الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم جمع ما كان فى عسكر الخوارج، فقسم السلاح والدوابّ بين المسلمين، وردّ المتاع والعبيد والإماء على أهاليهم، ثم خطب الناس، فقال: إنّ الله قد أحسن إليكم، وأعزّ نصركم، فتوجّهوا إلى عدوّكم، فقالوا: يا أمير المؤمنين قد كلّت سيوفنا، ونفدت نبالنا، ونصلت أسنّة رماحنا، فدعنا نستعدّ بأحسن عدّة، ونخرج لأمرك طائعين، وكان الذى كلّمه بهذا الأشعث بن قيس، ثم دخل الكوفة.
وفيها قتل محمّد بن أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه.
ذكر قتلة محمّد بن أبى بكر الصّدّيق
رضى الله عنه
وذلك أنّ محمّد بن أبى بكر كان عاملا على مصر من قبل علىّ عليه السلام حسبما تقدّم من الكلام فى ذلك، وكان قد سيّر ابن [مضاهم](1) الكلبى فى جيش إلى أهل خربتا، فأفشلوا، فهزم أهل خربتا ابن مضاهم، وقتلوه، وهزموا (308) جيشه، وفسدت مصر على محمّد بن أبى بكر، فبلغ ذلك عليّا، فقال: ما لمصر إلاّ أحد الرجلين: صاحبنا الذى عزلناه عنها، يعنى قيسا، أو مالك ابن الحارث، يعنى الأشتر.
وكان علىّ لمّا انصرف من صفّين ردّ الأشتر إلى عمله بالجزيرة، فكتب إليه وهو يومئذ بعمله أن أقدم علىّ، فقدم عليه، فعقد له على مصر، فبلغ معاوية الخبر
فعظم عليه، وقد كان طمع فى مصر، قال: فبعث إلى [الجايستار](1)، وهو رجل من أهل الخراج، فقال له: إنّ الأشتر سيقدم عليك طالبا مصر، فإن أنت كفيته لم آخذ منك خراجا ما بقيت، فاحتل عليه بما قدرت، قال: فخرج [الجايستار](1) حتى أتى القلزم، فأقام به حتى قدم الأشتر من العراق طالبا مصر، فلمّا انتهى إلى القلزم تلقاه [الجايستار](1)، فقال: أيّها الأمير، هذا منزل وطعام وعلف، وأنا رجل من أهل الخراج، فنزل عنده، فقدّم له طعاما، حتى إذا أكل، أتاه بشربة من عسل، قد برّد بماء، وكان الأشتر يحبّ ذلك، وجعل فيه سمّا قاتلا، فكان سبب موته، وأقبل معاوية يقول للناس من أهل الشام: أيّها النّاس، إنّ عليّا قد وجّه الأشتر إلى مصر، فادعوا الله أن يكفيكموه، فكانوا كلّ يوم يدعون على الأشتر، وقدم [الجايستار](1) على معاوية، وعرّفه بموت الأشتر، فقال: إنّ لله جندا منهم العسل، فصارت مثلا.
ثم قام خطيبا، وقال: أمّا بعد، فإنّه قد كان لعلىّ بن أبى طالب يداز، فقطعت إحداهما يوم صفّين، يعنى عمّار بن ياسر، وقطعت الأخرى اليوم، يعنى الأشتر، ثم وجّه [عمرو بن العاص إلى مصر](2) فى أربعة آلاف (3)، ووجّه معه ابن حديج، وأبا الأعور السلمى.
ولمّا قارب عمرو مصر، قام محمّد بن أبى بكر فى أهل مصر خطيبا، وانتدب (309) النّاس لحرب عمرو بن العاص، فانتدب معه نحوا من ألفى رجل،
واستقبل عمرو بن العاص كنانة بن بشر، وهو على مقدّمة محمّد بن أبى بكر، فلمّا دنا عمرو من كنانة سرّح الكتائب، فجعل كنانة لا يأتيه من كتائب أهل الشام كتيبة إلا شدّ عليها بمن معه، فيردّهم إلى عمرو، ففعل ذلك بهم مرارا، فلمّا رأى عمرو ذلك بعث إلى معاوية بن حديج فأتاه فى مثل الدهم، فأحاطوا بكنانة، واجتمع أهل الشام عليهم من كل جانب، فلمّا رأى كنانة ذلك نزل عن فرسه، ونزل معه أصحابه وكنانة يقرأ:{وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً»} (1) الآية، ولم يزل يضاربهم بسيفه حتّى استشهد.
وأقبل عمرو بن العاص نحو محمّد بن أبى بكر وقد تفرّق عنه أصحابه، فلمّا رأى محمّد ذلك، خرج يمشى فى الطريق حتى انتهى به إلى خربة فى ناحية الطريق، فآوى إليها، وجاء عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط، وخرج معاوية ابن حديج فى خيله فى طلب محمّد بن أبى بكر، حتّى انتهى إلى قارعة الطريق، فسأل من الناس هل مرّ بكم أحد تستنكرونه، فقال أحدهم: لا والله، إلاّ أنى دخلت تلك الخربة، فإذا أنا برجل جالس [فيها، فقال ابن حديج:](2) هو وربّ الكعبة، قال (3): فانطلقوا يركضون، حتّى دخلوا عليه فاستخرجوه، وقد كاد يموت عطشا، فأقبلوا نحو الفسطاط.
قال: ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبى بكر إلى عمرو بن العاص، وكان معه فى الجند، فقال: أيقتل أخى صبرا؟ ابعث إلى ابن حديج فانهه، فبعث عمرو
ابن العاص إلى ابن حديج، يأمره أن يبعث بمحمّد إليه، فقال معاوية بن حديج:
قتلتم كنانة بن بشر، وأخلّى أنا محمّد بن أبى بكر؟ هيهات هيهات، {أَكُفّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ»} (1)، فقال لهم محمّد بن أبى بكر (310):
اسقونى شربة من الماء، فقال له ابن حديج: لا سقى الله من يسقيك قطرة من الماء، أنتم منعتم عثمان أن يشرب الماء، وقتلتموه صائما محرّما، فتلقّاه الله بالرحيق المختوم، والله لأقتلنّك يا ابن أبى بكر، حتّى يسقيك الله الحميم والغسّاق، فقال له محمّد بن أبى بكر: يابن اليهوديّة النسّاجة، ليس ذلك إليك، ولا إلى من ذكرت، إنّما ذلك إلى الله عز وجل، أما والله لو كان سيفى فى يدى ما بلغتم بى هذا!
فقال له ابن حديج: أتدرى ما أصنع بك؟ أدخلك فى جوف حمل، ثم أحرقه بالنار، فقال له محمّد بن أبى بكر: إن فعلتم بى ذلك فطالما فعلتم (2) ذلك بأولياء الله تعالى، وإنّى لأرجو أن تكون هذه النار التى تحرقنى بها [أن](3) يجعلها الله عز وجل [علىّ](3) بردا وسلاما، كما جعلها على خليله إبراهيم، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نمرود وأوليائه، وأن الله عز وجل ليحرقك ومن ذكرته، يعنى معاوية بن أبى سفيان، وهذا، وأشار إلى عمرو بن العاص، بنار تلظّى عليكم كلما خمدت (4) زادها الله سعيرا.
فقال له ابن حديج: إنّما أقتلك بعثمان، فقال له محمّد: وما أنت وعثمان، إنّ عثمان عمل بالجور، ونبذ حكم القرآن، وقد قال الله عز وجل:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ»} (1)، {فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ»} (2)، {وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ»} (3)، فنقمنا ذلك عليه، فقتلناه، [وحسّنت](4) أنت له ذلك [ونظراؤك](5)، فقد برّ أنا الله إن شاء الله من دمه، وأنت شريكه فى إثمه وعظم ذنبه. قال: فغضب ابن حديج، وقتله، ثم ألقاه فى جوف حمار ميّت، ثم أحرقه بالنار، فلما بلغ ذلك عائشة رضى الله عنها جزعت جزعا شديدا، وأقامت شهرا تدعو على معاوية، وعمرو بن العاص دبر كلّ صلاة، وأخذت عيال محمّد (311) إليها، فكان القاسم بن محمّد بن أبى بكر فى عيالها.
وقد كان محمّد بن أبى بكر قد نفّذ إلى علىّ-عليه السلام-يستنجده، فمدّه بمالك بن كعب فى ألفين، فسار خمسا، ثم إنّ الحجّاج بن غزيّة الأنصارى قدم على علىّ عليه السلام من مصر، وكان حاضرا بما جرى، وعاين هلاك محمّد ابن أبى بكر رضى الله عنه، ثم قدم عبد الرحمن شبيب الفزارى، وكان عينه بالشام، فعرّفه أن البشر أقدمت على معاوية بن أبى سفيان بقتل محمّد بن أبى بكر رحمه الله، وقال: يا أمير المؤمنين: لم أر قوما قط أشدّ سرورا من أهل الشام، حين أتاهم قتل محمّد بن أبى بكر، فقال على عليه السلام: إنّ حزننا عليه بقدر سرورهم لا بل يزيد أضعافا، ثم استرجع.