الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليومين، فلمّا رأى اليهودىّ قال: أفسدت علىّ ركيّتى، فاشترى النصف الآخر بثمانية آلاف وجعلها للمسلمين.
وقال النبى صلى الله عليه وسلم: «من يزيد فى المسجد؟» فاشترى عثمان موضع خمس سوار، فزاده فى المسجد، وجهّز جيش العسرة فى غزاة تبوك.
وروى أنّ عثمان رضى الله عنه حمل فى جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرسا، وأنفق فى جيش العسرة ألف دينار، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:«اللهمّ لا تنس هذا اليوم لعثمان، اللهمّ إنّى راض عن عثمان فارض عنه» ، وكانت هذه الغزاة -وهى غزوة تبوك-فى رجب سنة تسع للجرة.
ذكر نبذ مما جرى فى هذه الغزاة
كان عليه السلام قلمّا يخرج فى غزوة إلاّ كنى عنها، وأخبر أنّه يريد غيرها، إلاّ فى هذه الغزوة-وهى غزوة تبوك-فإنّه بيّنها لبعد المسافة، وشدّة الزّمان، وكثرة الروم، وأخبرهم أنّه يريد الروم (201) ليتأهّب الناس، وحضّ أهل الغنى واليسار على النفقة، فلم ينفق أحد من المسلمين ما أنفق عثمان رضى الله عنه، واعتذر إليه ناس من الأعراب، وفيهم أنزل الله تعالى:{وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ»} الآية (1) ولم يعذرهم الله، وتخلّف رجال من المسلمين من غير شكّ ولا نفاق، وعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثنيّة الوداع، وعسكر عبد الله بن أبىّ عسكره، أسفل منه، وكان عسكره ليس بأقلّ العسكرين، ثم تخلّف عنه عبد الله ابن أبىّ فيمن تخلّف من المنافقين.
وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب كرّم الله وجهه على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فقال المنافقون: ما خلّفه إلاّ استثقالا له، وفى هذه الغزاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألا ترضى يا علىّ أن تكون منّى بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبىّ بعدى» ، وذلك أنّ عليّا عليه السلام لمّا بلغه أنّ المنافقين قالوا فى شأنه أنّ ما خلّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المدينة إلاّ استثقالا له، أخذ سلاحه ثم خرج إليه وهو نازل بالجرف (1)، فقال: يا نبىّ الله، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتنى استثقالا لى، فقال:«كذبوا، ولكنّى خلفتك لما تركت ورائى، فاخلفنى فى أهلى وأهلك» ، ثم قال له ما قال.
وتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس، فيقول أصحابه: يا رسول الله تخلّف فلان، فيقول عليه السلام: «دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه.
وتأخّر أبو ذرّ على بعير له، فلمّا أبطأ به أخذ متاعه فحعله على ظهره، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا، فنظر رجل من المسلمين فقال: يا رسول الله، هذا رجل يمشى على الطريق، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:«كن أبا ذرّ» ، فلمّا تأمله القوم قالوا:
هو والله أبو ذرّ، فقال عليه السلام:«رحم الله أبا ذرّ، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» .
وفى هذه الغزاة تخلّف ثلاثة من المسلمين، ولم يكونوا أهل نفاق، وهم:
كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال ابن أميّة، قال كعب بن مالك:
لما تجهّز المسلمون جعلت أغدو وأروح ولا أتجهّز معهم وأقول: أنا قادر على الجهاد أىّ وقت شئت، ولمّا سار المسلمون غدوت لأتجهّز، وألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فلم يزل ذلك دأبى حتى فرط الغزو، وكنت إذا مشيت فى النّاس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أرى إلاّ رجلا مغموصا عليه فى النّفاق، أو معذورا بضعف أو زمانة، قال كعب: فلمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك قال: «ما فعل كعب؟» فقال رجل: حبسه برداه، والنظر فى عطفيه، فقال معاذ بن جبل:
بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلاّ خيرا، فسكت النبى صلى الله عليه وسلم قال: فلمّا قفل عليه السلام حضرنى شئ، فبقيت أتذكّر الكذب، وأقول ماذا يخرجنى من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم، فلمّا أطلّ قادما راح عنّى الباطل، وعرفت أنّه لا ينجينى إلاّ الصدق، فلمّا دخل المسجد، وصلّى ركعتين جلس للناس، وجاء المخلّفون يعتذرون إليه، فقبل عذرهم وعلانيتهم وأيمانهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، واستغفر لهم.
قال كعب: فجئت فسلّمت عليه، فتبسّم تبسّم المغضب، ثم قال:
«ما خلّفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك؟» فقلت: يا رسول الله، لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنّى سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكنّى إن حدّثتك كذبا لترضينّ عنّى، وليوشكنّ الله أن يسخطك علىّ، ولئن حدّثتك الصدق لتجدنّ (1) علىّ، وإنّى [لأرجونّ [(2) الله وعقباى منه
(203)
رضاك علىّ، لا والله، ما لى من عذر، وما كنت قطّ أقوى ولا أيسر منّى حين تخلّفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أمّا هذا فقد صدقت فيه، فقم حتى يحكم الله فيك» ، فقمت، وسار معى رجال من قومى، فقالوا لى: لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إليه بما اعتذر المخلّفون، قال: فأردت أن أرجع فأكذّب نفسى، ثم قيل لى: إنّه قد قال رجلان من خيار المسلمين مثل مقالتك، وهما مرارة بن الربيع، وهلال بن أميّة، فتأسّيت بهما لصلاحهما، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيّها الثلاثة دون غيرنا، فاجتنبنا الناس وتغيّروا لنا، فأقمنا خمسين ليلة.
قال كعب: فكنت أصلّى الصلوات مع المسلمين، وأطوف الأسواق، ولا يكلّمنى أحد، وأسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقول فى نفسى: هل حرّك شفتيه بردّ السلام أم لا؟ وأسارقه النظر، فينظر إلىّ إذا صلّيت، وإذا نظرت إليه أعرض عنّى، قال: فلمّا طال ذلك علىّ من جفوة المسلمين، كنت أغدو إلى السوق، فبينا أنا أمشى بالسوق إذا نبطىّ يسأل عنّى من نبط الشام، ممّن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلّ على كعب، فأشاروا إلىّ، فأتانى، فأعطانى كتابا من ملك غسّان، وكتبه فى سرقة حرير، يقول فيه: إنّ صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك، فقلت:
هذا والله أشدّ طمع فىّ رجل مشرك، فعمدت إلى تنّور فسجرته.
فلمّا مضت علىّ أربعون ليلة، أتانى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعتزل امرأتى، قال: فقلت: أطلّقها، قال: لا، بل لا يقربها، وأرسل إلى صاحبىّ بمثل ذلك، فقلت لا مرأتى: الحقى بأهلك، واستأذنت امرأة (204) هلال رسول الله صلّى الله عليه وسلم
فى هلال، وقالت: إنّه شيخ كبير ضائع، لا خادم له، أفأخدمه؟ فأذن لها، قال:
فقيل لى: لو استأذنت أيضا فى امرأتك، فقلت: إنّ هلالا شيخ كبير، وأنا شابّ، فلمّا مضت خمسون ليلة صلّيت الصبح على ظهر بيت من بيوتنا، على الحال التى ذكر الله منّا، وهو قوله تعالى:{ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ»} (1) إذ سمعت صوتا يقول: يا كعب، أبشر! قال: فخررت ساجدا، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم النّاس بتوبة الله عز وجل علينا حين صلّى الفجر، فذهب النّاس يبشروننا، وركض رجل إلى فرسه، وسعى آخر حتى أوفى على الخيل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فنزعت ثوبىّ، وكسوتهما لمن بشّرنى، وو الله لا أملك غيرهما، واستعرت غيرهما، فأتيت رسول الله، وتلقّانى الناس يبشّروننى بالتوبة، قال: فدخلت المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وحوله النّاس، فقام لى طلحة بن عبيد الله، فهنّأنى، فو الله ما قام إلىّ من المهاجرين رجل غيره.
قال كعب: فقال لى رسول الله ووجهه يبرق من السرور: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك» ، قال، فقلت: يا رسول الله، أمن عندك، أم من عند الله؟ فقال:«بل من عند الله» ! قال كعب: فلمّا جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إنّ من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال:«أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك» ، قلت: إنّى ممسك سهمى