الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى هذه السّنة قام بأمر ملك فارس يزدجرد بن كسرى أبرويز، فأمرهم بالتّحمّل من المدائن، ثم شخص بالجنود حتى نزل حلوان، واستعمل عليهم أخا رستم صاحب القادسيّة.
ذكر وقعة جلولا بين الفرس والمسلمين
ولمّا ظهر المسلمون على الأعاجم، وقام فيهم يزدجرد كاتب أهل الرىّ وهمدان وقومس وإصبهان ونهاوند، وتراسلوا وتعاقدوا على أن يغزوا عمر ابن الخطّاب فى بلاده، وأن يسيروا مع ملكهم يزدجرد إلى سائر أرض المسلمين، وكتب سعد بن أبى وقّاص بذلك إلى عمر رضى الله عنه، فاشتدّ ذلك على عمر، فصعد المنبر وصرخ: يا أهل الإسلام، يا أبناء المسلمين، أين المهاجرون؟ أين الأنصار؟ فاجتمع الناس إليه يهرعون، فقال: إنّ سعدا كتب إلىّ أن الشّيطان قد جمع جموعا ليطفئ نور الله، وهم أهل همدان والرّى وقومس وإصبهان ونهاوند وغيرهم أمم مختلفة ألسنتها وأهوائها وأديانها وممالكها، وإنّهم تعاقدوا أن يخرجوكم من بلادكم، ويخرجوا إخوانكم من بلادهم، فأشيروا علىّ وأوجزوا ولا تطنبوا، فإنّ هذا يوم له ما بعده من الأيّام!
فقام طلحة رضى الله عنه فقال، بعد حمد الله تعالى والصلاة على نبيّه صلى الله عليه وسلم:
أمّا بعد، فقد حنّكتك الأمور، وجرّبتك الدّهور، وعجنتك البلايا، وأحكمتك (1) التّجارب، فأنت ولىّ ما وليت، لا ننبو فى يديك، ولا نكلّ (2) عليك، بل نقبلها منك، ونأخذها عنك، فادعنا نجبك، وقدنا نتبعك، واحملنا نركب،
فإنّك مبارك الأمر، لم ينكشف عن شئ من عواقب قضاء الله (153) لك إلاّ عن توفيق.
فقال عمر رضى الله عنه: تكلّموا أيّها الناس، فقام عثمان رضى الله عنه فقال بعد حمد الله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم: أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنّى أرى [أن] تكتب لأهل الشام فيسيروا من شامهم، وإلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، وتسير أنت بجيش من أهل الحرمين إلى أهل الكوفة، فيلتقى جموع المسلمين بجموع المشركين، فإنّك إن فعلت ذلك لم يبق أحد من العرب يتخلّف عنك، ثم جلس.
فقال عمر رضى الله عنه: تكلّموا أيّها النّاس! فقال علىّ كرّم الله وجهه:
أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنّ الله لم يزل يعرفك ويعرف المسلمين، البركة فى رأيك واليمن، وإنّك إن شخصت بأهل الشام من شامهم لم تأمن مسير الروم إلى ذراريهم برّا وبحرا، وإن شخصت بأهل اليمن من يمنهم لا تأمن مسير الحبشة، وإن شخصت بأهل الحجاز لم تأمن من انتقاض سفهاء العرب وجهّالهم، حتّى تكون ما تدع من العورة خلفك أهمّ إليك ممّا بين يديك، أمّا كثرة العدوّ فإنّا لم نكن نقاتلهم بالكثرة، ولكن بحول الله وقوّته، وإن أنت سرت ونظرت إليك الأعاجم قالوا: هذا ملك العرب لم يبق خلفه أحد، فكان ذلك أشدّ لطلبهم وحربهم، ولكن اكتب إلى أهل البصرة، فليتفرّقوا ثلاث فرق: فرقة تقيم فى ذراريهم حرسا لهم، وفرقة تقيم على أهل عهدهم، وفرقة تسير إلى إخوانهم من المسلمين مددا لهم، واكتب إلى أهل الكوفة بمثل ذلك.
فاستصوب عمر ذلك، ثم كتب إلى المسلمين: إنّى استعملت عليكم النعمان
ابن مقرن، فإن قتل فحذيفة، فإن قتل فجرير بن عبد الله، فإن قتل فالمغيرة ابن شعبة، فإن قتل فالضحاك بن قيس الكندى، وأنفذ (1) الكتاب مع السائب ابن الأقرع (154) الثقفى، وولاّه قسمة الغنائم، وقال: يا سائب، إن هلك الجيش فاذهب فى بسيط الأرض ولا أنظرنّ إليك بواحدة من عينىّ أبدا، فإنّى متى رأيتك جدّدت لى حزنا.
وسار المسلمون حتى نزلوا بعقر نهاوند وكانوا سبعة آلاف، وتزاحف الفريقان، واقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، وبات المسلمون يعصبون جراحاتهم، وبات المشركون فى خمورهم ولذّتهم ومزاميرهم، فلمّا أصبح النعمان عبّى كتائبه، وسار يقف على كلّ راية يحضّها على القتال، فبكى المسلمون وقالوا: أيّها الأمير مرنا بأمرك، فقال: انتظر بهم زوال الشمس ومهبّ الرياح، وأن تفتح السماء لمواقيت الصلاة وينزل النصر، فإنّى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.
ثم إنّ الله تعالى أيّد المسلمين بنصره، وانهزم جيش الفرس وكفره، واستشهد النعمان رحمة الله عليه، وجمعت الغنائم إلى السائب بن الأقرع، فأتى رجل فقال:
أتؤمّننّى على أهلى ودمى ومالى وأدلّك على كنز فى غيبة، فيكون لأمير المؤمنين خاصّة، فأمّنه فأتى بهم إلى صخرة فاقتلعوها، فاستخرجوا سفطين فيهما تيجان مكلّلة بالياقوت الأحمر، قد نسج بعضها إلى بعض، فرأى السائب ما لم يره قطّ.
وقسمت الغنائم سهمين سوى السفطين، فأصاب سهم كل واحد ثلاثين ألفا، وقدم السائب بالسفطين على عمر، وبشّره بالفتح، فقال عمر: ما فعل النعمان؟
قال: أكرمه الله بالشهادة، فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ويحك أبدار مضيعة أصيب؟ قال: لا، وأقبل السائب يحدثه بالفتح، وعمر إنّما يسأله عن الناس، فقال: هل أصيب من المسلمين غيره، فقال: أمّا من نعرف فلا، فانتحب عمر وقال: الضعفاء الضعفاء، فترحّم عليهم، ودعا لهم ثم قال: وما عليهم ألاّ يعرفهم عمر، قد عرفهم الله الذى (155) أكرمهم بالشهادة، ثم قال عمر: هل أعطيت كل ذى حقّ حقّه؟ قال: نعم.
ثم أخرج السفطين فأخبره خبرهما، قال: من جعلنى أحقّ بهما؟ فأرسل إلى علىّ وعبد الله بن أرقم وابن مسعود، فأمرهم أن يختموا عليهما، فلمّا أصبح أرسل إلى السائب فأتاه فقال: ويلك تنازعنى دينى؟ إنّما دعوتنى إلى النار، فقال السائب: مالى ولك يا أمير المؤمنين، أقلقت فؤادى، قال: أخبرنى عن السفطين، فقال: والله لا كتمتك حرفا، فأخبره. فقال: يا سائب، لمّا أخذت مضجعى جاءتنى ملائكة من ربّى، فملأوا سفطيك نارا، وجعلوا يدفعونهما فى مجرى، وأنا أعاهد الله لأردنّهما على من أفاءهما الله سبحانه عليه، فقدم بهما العراق، فاشتراهما عمرو بن حريث بعطاء المقاتلة والذرية، فباع أحدهما بذلك وربح الثانى (1) وكان أوّل قرشى اعتقر بالكوفة دارا، فتفرّق العجم بعد ذلك فما اجتمعوا.
وفيها أصاب الناس القحط والمجاعة، حتى استسقى عمر بالعبّاس رضى الله عنه، فسقوا، وقيل بل كان ذلك فى سنة ثمانى عشرة، والله أعلم.