الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان نفيل جدّ عمر شريفا نبيلا، تتحاكم إليه قريش، وولد عمر رضى الله عنه بعد الفيل بثلاث سنين، وقيل بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، وكان عمر شديدا على المسلمين، فلمّا أسلم أعزّ الله به دينه، أسلم بعد أربعين رجلا، وإحدى عشرة امرأة.
وكان لعمر فى الجاهليّة السفارة، وكانت قريش إذا وقعت بينهم عداوة بعثوه سفيرا، وإن نافرهم منافر أو فاخرهم بعثوه منافرا ومفاخرا ورضوا به، وأسلمت فاطمة بنت الخطّاب أخته، وزوجها سعيد بن عمرو بن نفيل، وكانا يكتمان إسلامهما من عمر، وكان نعيم بن عبد الله النّحام من قوم عمر من بنى عدىّ قد أسلم مستخفيا من عمر.
ذكر إسلام عمر بن الخطّاب رضى الله عنه
قال: وخرج عمر يوما متوشّحا سيفه، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ذكروا له أنّهم مجتمعون فى بيت عند الصفا، معه (128) صلى الله عليه وسلم عمّه حمزة، وأبو بكر، وعلىّ، فى رجال من المسلمين ممّن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة (1)، فلقيه نعيم بن عبد الله، فقال: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد محمّدا، هذا الصابئ الذى فرّق أمرنا، وسفّه أحلام قريش، وعاب دينها، وسبّ آلهتها، فأقتله! فقال: غرّتك نفسك يا عمر، أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض وقد قتلت محمّدا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: أىّ أهل بيتى؟ قال: أختك، وابن عمّك سعيد بن زيد، فعليك بهما.
فرجع عمر إليهما وعندهما خبّاب بن الأرتّ، معه صحيفة فيها سورة طه،
يقرئهما إيّاها، فلمّا سمعوا حسّ عمر تغيّب خبّاب، فلمّا دنا قال: ما هذه الهينمة (1)؟ فأنكراه، فقال: بلى! قالا: لا، فقال: قد أخبرت أنّكما تابعتما محمّدا على دينه، وبطش بسعيد، فدفعت عنه فاطمة، فضربها فشجّها، فقالا له: نعم، قد أسلمنا وآمنّا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك!
فلمّا رأى عمر الدم رقّ وقال لأخته: أعطينى هذه الصحيفة، لأنظر ما جاء به محمّد، فقالت: أخشاك عليها؟ فحلف ليردنّها، فقالت: يا أخى، أنت نجس مشرك، وما يمسّها إلاّ طاهر، فقام فاغتسل وقرأ الصحيفة، فقال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلمّا سمعه خبّاب خرج وقال: إنّى لأرجو أن يكون الله قد خصّك بدعوة نبيّه، فإنّى سمعته يقول أمس:«اللهم أيّد الإسلام بأبى الحكم ابن هشام أو بعمر بن الخطّاب» ! فالله الله يا عمر.
فقال عمر: دلّنى يا خباب على محمّد، فدلّه عليه، فأخذ عمر سيفه وعمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب الباب عليهم، فسمعوا صوت عمر، ورآه رجل من خلل الباب، فرجع فزعا، فقال: يا رسول الله، هذا (129) عمر متوشّحا سيفه! (2) فقال حمزة: فأذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه، وإن أراد شرّا قتلناه بسيفه، فأذن له النبى صلى الله عليه وسلم، وخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيه فى الحجرة، فأخذ بجمع ردائه، وجذبه جذبا شديدا وقال:«ما جاء بك يا بن الخطّاب، فو الله ما أرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة» ، فقال: جئتك يا رسول الله لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله، فكبّر عليه السلام تكبيرة عرف
أهل البيت أنّ عمر قد أسلم، فتفرّق أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم من مكانهم، وقد عزّوا فى أنفسهم، حين أسلم عمر وحمزة.
وروى أنّ عمر رضى الله عنه قال: كنت للإسلام مباعدا، وكنت صاحب شراب فى الجاهليّة، وكنت أجتمع مع رجال من قريش، فخرجت أريدهم، فلم أجد أحدا منهم، فقلت: لو أتيت فلانا الخمار، لعلّى أجد عنده خمرا فأشربها، فأتيته فلم أجده، فقلت: لو أتيت الكعبة فطفت بها سبعا، فجئت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلّى، فقلت: لو أنّى استمعت لمحمّد الليلة، حتى أسمع ما يقول، ثم قلت: لئن دنوت منه لأروّعنّه، فجئت من قبل الحجرة التى تحت ثيابها، فمشيت رويدا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلّى ويقرأ، فلمّا سمعت القرآن رق قلبى ودخلنى الإسلام.
فبتّ مكانى حتّى انصرف عليه السلام، فتبعته، فلمّا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسّى عرفنى وظنّ أنّى إنّما اتّبعته لأوذيه، فنهمنى (1)، ثم قال:«ما جاء بك يا بن الخطّاب هذه الساعة؟ فقلت: جئت لأومن بالله ورسوله، وبما جاء من عند الله، قال: فحمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «هداك الله يا عمر» ! ثم مسح صدرى، ودعا لى بالثبات، ثم دخل عليه السلام بيته، وانصرفت.
قال ابن مسعود: ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نطوف بالبيت ونصلّى حتّى أسلم عمر، فقاتلهم حتى تركونا نصلّى، فصلّينا وطفنا.
وقال ابن مسعود: كان إسلام عمر فتحا، وهجرته نصرا، وإمارته رحمة،
قال عمر رضى الله عنه: لمّا أسلمت قلت: أىّ رجل أنقل للحديث؟ فقيل لى:
جميل بن معمر الجمحى، فأتيته فقلت: هل علمت أنّى أسلمت وتابعت محمّدا؟ فما راجعنى حتى قام يجرّ رداءه، فوقف على باب المسجد، فصرخ بأعلى صوته، وقريش فى أنديتها حول الكعبة: ألا وإنّ ابن الخطّاب قد صبأ، فقلت: كذب، ولكنّى أسلمت، ودخلت فى دين محمّد، قال: وثاروا إلىّ فقاتلونى وقاتلتهم حتّى قامت الشمس على رءوسهم، فقعدت وقاموا على رأسى، فنالوا منّى.
قال عمر رضى الله عنه: فقلت: اصنعوا ما شئتم، فأقسم لو كنّا ثلاثمائة لتركناها لكم، أو تركتموها لنا.
قال عبد الله بن عمر: فبينا هم كذلك إذ أقبل شيخ من قريش، عليه جبّة من أعلى مكة، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر، قال: فمه! رجل اختار لنفسه أمرا فما تريدون منه؟، أترون بنى عدىّ يسلمونه، فو الله لكأنّما كانوا ثوبا كشف عنه.
قال عبد الله: فقلت لأبى بعد أن هاجر: يا أبت، من الذى وزّع الناس عنك بمكّة يوم أسلمت جزاه الله خيرا، قال: ذلك العاص بن وائل السهمىّ، لا جزاه الله خيرا.
ولد عمر رضى الله عنه قبل يوم الفجار بأربع سنين، وولدت ابنته حفصة، زوج النبى صلى الله عليه وسلم، قبل المبعث بخمس سنين، وأسلم عمر، رضى الله عنه، بعد المبعث فى السنة السادسة، وهو يومئذ ابن تسع وعشرين سنة، وتوفّى لهلال المحرم سنة أربع وعشرين (131) وهو ابن ستّين سنة، وهو الصحيح.
وشهد عمر المشاهد كلّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
عنه راض، وولى الخلافة سنة ثلاث عشرة، فى اليوم الذى مات فيه أبو بكر رضى الله عنه بوصيّة من أبى بكر، وكانت سيرته من محاسن السّير، وأنزل نفسه من مال الله تعالى بمنزلة رجل من المسلمين، لم يستأثر بشئ دونهم.
وهو أوّل من دوّن الدواوين فى الإسلام، ونوّر شهر رمضان بصلاة الأشفاع وهو أوّل من تسمّى بأمير المؤمنين، ناداه رجل: يا خليفة الله، قال: ذاك نبى الله داود، قال: يا خليفة رسول الله، قال: ذاك صاحبكم المفقود، قال: يا خليفة خليفة رسول الله. قال: ذاك أمر يطول، أنتم المؤمنون وأنا أميركم.
ويروى أنّه قيل له: يا عمر، فقال: لا تبخس مقامى شرفه، ويقال إنّ المغيرة ابن شعبة أوّل من دعاه بأمير المؤمنين، فقال ذاك إذا، وقيل السبب فى ذلك أنّ عمر كتب إلى عامله بالعراق أن تبعث إلىّ رجلين نبيلين جلدين نسلهما عن العراق وأهله، فبعث إليه لبيد بن ربيعة العامرى وعدىّ بن حاتم الطائى، فأناخا بباب المسجد، فلقيا عمرو بن العاص، فقالا: استأذن لنا على أمير المؤمنين، فوثب عمرو فقال: السّلام عليك يا أمير المؤمنين.
وكان عمر كما وصفه علىّ عليهما السلام، فقال فى كلام ذكر فيه أبا بكر وأثنى عليه، ثم قال: ثم ولى عمر الأمر بعده، بعد أن استشار المسلمين فيه، فكره قوم ورضى قوم، فكنت ممّن رضى فلم يفارق الدنيا حتى رضى به من كان كرهه، فأقام الأمر على منهاج صاحبيه، يتّبع آثارهما كاتّباع الفصيل أمّه، رحيما بالضعفاء ناصرا للمظلومين (132) قويّا فى حقّ الله وأمره، لا تأخذه فيه لومة لائم، ضرب الله بالحقّ على لسانه، شبهّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل فى غلظته على الأعداء، والغيظ على الكفّار، فمن أحبّنى فليحبّهما، ومن أبغضهما فقد أبغضنى، وأنا منه برئ.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله جل جلاله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه» ، ونزل القرآن بموافقته فى أسرى بدر قال الله تعالى:{لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ»} (1)، وذلك أنّه لمّا جئ بالأسرى يوم بدر قال لأصحابه:«ما تقولون فى هؤلاء» ؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك استبقهم [واستتبهم](2)، لعلّ الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تكون قوّة على الكفّار، وقال عمر: يا رسول الله، كذّبوك، وأخرجوك، فاضرب أعناقهم، ومكّن عليّا من عقيل فيضرب عنقه، ومكّنى من فلان-[نسيب](3) لعمر-فأضرب عنقه، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر، فقال عبد الله بن رواحة: انظروا واديا كثير الحطب، فأدخلهم فيه، ثم أحزمه عليهم نارا، فقال العبّاس:
قطعتك رحم (4).
فسكت النبى صلى الله عليه وسلم، فقال ناس: يأخذ بقول أبى بكر، وقال آخرون:
يأخذ بقول عمر، وقال آخرون: يأخذ بقول ابن رواحة، فخرج النبى صلى الله عليه وسلم فقال:«إنّ الله سبحانه وتعالى ليليّن قلوب رجال [فيه] (5)، حتّى تكون ألين من اللبن، وإنّ الله سبحانه وتعالى ليشدّد قلوب رجال، حتّى تكون أشدّ من الحجارة، وإنّ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» } (6)، ومثلك كمثل عيسى، قال:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ}
{عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»} (1)، ومثلك يا عمر كمثل نوح، حيث قال:{لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ (133) مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً»} (2). ومثل موسى قال: {رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلى أَمْاالِهِمْ، وَاُشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ»} (3).
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم اليوم عالة، فلا يفلتنّ أحد منكم إلاّ بفداء أو ضربة عنق» ، قال عبد الله بن مسعود: إلاّ سهيل بن بيضاء، فإنّى سمعته يذكر الإسلام، فسكت النبى صلى الله عليه وسلم، فما رأيتنى فى يوم أخوف أن تقع علىّ الحجارة من السماء منّى فى ذلك اليوم حتّى قال النبى صلى الله عليه وسلم:«إلاّ سهيل بن بيضاء» ، فلمّا كان من الغد جئت النبى صلى الله عليه وسلم، وإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان، فقلت:
يا رسول الله، خبّرنى عن أىّ شئ تبكيان؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد تباكيت، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:«أبكى على أصحابى من أخذهم الفداء، ولقد عرض علىّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة» ، لشجرة قريبة من النبى صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عبّاس: كان هذا يوم بدر، والمسلمون يومئذ قليل، فلمّا كثروا واشتدّ سلطانهم أنزل الله عز وجل:{فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ، وَإِمّا فِداءً»} (4) فخيّر الله سبحانه نبيّه والمؤمنين فى أمر الأسارى: إن شاءوا قتلوهم واستعبدوهم، أو فادوهم، أو أعتقوهم، {لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ»} (5)، أى: فى الّلوح المحفوظ، بأنّ الله سبحانه يحلّ لكم الغنيمة «لمسّكم» فى أخذ الغنيمة والفداء قبل أن تؤمروا «عذاب عظيم». قال صلى الله عليه وسلم: «لو نزل عذاب من السّماء ما نجا
منه إلاّ عمر بن الخطّاب وسعد بن معاذ، فإنّهما أمسكا عمّا أخذ من الغنائم».
وقيل معنى قوله تعالى: «لولا كتاب من الله سبق» أنّه لا يعذّب أحدا ممّن شهد بدرا مع النبى صلى الله عليه وسلم، لمسّكم العذاب.
ووافق عمر القرآن فى مقام (134) إبراهيم، وذلك أنّ النبى صلى الله عليه وسلم مرّ بالمقام ومعه عمر، فقال: يا رسول الله، هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال «نعم» ، قال:
أفلا نتّخذه مصلّى؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «لم أؤمر بذلك» ، فلم تغب الشمس من ذلك اليوم حتى نزلت:{وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى»} (1)، ووافق عمر القرآن فى الحجاب، وذلك أنّه قال للنبى صلى الله عليه وسلم: إنّه يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو حجبت أمّهات المؤمنين، فنزلت آية الحجاب.
قال عمر: بلغنى شئ كان بين أمّهات المؤمنين وبين النبى صلى الله عليه وسلم، فاستعرضتهنّ أقول لهنّ: لتكفنّ عن رسول الله أو ليبدلنّه الله عز وجل أزواجا خيرا منكنّ، حتى أتيت على آخرهنّ، فقالت أمّ سلمة: يا عمر، ما فى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ به نساءه حتى تعظهنّ، فأمسكت، فنزلت:{عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْااجاً خَيْراً مِنْكُنَّ»} (2) الآية.
ولمّا أصاب عمر أرضه بخيبر، قال للنبى صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ما أصبت مالا أنفس عندى منه، فما تأمر؟ فقال عليه السلام:«إن شئت تصدّقت بها، وحبست أصلها» ، فجعلها عمر صدقة لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، وتصدّق بها على الفقراء، والمساكين، وأبناء السبيل، والغزاة فى سبيل الله، والضيف،
وفى الرقاب، لا جناح على من وليها أن يأكل منها، ويطعم صديقا غير متموّل مالا، ثم أوصى بها إلى حفصة، ثم إلى الأكابر من ولده، وهى أوّل صدقة تصدّق بها فى الإسلام.
وقال عليه السلام: «لست أدرى ما مقامى فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدى:
أبى بكر وعمر، واهتدوا بهدى ابن عمّار، وتمسكوا بعهد أمّ معبد»، وقال صلى الله عليه وسلم:
«أتيت فى منامى (135) بقدح لبن فشربته، حتّى رأيت الرىّ يخرج من أظافرى، ثم أعطيته عمر بن الخطّاب فشرب فضله» ، قالوا فما أوّلته يا رسول الله؟ قال:
«العلم» وقال عليه السلام: «إنّ الله تعالى وضع العلم على لسان عمر، فهو يقول به» .
قال ابن شهاب: كنا نتحدّث أنّ ملكا ينطق على لسان عمر، قال ابن مسعود:
لو وضع علم أحياء العرب فى كفّة، ووضع علم عمر فى كفّة لرجح علم عمر، وقال:
ما شئ أنفع من كلام، ولا أحسن من كلام، أخذت مضجعى، فسمعت قائلا يقول: السّلام على أهل البيت، خذوا من دنياكم، أو قال: من دنيا فانية لأخرى باقية، واستعدّوا المعاد إلى الله عز وجل، فإنّه لا قليل من الأجر، ولا غنىّ عن علم الله عز وجل، ولا عمل بعد الموت، أصلح الله أعمالكم.
وسمع عمر رجلا يقول: الّلهم اجعلنى من الأقلّين، فقال له: ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: سمعت الله عز وجل يقول: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ»} (1)، و {وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ»} (2)، فقال عمر رضى الله عنه: عليك من الدعاء بما يعرف.
وقال ناس من الصحابة لعمر رضى الله عنه: ما بال الناس فى الجاهليّة كانوا إذا ظلموا فدعوا يستجاب لهم، ونحن اليوم ندعو فلا يستجاب لنا، وإن كنّا مظلومين؟ فقال عمر: كان ذلك ولا أجر لهم إلاّ ذاك، فلمّا نزل الوعد والوعيد، والحدود والقصاص، والعقود وكلهم الله عز وجل إلى ذلك.
ومن أجوبته الحسنة أنّه قال: إنّ فى يوم كذا من شهر كذا ساعة لا يدعو الله سبحانه فيها أحد إلاّ استجاب له، فقيل له: أرأيت إن دعا الله عز وجل فيها منافق؟ فقال: إنّ المنافق لا يوفّق لتلك السّاعة، وقال صلى الله عليه وسلم:«قد كان فى الأمم (136) قبلكم محدّثون، فإن يكن فى هذه الأمّة أحد فعمر» ، وقال عليه السلام:«لو كان بعدى نبىّ لكان عمر» .
وكان عمر شديد الغيرة، قال النبى صلى الله عليه وسلم:«دخلت الجنّة، فرأيت فيها دارا أو قصرا، وسمعت فيها ضوضأة، فقلت: لمن هذا؟ فقيل: لرجل من قريش، فظننت أنّى أنا هو، فقلت: من هو؟ فقالوا عمر، فلولا غيرتك يا أبا حفص لدخلته» ، فبكى عمر، وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟
خرج عمر رضى الله عنه يوما ومعه النّاس، فمرّ بعجوز فاستوقفته، فوقف لها وجعل يحدّثها وتحدثه، فقال الجارود العبدرى: حبست الناس على هذه العجوز؟ فقال: ويلك، أتدرى من هذه؟ هذه امرأة سمع الله عز وجل كلامها وشكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، التى أنزل الله عز وجل فيها:
«قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها وتشتكى إلى الله» ، والله لو وقفت إلى الّليل ما فارقتها إلاّ إلى الصلاة، ثم أرجع إليها.
وروى أنّها قالت لعمر: إيها يا عمر، عهدتك تسمّى عميرا فى سوق عكاظ تزع الصبيان بالعصىّ، فلم تذهب الأيّام حتّى دعيت عمر، ثم لم تذهب الأيّام حتى سمّيت أمير المؤمنين، فاتّق الله فى الرعيّة، واعلم أنّ من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشى الفوت، فقال لها الجارود: قد أكثرت أيّتها المرأة على أمير المؤمنين، فقال له عمر، ثم ذكر ما تقدّم، وقيل إنّ اسم المرأة خولة بنت حكيم، امرأة عبادة بن الصامت، كذلك اختلف فى اسم أبيها، فقيل حكيم وقيل ثعلبة.
مرّ عمر رضى الله عنه بضجنان، فقال: لقد رأيتنى وأنا أرعى غنم الخطّاب فى هذا المكان، وعلىّ مدرعة صوف، وكان والله ما علمت فظّا غليظا يضربنى إذا (137) قصّرت، ويتعبنى إذا عملت، ثم أصبحت اليوم وأمر أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم إلىّ، ثم تمثّل:
لا شئ مما ترى تبقى بشاشته
…
يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه
…
والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
حوض هنالك مورود بلا كذب
…
لا بدّ من ورده يوما كما وردوا
قال ابن عبّاس رضى الله عنه (1): قال لى عمر رضى الله عنه: أنشدنى لأشعر شعرائكم زهير، قلت: كيف جعلته أشعر شعرائنا؟ قال: لأنّه كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يطلب [وحشىّ الشعر](2)، ولا يطلب الرجل إلا بما يكون فى الرجال، وقال عمر: أشعر الشعراء من يقول:
فلست بمستبق أخا لا تلمّه
…
على شعث أىّ الرّجال المهذّب