الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد الله بن أبى ربيعة، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى البصرة أبو موسى الأشعرى، وعلى حمص عمير بن سعد، وعلى دمشق معاوية بن أبى سفيان، وعلى البحرين وما والاها عثمان بن أبى العاص الثقفى، وعلى قضاء الكوفة القاضى شريح.
وفيها فتحت إصطخر، [ونوّج](1)، وكرمان، وسجستان، وعسقلان.
وفيها حجّ عمر رضى الله عنه بأزواج النبى صلى الله عليه وسلم.
وفيها توفّى قتادة بن النعمان الأنصارى رحمه الله، وهو الذى ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عينه.
وفيها توفّى واقد بن عبد الله التميمى حليف الخطّاب، وهو أوّل من قاتل فى سبيل الله فى الإسلام، وقيل بل عمرو الحضرمى، والله أعلم.
وفيها توفّى عيلان بن سلمة، وهو الذى أسلم وتحته عشر نسوة.
وفيها توفّى الإمام عمر بن الخطّاب رضى الله عنه.
ذكر وفاة الإمام عمر رضى الله عنه
لمّا كانت السنة التى قتل فيها رضى الله عنه حجّ بأزواج النبى صلى الله عليه وسلم، وبعث إلى أمراء الأجناد فقدموا عليه، وفيهم سعد بن أبى وقّاص، وهو من أهل الشورى.
ولمّا كان فى حجّه نزل الأبطح، فكثب كثيبا من رمل تحت رأسه ووضع رأسه عليه، وقال: اللهم كبرت سنّى، ودقّ عظمى، وانتشرت رعيّتى،
فاقبضنى إليك غير عاجز ولا مفرّط، فما انسلخ ذو الحجّة حتى قتل رضى الله عنه.
وكان لمّا جاء إلى الجمرة ليرميها (184) فى حجّته أتاه حجر فوقع فى صلعته فأدماها، فقال رجل من بنى لهب: أشعر أمير المؤمنين لا يحجّ بعدها، ثم جاء إلى الجمرة الثانية فصاح رجل: يا خليفة رسول الله، فقال رجل: لا يحجّ أمير المؤمنين بعدها.
وعن أبى موسى الأشعرى قال: رأيت كأنّى انتهيت إلى جبل، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقه، وإلى جنبه أبو بكر، وإذا هو يومئ إلى عمر أن: تعال! قال أنس: فقلت لأبى موسى: ألا تكتب بهذا إلى عمر، فقال: ما كنت لأنمى إليه نفسه.
خطب عمر الناس يوم جمعة فقال: رأيت كأنّ ديكا نفرنى ولا أراه إلاّ حضور أجلى، فقلت: يسوق الله لى الشهادة ويقتلنى رجل أعجمى، وإنّ ناسا يأمروننى أن أستخلف عليهم، وإنّ الله لن يضيع دينه وخلافته، فإن عجل بى أمر فالخلافة شورى فى هؤلاء الستّة الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وقد عرفت أنّ أناسا يطعنون فى هذا الأمر، وأنا قاتلتهم بيدى هذه على الإسلام، فإن فعلوا ذلك فأولئك هم الكفرة الضّلال، إنى والله ما أدع شيئا أهمّ عندى من الكلالة، لقد سألت نبى الله صلى الله عليه وسلم عنها، فما أغلظ فى شئ ما أغلظ فيها، حتى طعن بإصبعه فى بطنى فقال:«يا عمر، يكفيك الآية التى نزلت فى آخر سورة النساء، وإن أعش فسأقضى فيها قضيّة، لا يختلف فيها أحد يقرأ القرآن» .
وقال: اللهم ارزقنى شهادة فى سبيلك، وموتة ببلد نبيّك صلى الله عليه وسلم، فقالت
حفصة: وأنّى لك الشهادة بهذه البلدة، فقال: يا بنيّة، يأتى الله بها من حيث شاء، قال: وكان بينه وبين فارس مسيرة شهر، وبينه وبين القوم كذلك.
قالت عائشة رضى الله عنها: لمّا حجّ عمر أقبل رجل متنقّب، فأنشد عمر:
(185)
جزى الله خيرا من إمام وباركت
…
يد الله فى ذاك الأديم الممزّق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها
…
بوائق فى أكمامها لم تفتّق
وكنت تشوب الدين بالحلم والتّقى
…
وحكم صليب الرأى غير مزوّق
فمن يسع، أو يركب جناحى نعامة
…
ليدرك ما قدّمت بالأمس يسبق
وما كنت أخشى أن تكون وفاته
…
بكف سبىّ أحمر العين أزرق
قالت عائشة رضى الله عنها: فظننته المزرّد بن ضرار أخى الشماخ، قالت:
فلقيته بعد ذلك، فحلف بالله أنّه ما شهد الموسم الذى سمعت فيه هذه الأبيات (1).
وكان يقال إنّ هذا الشعر لجنّى. والله أعلم.
بلغ أمّ كلثوم بنت علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه، زوجة عمر رضى الله عنه أنّ كعب الأحبار يقول: إنّ عمر باب من أبواب جهنّم، فغضبت، ثمّ غدت إلى حفصة بنت عمر، فقالت: ألا تعجبين لما بلغنى عن هذا اليهودى، إنّه يزعم أنّ أمير المؤمنين باب من أبواب جهنّم، أو على باب جهنّم. فقالت: وا أبتاه، ثم أرسلت إلى عمر فأتاها، فأخبرته بقول كعب، فقال: وا عمراه، ثم قال: إنّى لأرجو أن لا يكون الله سبحانه خلقنى شقيّا، ثم أرسل إلى كعب فسأله عمّا قيل عنه، فقال: صدقوا، إنّك على باب جهنّم تذبّ الناس عنه، لو قد هلكت
فتح ذلك الباب عليهم، ولن يمرّ لك إلاّ ثلاث حتى تستشهد فى سبيل الله، فقال: وأنّى لى بالشهادة وبينى وبين أجناد العرب ما علمت؟ فقال كعب: إنّ سبل الله تعالى كثيرة، وأفضل سبله الصلاة، فلمّا كان اليوم الثالث قال عمر:
يا كعب، هذا اليوم الثالث، قال: إنّ لى الليلة إلى الصباح، فخرج عمر رضى الله عنه ليوقظ الناس أهل المسجد إلى الصلاة، فطعنه أبو لؤلؤة، (186) وقال عمر رضى الله عنه عندما قال له كعب ما قال:
تواعدنى كعب ثلاثا أعدّها
…
وأعلم أنّ القول ما قال لى كعب
وما بى لقاء الموت، إنّى لميّت
…
ولكنّ ما بى الذّنب يتبعه الذّنب (1)
وقالت عائشة رضى الله عنها: سمعت نائحة الجنّ تبكى قبل قتل عمر، تقول:
ليبك على الإسلام من كان باكيا
…
فقد وشكوا هلكا وما قدم العهد
وأدبرت الدنيا وأدبر أهلها
…
وقد ملّها من كان يؤمن بالوعد (2)
وكان عمر رضى الله عنه لا يؤذن لسبى أن يدخل المدينة، فكتب المغيرة ابن شعبة، وهو على الكوفة، يستأذن على أبى لؤلؤة، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ عندى غلاما، وعنده أعمال كثيرة فيها منافع للمسلمين، إنّه حدّاد نقّاش، فلو أذنت له، فأذن له، وضرب عليه المغيرة مائة درهم فى كلّ شهر، فاشتكى إلى عمر ثقل خراجه، فقال: ماذا تحسن؟ فذكر الأعمال التى يحسنها، فقال عمر: ما خراجك بكثير فى جنب ما تعمل، ثم دعاه عمر فقال: ألم أخبر أنّك تقول: لو شئت
صنعت رحى تطحن بالهواء؟ فالتفت أبو لؤلؤة ساخطا عابسا فقال: لأصنعنّ لك رحى يتحدّث الناس بها فى الشرق والغرب، فلمّا ولّى قال للرهط الذين كانوا معه: تواعدنى العبد، وقيل إنّ عمر قال لعلىّ عليه السلام: ما تراه أراد بكلمته؟ قال: تواعدك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: لقد علمت أنّ لكلمته غورا.
ويقال إنّ عيينة بن حصن الفزارى قال لعمر يوما: إنّ الله سبحانه جعلك فتنة على أمّة محمّد، فقال عمر: كذبت، إنّ ربّى ليعلم أنّى لم أضمر لها غير العدل عليها، والإحسان إليها، فقال عيينة: إنّى لم أذهب هناك، ولكن يفقدون سيرتك فيضرب بعضهم بعضا، فقال عمر: لست (187) لذلك بآمن، فقال:
يا أمير المؤمنين، احترس من الأعاجم وأخرجهم من جزيرة العرب، فإنّى لا آمنهم عليك، فلمّا طعن عمر قال: ما فعل عيينة بن حصن؟ فقيل: مات بالحاجر (1). فقال: إنّ هناك لرأيا.
وكان أبو لؤلؤة قد سباه المغيرة من نهاوند، ولمّا كان يوم الأربعاء، لسبع بقين من ذى الحجة سنة ثلاث وعشرين، خرج عمر رضى الله عنه فأيقظ الناس للصلاة على عادته، وكان أبو لؤلؤة قد كمن له فى المسجد، ومعه خنجر برأسين ونصابه فى وسطه، وسقاه السمّ، فلمّا دنا من عمر ضربه وطعنه ثلاث طعنات، إحداهنّ تحت سرّته، فخرق الصفاق، وهى التى قتلته رضى الله عنه، ثم أغار على أهل المسجد فطعن من يليه، ممّن على يمينه وعلى يساره، حتى طعن أحد عشر رجلا سوى عمر، وقيل ثلاثة عشر-على اختلاف الرواية-مات منهم أربعة: منهم إياس بن البكير الكنانى، وكليب بن قيس، فرمى عليه
رجل برنسا، فلمّا علم أنّه مأخوذ نحر نفسه، فقال عمر رضى الله عنه: مروا عبد الرحمن فليصلّ بالناس، فصلّى بهم صلاة خفيفة، فأمّا من وراءه فقد رأى ما رأى، وأمّا من كان فى نواحى المسجد فلا يدرون إلاّ أنهم فقدوا صوت عمر، وسمعوا سبحان الله، سبحان الله.
ثم حمل عمر إلى بيته، ثم قال لابن عبّاس: انظر من قتلنى! فخرج ثم دخل، فقال: غلام المغيرة. فقال عمر: الصّناع؟ يعنى النجار، قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد كنت أمرت به معروفا، الحمد لله الذى لم يجعل منّيتى بيد رجل يدّعى الإسلام، ثم قال لابن عبّاس: كنت وأبوك تريدان أن تكثر العلوج بالمدينة، فقال:
إن شئت فعلناها، يعنى قتلناهم، فقال: أبعد ما تكلّموا (188) بلسانكم، وصلّوا صلاتكم، وحجّوا حجّكم؟
وكأنّ المسلمين لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ.
ثم دعا عمر ابنه عبد الله فقال: يا بنىّ، أوص الخليفة من بعدى بتقوى الله عز وجل، والأخذ بكتاب الله تعالى، وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، وبالمهاجرين {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْاالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْااناً، وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ»} (1)، وأن يعرف لهم منزلتهم وكرامتهم وسابقتهم، وأوصه بالأنصار {الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ»} إلى قوله {فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»} (2)، وأوصه بالأعراب خيرا، فإنّهم شجرة العرب، ومادة الإسلام، أن يأخذ من أموالهم
صدقاتهم، يطهّرهم ويزكّيهم ويردّها على فقرائهم، وأوصه بأهل الأمصار خيرا، فإنّهم جباة الأموال، وردّ الإسلام، وأن لا يأخذ منهم إلاّ طاقتهم، ويقاتل من وراءهم، وأوصه بأهل ذمّة الله وذمّة رسوله خيرا، أن يفى لهم بعهدهم، إنّ هذا عهدى وأمرى إلى من وليّنه أمر الأمّة، وإنّى آمر أمراء الأمصار أن يفقّهوا من يليهم من المسلمين فى كتاب الله عز وجل.
فقال ابن عبّاس: يا أمير المؤمنين، أبشر بثلاث خصال أكرمك الله عز وجل بهنّ، فقال: وما هنّ يا ابن عبّاس؟ قال: خلافتك كانت نصرا، ولقد ملأت الأرض عدلا، وإذا استرحمت رحمت، فقال: أتشهد لى بها يا ابن عبّاس؟ قال:
نعم. ثم دخل علىّ عليه السلام فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بكرامة الله، فقد كان إسلامك فتحا، وخلافتك نصرا، ولقد ملأت الأرض عدلا، وما اختلف فى ولايتك رجلان، فأعجبته هذه الكلمة، فقال: أتشهد لى بها عند ربّى؟ (189) قال: نعم.
وروى أنّ ابن عبّاس قال له: أبشر يا أمير المؤمنين، أسلمت إذ كفروا، وجاهدت مع رسول الله إذ خذلوا، وتوفّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض، فقال عمر: المغرور والله من غررتموه، لو أنّ لى ما طلعت عليه الشمس لا فتديت به من هول المطلع، اذهب إلى عائشة فقل لها: إنّ عمر يقرئك السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإنّى لست للمؤمنين اليوم بأمير، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فإن أذنت وإلاّ فادمنّى فى مقابر المسلمين، فأتاها فوجدها عند الباب تبكى، فأبلغها مقالة عمر، فقالت: رحم الله عمر، لقد كان مرتفعا فى حياته وعند موته، نعم، قد كنت ادّخرته لنفسى، فأنا أوثره على نفسى.
ثم جاء عبد الله فقال: قد أذنت لك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: الحمد لله، ما كان شئ أهمّ إلىّ من ذلك المضجع، يا عبد الله، إذا أنا مت فاحملنى على سريرى، ثم قف على الباب فقل يستأذن عمر بن الخطّاب، فإن أذنت فأدخلنى، وإن بدا لها فادفنّى فى مقابر المسلمين.
ثم دعا عمر طبيبا من العرب فسقاه نبيذا، فشبّه النبيذ بالدم لما خرج من الطعنة، فدعى له آخر من الأنصار، فسقاه لبنا فخرج من الطعنة أبيض، فقال الطبيب:
يا أمير المؤمنين اعهد عهدك فإنّك ميّت، فقال عمر: صدقنى أخو بنى معاوية، ولو قلت غير ذلك لكذّبتك.
ولم يزل عمر منذ حمل إلى بيته فى غشية واحدة بعد واحدة من نزف الدم، أسفر، ثم أفاق، فقال: يا ابن عبّاس أصلّى الناس؟ قلت: نعم، قال: لا حظّ فى الإسلام لمن ترك الصلاة، ثم دعا بوضوء فتوضّأ وصلّى. ثم سمع هدّة بالباب، فقال: ما شأن الناس؟ قال ابن عبّاس: الناس يريدون الدخول عليك (190)، قال: ائذن لهم، فدخلوا فقالوا: استخلف علينا عثمان! فقال عمر: فكيف بحبّه المال والجاه؟ فخرجوا، ثم سمع هدّة فقال: ما شأن الناس؟ قال: إنّهم يريدون الدخول عليك، فأذن لهم، فدخلوا، فقالوا: استخلف علينا علىّ بن أبى طالب! فقال: إذا يحملكم على طريقة من الحقّ، فقال عبد الله بن عمر: فأكببت عليه ثم قلت: ما يمنعك منه؟ قال: أى بنىّ لا أتحمّلها حيّا وميّتا، وإن أستخلف فسنّة، وإن لم أستخلف فسنّة، توفّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف، وتوفّى أبو بكر واستخلف، فقال عبد الله: فعلمت أنّه والله لن يعدل بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال عمر: ولا أعلم أحدا أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء الستّة الذين توفّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.
وروى أنه قال: إن أولّ عثمان أولّ رجلا صالحا فى نفسه، وأخف إيثاره قراباته بأن يغلبوه على رأيه، والله لو فعلت ليفعلنّ، وو الله لئن فعل ليفعلنّ، وإن أولّ عليّا أولّ شجاعا تقيّا، على دعابة فيه، وخليق أن يحملهم على طريقة صالحة، وإن أولّ الزبير أوّل لقسا شرسا شكسا، وإن أولّ طلحة أولّ ذا إباء وكبر، وإن أولّ عبد الرحمن أولّ رجلا ليّن الجانب، سلس القياد، وليس يصلح لهذا الأمر إلاّ شدّة فى غير عنف، ولين فى غير ضعف، وجود فى غير سرف، وإمساك فى غير بخل، ولكن أدعها شورى بين هؤلاء الستّة فيختار المسلمون لأنفسهم من شاءوا، ويدخل عبد الله بن عمر معهم، وليس له من الأمر شئ وإن استخلف سعدا فذاك، وإلاّ فأيّكم أستخلف فليستعن به، فإنّى لم أعزله عن عجز ولا خيانة، فقال سعيد بن زيد: لو عيّنت رجلا (191) ائتمنك الناس، قال: قد رأيت فى أصحابى حرصا سيئا، فقال المغيرة: فأين أنت عن عبد الله بن عمر؟ فقال: قاتلك الله، ما أردت الله بهذا؟ كيف أستخاف رجلا لم يحسن أن يطلّق امرأته.
وتطاول عمرو بن العاص لأن يكون فى أهل الشورى، فقال له عمر: اطمئنّ كما وضعك الله، والله لا أجعل فيها من حمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحا.
ولمّا حضرته الوفاة قال لابنه عبد الله: ضع خدّى على الأرض! ثم قال:
ويل لعمر إن لم يغفر الله له، ثم قال: يا بنىّ، ضع ركبتيك بين كتفىّ، وضع راحتك اليمنى على جبهتى، وراحتك اليسرى تحت ذقنى، وغمّض بصرى، وأحسن غسلى، وكفّنّى فى وتر من الثياب، ولا تغلوا فى كفنى، فإن يك ربّي راضيا عنّى فلن يرضى بثيابكم هذه حتى يكسونى من ثياب الجنّة، وإن يك ساخطا
فسيسلبنى سلبا سريعا ويلبسنى شرّ ثياب، وإذا حفرتم فاحفروا قدر مضجعى، فإن يك ربّى راضيا عنّى فسيوسّعه على مدّ بصرى، وإن يك ساخطا علىّ فسيضيّقه حتى تختلف أضلاعى، وإذا حملتمونى إلى حفرتى فأسرعوا بى المشى، فإنّما هو خير تقدمونى عليه، أو شرّ تضعونه عن رقابكم، ولا تمشينّ فى جنازتى امرأة، ولا تقم علىّ نائحة، ولا تزكّونى فربّى أعلم بى.
فلمّا مات لم تصب المسلمين بعد نبيّهم مثلها.
قال ابن عبّاس: لمّا وضع عمر على سريره، وقفت أنا وعبد الرحمن بن عوف فإذا رجل من خلفنا وقد وضع يده على منكبى، فالتفتّ فإذا علىّ، ففرّجت له بينى وبين عبد الرحمن، فقال: رحمك الله يا عمر، إنّى لأرجو أن يكون الله قد ألحقك بصاحبيك، فطالما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (192) يقول: دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر.
ولما دفن عمر رحمه الله ورضى عنه جاء عبد الله بن سلام وقد فاتته الصلاة عليه، فوقف على قبره، وقال: جزاك الله عن الإسلام خيرا، فو الله لئن فاتتنى الصلاة عليك لما فاتنى حسن الثناء عليك، أما والله لقد علمت يقينا أنّك كنت سخيّا بالحقّ، بخيلا بالباطل، ترضى حين الرضى، وتسخط حين السخط، ليّنا حين ينفع اللين، شديدا حين تنفع الشدّة، ما كنت عيّابا ولا مزّاحا، كنت والله عفيف الطرف.
ولمّا بلغ ابن مسعود موت عمر، وكان بمسجد الكوفة، طرح رداءه وقام يبكى، وقال: إذا ذكر الصالحون فحيّهلا بعمر، لقد كان إذا نحر الجزور أطعم ابن السبيل كبدها وسنامها، ويكون العنق لآل عمر، ولقد كان عمر حصنا
للإسلام وأهله، يدخل فيه الإسلام، ولا يخرج منه، فانثلم الحائط، فالإسلام اليوم يخرج منه ولا يدخل فيه.
دخل علىّ عليه السلام على عمر وهو مسجّى، فقال: ما أحد من الناس أحبّ أن ألقى الله عز وجل بمثل هذا المسجّى.
وقالت عاتكة بنت زيد (1) ترثيه:
فجعنى فيروز (2)
…
لا درّ درّه
بأبيض تال للقران منيب
عطوف على الأدنى غليظ على العدى
…
أخى ثقة فى النائبات نجيب
فتى ما يقل لا يكذب القول فعله
…
سريع إلى الخيرات غير قطوب
وروى أنه لما احتضر قال لولده: يا بنىّ احسب ما علىّ من الدين، فحسبه فوجده ستّة وثمانين ألف درهم، فقال: إن وفى بها مال وإلاّ فأوفها عنّى، وإن لم يف بها فأدّها بمنى من مال آل عمر (193) وإن لم تف بها أموالهم فسل فيها فى بنى عدىّ، فإن لم تف بها أموالهم فسل فيها قريشا ولا تعدهم إلى غيرهم.
ولمّا مات صلّى عليه صهيب، ودفن مع صاحبيه، رضوان الله عليه.
واجتمع أهل الشورى يتشاورون، فمكثوا يوما أو يومين سكوتا لا يبدون حرفا، كما يأتى ذكر ذلك عند خلافة عثمان رضى الله عنه.