمسا وثلاثين سنة شهد بنيان الكعبة وتراضت قريش بحكمه، وكان صلى الله عليه وسلم يدعى بينهم بالأمين.
فلمّا بلغ أربعين سنة بعثه الله لكافّة الخلق أجمعين، ووكل به إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين، ولم ينزل القرآن العظيم على لسانه حتى جاء جبرائيل عليه السلام بالقرآن والرسالة، فدعا إلى الدين، فأجابه السابقون الأوّلون مثل علىّ بن أبى طالب، وزيد بن حارثة، وأبى بكر، وسعد بن أبى وقّاص، ومن تلاهم للإيمان.
(27)
وأوّل من أسلم من النساء خديجة رضى الله عنها، ثم إنّ أهل العلم يقولون إنّها أوّل من أسلم من الناس، وإنّ عليّا عليه السلام تلاها، وهل كان بالغا أو صبيّا؟ ففى ذلك خلاف.
وأمّا المتفّق عليه فإنّ أوّل من أسلم من الرجال أبو بكر رضى الله عنه ومن الشباب علىّ عليه السلام، ومن الموالى زيد بن حارثة رضى الله عنه ومن النساء خديجة رضى الله عنها، هذا لا خلاف فيه بوجه من الوجوه.
ولمّا رأى المشركون ذلك خالفوه وعاندوه وهمّوا بقتله، فأجاره عمّه أبو طالب، وماتت خديجة بعده بخمسة أيّام، فبان أثر موتهما على النبىّ صلى الله عليه وسلم.
وقيل كان المبعث لمائة وخمسين من عام الغدر، ولعشرين سنة من ملك أبرويز بن هرمز، وكان جبرائيل عليه السلام أتاه بغار حراء-جبل بمكّة- كان يتعبّد فيه الليالى ذوات العدد، فقال: اقرأ! فقال: ما أنا بقارئ، قال:
فأخذ بيدى فغطّنى حتى بلغ منّى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ! فقلت: ما أنا بقارئ، فقال:«اقرأ باسم ربّك الذى خلق إلى قوله علّم الإنسان ما لم يعلم» فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة، فقال:
«زمّلونى زمّلونى» فزمّلوه حتّى ذهب عنه الروع، ثم قال:«أى خديجة» ، وأخبرها الخبر، وقال:«لقد خشيت على نفسى» ! قالت له خديجة: أبشر، والله لا يخزيك الله أبدا، إنّك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحقّ.
فانطلقت به حتى أتت به ورقة بن نوفل، وهو ابن عمّها، وكان امرأ قد