الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فرش حتى يأخذوا بدم عثمان، ويقتلوا قتلته، أو يقتلوا دون ذلك.
ومن رواية المسعودى (1): لمّا قدم جرير بن عبد الله عائدا من عند معاوية إلى علىّ عليه السلام أخبره أنّ أهل الشام مجتمعون على معاوية وعلى بيعته، وعلى قتال علىّ، وأنّهم يبكون على عثمان، ويقولون: علىّ قاتله، وآوى قتلته، وأنّهم لا ينتهون عنه حتى يقتلهم أو يقتلوه.
فقال الأشتر لعلىّ: قد كنت نهيتك أن تبعث هذا (2) الأعور، وأخبرتك عداوته وغشّه، ولو كنت بعثتنى كان خيرا من هذا الذى أقام عنده، حتى لم يدع بابا نرجو فتحه إلاّ أغلته، ولا بابا نرجو علقه إلاّ فتحه، فقال له جرير:
لو كنت ثمّ لقتلوك، لقد ذكروا أنّك من قتلة عثمان، فقال الأشتر: لو أتيتهم والله يا جرير لم يعينى جوابهم، ولكنت حملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر، ولو أطاعنى فيك أمير المؤمنين لحبسك وأشباهك، حتّى يستقيم هذا الأمر، قال: فخرج جرير إلى قرقيسياء، وكتب إلى معاوية، فكتب إليه معاوية يستقدمه، فكان ذلك.
ذكر سبب قدوم عمرو بن العاص على معاوية
قال الطبرى فى تأريخه (3)، وغيره من أهل التّاريخ: إنّ معاوية رضى الله عنه لما استشار قومه وعشيرته فى قتال علىّ كرم الله وجهه، فقال له أخوه عتبة
ابن أبى سفيان: هذا أمر لا يتمّ لك إلاّ بعمرو بن العاص، فإنّه فريع زمانه فى تدبّر الأمور وإحكامها، وهو يخدع ولا يخدع، وقلوب أهل الشام مائلة إليه، فقال معاوية: صدقت، ولكنّ ميله إلى علىّ بن أبى طالب أكثر، ومحبّته له أثرّ، وأخشى أنه لا يجيبنى إلى ما أريد، فقال: اخدعه بالأموال، وولاية مصر!
فكتب إليه معاوية يقول: من معاوية بن أبى سفيان (284) خليفة عثمان ابن عفّان إمام المسلمين، وخليفة رسول ربّ العالمين، ذى النورين، وصاحب جيش العسرة، وبئر رومة، المعدوم الناصر، الكبير الخادل، المحصور فى منزله، المقتول عطشا وظلما فى محرابه، المعذّب بأسياف الفسقة، إلى عمرو بن العاص، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقته، وأمير عساكره، المعظّم رأيه، المجرّب تدبيره، أما بعد:
لم يخف عليك احتراق قلوب المؤمنين بما أصيبوا من الفجعة بقتلة عثمان، وما ارتكب فيه جاره حسدا وبغيا، بامتناعه عن نصرته، وخذلانه إيّاه، وإشلاء (1) الغارة عليه، حتّى قتلوه فى محرابه، فيالها من مصيبة عمّت جميع المسلمين، وفرضت عليهم طلب دمه ممّن قتله، وأنا أدعوك اليوم إلى الحظّ الأجزل من الثواب، والنصيب الأوفر من حسن المآب، بقتال من آوى قتلة عثمان بن عفّان.
فكتب إليه عمرو بن العاص يقول: من عمرو بن العاص صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاوية بن أبى سفيان، أمّا بعد: فقد وصل كتابك وقرأته وفهمته، فأمّا ما دعوتنى إليه من خلع ربقة الإسلام من عنقى، والتهوّر فى الضلالة معك، وإعانتى إيّاك على الباطل، واختراط السيف فى وجه علىّ رضى الله عنه
أخى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصيّه، ووارثه، وقاضى دينه، ومنجز وعده، وزوج ابنته سيدة نساء أهل الجنّة، وأمّ السبطين الحسن والحسين، سيّدى شباب أهل الجنّة، فكيف لى بذلك؟ وقولك إنّك خليفة فقد صدقت، ولكن تبيّن اليوم عزلك، ببيعة غير من استخلفك، فزالت خلافتك بزوال خلافته، وأمّا ما عظّمتنى به ونسبتنى إليه من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع جميع ما ذكرت فلا أغترّ بالتزكية ولا أميل بها عن الله، وأمّا ما نسبت (285) أبا الحسن أخا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه من الحسد والبغى على عثمان رضى الله عنه وسمّيت الصحابة فسقة، وزعمت أنّه أشلاهم على قتله، فهذا كذب محض، وهو أنّه ليس كذلك.
ويحك يا معاوية، أما علمت أنّ أبا الحسن بذل نفسه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبات على فراشه، وهو صاحب السبق إلى الإسلام، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«هو منّى كهارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبىّ بعدى» ، وقد قال فيه يوم غدير خم:
«ألا من كنت مولاه فعلىّ مولاه، الّلهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه كيف ما دار» ، وهو الّذى قال فيه عليه السلام يوم خيبر:«لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله» ، فكان هو، وهو الذى قال فيه يوم الطير:«الّلهمّ ائتنى بأحبّ خلقك إليك» فلمّا دخل علىّ قال عليه السلام: «وال وال» .
وقد علمت يا معاوية ما أنزل الله تعالى فى كتابه العزيز من الآيات المتلوّات فى فضيلته، التى لم يشرك فيها أحدا غيره وهو قوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}
{وَيَخافُونَ يَوْماً»} (1) الآية، وقوله تعالى:{إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ»} (2) الآية، وقوله تعالى: لرسوله: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً»} (3)، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أما ترضى أن يكون سلمك سلمى، وحربك حربى، وتكون أخى ووليّى فى الدنيا والآخرة يا أبا الحسن؟ من أحبّك فقد أحبّنى، ومن أبغضك فقد أبغضنى، ومن أحبّك أدخله الله الجنّة، ومن أبغضك أدخله الله النار» ، وكتابك يا معاوية إنّما يخدع من لا له عقل ولا دين، والسلام.
وكتب فى آخره يقول:
جهلت ولم تعلم محلّك عندنا
…
فأرسلت شيئا من خطاب ولم تدر
(286)
فثق بالّذى عندى لك اليوم آنفا
…
من الخير والإحسان والجاه والقدر
وإن كنت فى ريب بما قد ذكرته
…
فاكتب بمنشور كريم على مصر
أليس صغيرا ملك مصر ببيعة
…
هى العار فى الدنيا إلى آخر العمر
فإن كنت ما تدرى فتلك مصيبة
…
وأعظم حسراتى إذا لم تكن تدرى
قال: فكتب له معاوية منشورا على مصر، وأنفذه إليه، فلمّا وصل إليه بقى عمرو مفكرا لا يدرى ما يفعل، حتى ذهب عنه النوم، وتمثّل يقول:
تطاول ليلى بالهموم الطوارق
…
وصادفت من دهرى وجوه البوائق
أأخدعه والخدع فيه سجيّة
…
أم أعطيه من نفسى نصيحة صادق
أأقعد فى بيتى وفى ذاك راحة
…
لشيخ يخاف الموت فى كلّ بارق
فلمّا أصبح دعا وردان مولاه، وكان وردان رجلا عاقلا لبيبا، فشاوره فى ذلك، فقال له وردان: إنّ مع علىّ آخرة ولا دنيا معه، وهى التى تبقى لك، وإنّ مع معاوية دنيا ولا آخرة معه، وهى الّتى لا تبقى عليك، فاختر لنفسك أيّهما أحببت، قال: فتبسّم عمرو، وتمثل يقول:
لا قاتل الله وردانا وفطمته
…
لقد أصاب الذى فى القلب وردان
لما تعرضت الدنيا عرضت لها
…
بحرص نفس وفى الأطماع حرمان
نفس تعفّ وأخرى الحرص يمنعها
…
والمرء يأكل تينا وهو عريان (1)
أما علىّ فدين ليس يشركه
…
دنيا وذاك له دنيا وسلطان
فاخترت من طمعى دنيا على بصرى
…
وما معى بالّذى أختار برهان
إنى لأعرف ما فيها وأبصره
…
وفىّ أيضا لما أهواه ألوان
لكنّ نفسى تحبّ العيش فى شرف
…
وليس يرضى بذلّ النّفس إنسان
قلت: لست أظنّ هذه الأشعار من كلام عمرو بن العاص رضى الله عنه،
(287)
ولا هذا الكلام السخيف، لما فيه من القصور عن بلاغة تلك الأقوام، رضى الله عنهم، ولعلّه مفتعل عليهم من بعض المتوالين، والله أعلم.
ثم إنّ عمرا رحل طالبا معاوية، فمنعه عبد الله ولده، ومولاه وردان فلم يمتنع حتّى إذا كان بمفرق الطريقين: طريق العراق وطريق الشام، فقال له وردان:
طريق العراق طريق الآخرة، وطريق الشام طريق الدنيا، وإن نحن منقلبون عنها، فأيّهما تسلك وفّقك الله؟ فقال: طريق الشام يا وردان، والربّ مسامح وغفور، فقم! حتى لحق بمعاوية رضى الله عنهما.
ولنعد إلى أخبار حرب صفّين، بحول الله وقوّته وبركة إلهامه، قال الطبرى (1) رحمه الله: وخرج علىّ عليه السلام حتى خيّم بالنخيلة، وقدم عليه عبد الله بن عبّاس بأهل البصرة، فسار علىّ كرّم الله وجهه حتى عبر آخذا على طريق الجزيرة، وعبر الفرات، وكان (2) مسيره من الكوفة لخمس خلون من شوال سنة ستّ وثلاثين، واستخلف على الكوفة أبا مسعود عقبة بن [عامر](3) الأنصارى، واجتاز فى طريقه بالمدائن إلى الأنبار، حتى نزل الرقّة، فعقد له هناك جسر، فعبر إلى جانب الفرات من ناحية الشام، وقد تنوزع فى عدّة من كان معه، فمكثّر ومقلل، والمتّفق عليه أنّ جميع جمعه سبعون (4) ألفا، وقيل تسعون ألفا.
فلمّا بلغ معاوية سير علىّ عليه السلام استشار عمرا، فقال له: إنّه سار إليك بنفسه، فسر إليه بنفسك، ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك، فقال: إذا جهّز الناس، فصار عمرو يحرض الناس على قتال علىّ كرّم الله وجهه ويضعّفه عندهم، ويقلّل أمر أصحابه وأتباعه.
وأقبل معاوية فى جيوش الشّام، واختلف أيضا فى جموع معاوية، فمقلّل ومكثّر، والمتّفق عليه (288) من جموعه خمسة وثمانون ألفا، فلمّا تراءى الجمعان، نزل معاوية وأصحابه منزلا اختاروه، فكانت الشريعة بأيديهم، وكان على خيل معاوية أبو الأعور السلمى، وأجمعوا رأيهم أن يمنعوا أصحاب علىّ عليه السلام الماء، قال: ففزع النّاس إلى أمير المؤمنين علىّ كرّم الله وجهه فأخبروه بذلك، فقال عليه السلام: ادعوا لى صعصعة بن صوحان، فلمّا حضر، قال: امض إلى معاوية وقل له: إنّا سرنا [مسيرنا](1) هذا إليكم، ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، وإنّك قد قدمت علينا بخيلك ورجلك، تقاتلنا (2) قبل أن نقاتلك، ونحن ما رأينا إلاّ الكفّ عنك، حتّى ندعوك ونحتج عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها: قد حلتم بين الناس وبين الماء، والناس غير منتهين أو يشربوا، فابعث إلى أصحابك فليخلّوا بين الناس وبين الماء، وليكفّوا حتى ننظر فيما يعود صلاحه على الفئتين، وإن أعجبك أن تترك الناس يقتتلون على الماء حتّى يكون الغالب هو الشّارب فعلنا.
فقال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ فقال الوليد بن عقبة: امنعهم الماء كما منعوه عثمان بن عفّان، فقال عمرو بن العاص: خلّ بينهم وبين الماء، فإنّ القوم لن يعطشوا وأنت ريّان، ولكن [بغير](1) الماء انظر فيما بينك وبينهم، فأعاد الوليد مقالته، وقال عبد الله بن أبى سرح: امنعهم الماء إلى الليل، فإنّهم إن لم يقدروا عليه رجعوا وإن رجعوا كانت ذلّة لهم وكسرة عليهم، امنعهم الماء، منعهم الله يوم القيامة من حوض الكوثر، فقال صعصعة: إنّما يمنعه الله يوم القيامة الفجرة المكرة أولى الفجور، وشربة الخمر، ضربك وضرب أمثالك مثل هذا الفاسق، وأشار إلى الوليد بن عقبة.
قال: فتواثبوا إليه يشتمونه ويهددونه، (289) فقال معاوية: كفّوا عن الرجل فإنّه رسول، فلما رجع صعصعة إلى علىّ عليه السلام وأصحابه حدّثهم بما قال معاوية، وما ردّ به عليهم، قال: فما الّذى رد عليك معاوية؟ قال: قلت له:
ماذا ترد به علىّ؟ فقال: سيأتيكم رأى، قال: فو الله ما راعنا إلاّ [تسريته](2) الخيل [إلى](3) أبى الأعور السلمى أن كفّهم عن الماء، قال: فأبرزنا علىّ إليهم فارتمينا، ثم اطّعنّا، ثم اضطربنا بالسيوف ساعة، فنصرنا الله عليهم، وصار الماء فى أيدينا دونهم، فقلنا: لا والله لا نسقيكم القطرة، فارجعوا بخيبتكم إلى عسكركم فأرسل إلينا علىّ عليه السلام يقول: خذوا من الماء حاجتكم وخلّوا عنهم، فإنّ الله تعالى قد نصركم عليهم.
وذكر المسعودى فى تأريخه (1) أنّ الماء صار فى حوز أصحاب علىّ عليه السلام، قال معاوية لعمرو بن العاص: يا أبا عبد الله، ما ظنّك بالرجل، أتراه يمنعنا الماء كما منعناه إيّاه؟ فقال له عمرو: لا يفعل، إنّه الرجل جاء إلى غير هذا، وإنّه لا يرضى، أو تدخل فى طاعته، أو يقطع حبل عاتقك، قال (2): فأرسل إليه معاوية يستأذنه فى وروده الماء، فأذن له، وأباحه [على](3) ذلك.
قال الطبرى (4): ومكث علىّ رضى الله عنه يومين لا يرسل إلى معاوية أحدا، وكذلك معاوية أيضا، ثم إنّ عليّا عليه السلام دعا بشير بن عمرو الأنصارى، وسعيد بن قيس الهمدانى، وشبيب النميرى، وقال لهم: ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله، وإلى الطاعة والجماعة، فقال شبيب (5) بن ربعى: يا أمير المؤمنين ألا تطمعه فى سلطان [توليه](6) إيّاه، فيكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك؟ فقال علىّ عليه السلام: ائتوه واحتجّوا عليه، وانظروا ما رأيه! وهذا فى أول ذى القعدة (7).
قال: فأتوه، ودخلوا عليه، قال: فتكلّم أبو عمرة بشير بن عمرو، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وصلّى على النبى صلى الله عليه وسلم (290) وقال: يا معاوية إنّ الدنيا عنك زائلة، وإنّك راجع إلى الآخرة، وأن لا بدّ أن يحاسبك الله عزّ وجلّ
بعملك، ويجازيك بما قدّمت يداك، وإنّى أشدك الله، لا تفرّق جماعة اجتمعوا فى الله، وأن تحقن دماء هذه الأمّة.
قال: فقطع عليه معاوية الكلام وقال: فهلاّ أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال أبو عمرة: إنّ صاحبى ليس مثلك، وإنّه أحقّ بهذا الأمر منك لفضله وسابقته، وقرابته، وتفدّمه فى الإسلام، قال: فماذا تقول؟ قال: آمرك بتقوى الله تعالى، وإجابة ابن عمّك إلى ما يدعو إليه من الحقّ، فإنّه أسلم لك فى دنياك، وخير لك فى آخرتك.
قال معاوية رضى الله عنه: وبطل (1) دم عثمان؟ لا والله لا أفعل ذلك أبدا، قال: فذهب سعد بن قيس يتكلّم فبادره شبيب بن ربعى، فتكلّم، وحمد الله تعالى وصلّى على نبيّه صلى الله عليه وسلم وقال: يا معاوية، إنّى قد فهمت ما رددت على ابن محصن، على أنّه ما يخفى علينا ما تعزو وما تطلب، إنّك لن تجد شيئا تستهوى (2) به الناس، وتستميل به قلوبهم وأهواءهم، وتستخلص به طاعتهم إلاّ قولك: قتل إمامكم مظلوما، فنحن نطلب بدمه، فاستجاب لك سفهاء [طغام](3)، وقد علمنا أنّك أبطأت عنه بالنصرة، وأحببت أن تكون بهذه المنزلة التى أصبحت تطلب أمرا، وطالبه، يحول الله دونه (4)، وربّما أوتى المتمنّى أمنيته، وو الله ما لك فى واحدة [منهما](5) خير، والله لئن أخطأك ما ترجو لأنّك شرّ العرب حالا فى ذلك،
ولئن أصبت ما تتمنّى لا تصبه حتّى تستحقّ من ربّك صلىّ النار، فاتّق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه، ولا تنازع الأمر أهله.
قال: فتكلّم معاوية وحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وصلّى على النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال: أما بعد، فإنّ أوّل ما عرفت به سفهك وقلّة حلمك قطعك على (291) هذا الحسيب الشريف سيّد قومه منطقه، ثم عتبت فيما لا علم لك به، فقد كذبت ولوّ مت أيّها الأعرابى الجلف الجافى فى كلّ ما ذكرت ووصفت، انصرفوا فليس بينى وبينكم إلاّ السيف! وغضب وحرّج، وخرجوا من عنده، وشبيب بن ربعى يقول: أفعلينا تهوّل بالسّيف؟ فلنعجلنّ به إليك، وأتوا عليّا، وأخبروه بالذى كان من قوله.
ثم كانت الحروب بينهم، وأخذ علىّ عليه السلام يأمر الرجل ذا الشرف ليخرج ويخرج معه جماعة، ويخرج إليهم من أصحاب معاوية آخر، ومعه جماعة فيقتتلان فى خيلهما ورجلهما، ثم ينصرفان، وأخذوا يكرهون أن يلقوا جميع أهل العراق بجميع أهل الشام (1)، لما يتوخون من أن يكون ذلك سببا لا ستئصال جميعهم وهلاكهم.
وكان علىّ رضى الله عنه يخرج لهم مرّة مالك الأشتر، ومرّة حجر بن عدى الكندى، ومرّة شبيب بن ربعى النميرى، ومرّة خالد بن النعمان (2)، ومرّة زياد ابن [النضر [(3) الحارثىّ، ومرّة زياد بن [خصفة التيمى](4)، ومرّة [سعيد](5)
ابن قيس الهمدانى، ومرّة معقل بن قيس الرياحى، ومرّة [قيس بن سعد](1) الأنصارى، وكان أكثر القوم خروجا الأشتر النخعى.
وكان معاوية رضى الله عنه أيضا يخرج إليهم عبد الرحمن المخزومى، ومرّة أبا الأعور السلمى، ومرّة حبيب بن [مسلمة](2) الفهرى، ومرّة ابن ذى الكلاع الحميرى، ومرّة عبيد الله بن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، ومرّة شرحبيل ابن السمط الكندى، ومرّة حمزة بن مالك الهمدانى، فاقتتلوا ذا القعدة (3) بأسره، وربّما اقتتلوا فى اليوم مرّتين أوّله وآخره.
قال الطبرى (4): وذكر من حضر وشهد حرب صفّين، قال: خرج الأشتر يوما يقاتل (292) بصفّين فى رجال من القرّاء، ورجال من فرسان العرب، فاشتدّ قتالهم، قال: فخرج علينا رجل لم أر والله رجلا قطّ مثله فى هول القامة والمنظر، ولا أعظم منه. فدعا المبارزة، فلم يخرج إليه إلاّ الأشتر، فتجاولا واختلفا ضربتين، فضربه الأشتر فقتله، فأيم الله لقد كنّا أشفقنا على الأشتر منه، [وسألناه ألاّ](5) يخرج إليه، فلمّا قتله الأشتر خرج آخر، فقال: أقسم بالله لأقتلنّ قاتلك أو ليقتلنّى، فعطف عليه الأشتر فضربه، فإذا هو بين يدى فرسه، وحمله أصحابه، فاستنقذوه جريحا.