الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تبعتك إذ عينى عليها غشاوة
…
فلما انجلت قطّعت نفسى ألومها
فما بى إن أقصيتنى من ضراعة
…
ولا افتقرت نفسى إلى من يلومها
عطفت عليك النّفس حتّى كأنّما
…
بكفيّك يجرى بؤسها ونعيمها
ورحل، فأرسل إليه عبد الملك فردّه، وقال: يا حارث، أترى على نفسك غضاضة فى وقوفك على بابى؟ فقال: لا، ولكن طالت غيبتى، وانتشرت ضيعتى، ووجدت فضلا من قول، فقلت، فقال: كم دينك؟ قال: ثلاثون ألفا، قال:
فاختر إمّا قضاءها عنك، أو توليتك مكّة، فاختار الولاية، فقدم مكّة، وبها عائشة بنت طلحة، فأرسلت إليه وقد أقيمت الصلاة، أنّى لم أقض طوافى، فاصبر، حتى أفرغ، وألحق بالجماعة، فقام بالناس ينتظر فراغها من الطواف، فكتب بذلك لعبد الملك، فعزله.
وناحت عائشة بنت طلحة على زوجها عمر قائمة، فقيل لها: لم تفعلى ذلك بأحد من أزواجك، فقالت: فعلته لثلاث خلال: كان أقربهم بى رحما، وكان سيّد بنى تيم، وعزمت ألاّ أتزوّج بعده.
ولعائشة هذه أخبار دقيقة تشتمل على معان رقيقة، مع عمر بن أبى ربيعة المخزومى الشاعر، نأتى منها طرفا عند ذكر عمر المذكور، إن شاء الله تعالى.
وقتل يوم الجمل الزّبير، رحمه الله.
ذكر الزّبير وأخباره ومقتله
(266)
الزّبير يكنى أبا عبد الله بن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى ابن قصىّ، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قصىّ بن كلاب، وأمّه صفيّة بنت عبد المطّلب، عمّة النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو حوارىّ (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الزّبير رابع الإسلام، أو خامسه، أسلم رابعا أو خامسا، دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبى أنت وأمّى، إلى ماذا تدعو؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّى رسول الله، قال: فإنّى أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّك رسول الله، صلّى الله عليك. ثم قال: يا رسول الله، إن شئت لنباديهم بالإسلام ولا نستسرّ به، فإننّا على حقّ وهم على باطل، فقال عليه السلام: إنّا لم نؤمر بالقتال بعد.
قال (1): وشهد الزبير بدرا وهو ابن تسع عشرة سنة، وقيل: ابن ستّ عشرة سنة، ولم يتخلّف عن غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت على الزبير يوم بدر عمامة صفراء، قد اعتجر بها، وكانت يومئذ على الملائكة عمائم صفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«نزلت الملائكة اليوم على سيما الزبير، وهو أسد الله وأسد رسوله» .
رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير فى قميص حرير.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «من يأتينى بخبر القوم» ؟ قال الزبير:
أنا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ لكلّ نبىّ حواريّا، وإن حواريى الزبير.
ولما قتل عمر بن الخطّاب رضى الله عنه محا الزبير نفسه من الديوان.
وفداه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب بأبويه (2).
قال عبد الله بن الزبير: لمّا كان يوم الجمل دعانى أبى الزبير، فقال: يا بنىّ، إنّه لا يقتل اليوم إلاّ ظالم أو مظلوم، وإنّى لا أرانى إلاّ سأقتل مظلوما، وإنّ أكبر همّى دينى، وما أرى ديننا (267) يبقى من أموالنا شيئا، ثم يا بنىّ بع مالى، واقض دينى، فإن فضل بعد قضائه شئ فثلثه لولدك، وإن عجزت عن شئ من دينى، فاستعن بمولاى، قلت: ومن مولاك يا أبه؟ قال: الله تبارك وتعالى، قال عبد الله: فما وقعت من دينه فى كربة إلاّ قلت: يا مولاى، اقض عنه، فيقضيه الله سبحانه وتعالى.
ولم يدع الزبير إلاّ أرضين، منها الغابة (1)، وإحدى عشرة دارا بالمدينة، ودارا بالكوفة، ودارا بمصر، ودارين بالبصرة، ولم يتولّ الزبير إمارة قطّ، ولا جباية، ولا خراجا، إلا أن يكون فى غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو مع أبى بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم.
قال عبد الله: فحسبت ما عليه من الدين، فبلغ ألفى ألف ومائتى ألف درهم، وإنّما كان الرجل يستودعه المال، فيقول الزبير: هو سلف علىّ، إنّى أخشى عليه الضيعة، قال عبد الله: فلقينى حكيم بن حزام، فقال: يا ابن أخى، كم على أخى من الدين؟ قلت: مائة ألف، قال: والله ما أرى أموالكم تتّسع لهذا، قلت:
أرأيت إن كان ألفى ألف ومائتى ألف؟ قال: ما أراكم تطيقونها، فإن عجزتم عن ذلك فاستعينوا بى.
وكان الزبير اشترى الغابة بمائة ألف وسبعين ألفا، فبيعت بألف ألف وستّمائة
ألف. ثم قلت: من كان له على الزبير دين فليأتنا [بالغابة](1)، قال: فأتانى عبد الله بن جعفر، وكان له عليه مائة ألف، فقال: إن شئتم تركتها لكم، فقلت: لا، قال: فإن شئتم جعلتموها ممّا يؤخّر إن أخّرتم شيئا، قلت: لا، قال:
فاقطعوا لى قطعة! فقلت: لك من هاهنا إلى هاهنا، فباع منه بدينه، وبقيت منه أربعة أسهم، فبعناها بأربع مائة ألف وخمسين ألفا.
قال: فلما قضيت دينه أتانى ولد الزبير (268) وكانوا تسعة ذكور، وذلك أنّه لمّا ولد الزبير ولده عبد الله، وهو أكبر ولده، قال: إنّى رأيت طلحة سمّى ولده بأسماء الأنبياء، وإنّما أسمّى ابنى بأسماء الشهداء، فسمّاه عبد الله، باسم عبد الله ابن جحش (2)، فلعلّه يستشهد، وسمّى ولده الآخر المنذر، باسم المنذر بن عمرو ابن [خنيس](3)، وسمّى الآخر عروة، باسم عروة بن مسعود الثقفى (4)، وسمّى الآخر حمزة، باسم حمزة بن عبد المطّلب (5)، وسمى الآخر جعفر، باسم جعفر ابن أبى طالب (6)، وسمّى الآخر مصعبا، باسم مصعب بن عمير (7) الليثى، وسمّى الآخر عبيدة بن الحارث (8)، وسمّى الآخر خالدا، باسم خالد بن سعيد (9)، وسمّى
الآخر عمرا، باسم عمرو بن سعيد بن العاص، قتل يوم اليرموك.
قال عبد الله بن الزبير: فأتونى وقالوا: اقسم ميراثنا! فقلت: لا والله حتى أنادى بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا نقضه، فنادى المنادى أربع سنين، ثم قسمت ميراثه، وكان الزبير أربع نسوة، فصار لكلّ امرأة منهنّ من ثمن عقاراته ألف ألف ومائة ألف وكان ثمن ماله أربعة ألف ألف وأربع مائة ألف، وكان الثلثان الّذى اقتسمه الورثة خمسة وثلاثين ألف ألف درهم ومائتى ألف درهم، هذا القول ساقه صاحب كتاب التذكرة الحمدونيّة (1) فى تذكرته، وعليه العهدة فى ذلك.
وأقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير أرضا من أراضى بنى النضير، ذات نخل وشجر، وأقطعه أبو بكر رضى الله عنه ما بين الجرف إلى قباء، وأقطعه عمر العقيق (2)، وكان قد أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر (3) فرسه، فركض الزبير حتى أعيا، ثم رمى السوط، فأقطعه ذلك.
قالت أسماء ابنة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه: لقد تزوّجنى الزبير وما له فى الأرض مال، ولا مملوك، ولا له شئ يملك، إلاّ (269) فرسه، وكنت أعلفه وأكفيه مئونته، وأسوسه، وأدقّ النوى [لناضحه](4)، وأعلفه وأستقى الماء، وأخرز غربه، تعنى دلوه، وما كنت أحسن الخبز، فيخبزن لى جاراتى، قالت
أسماء: وكنت أحمل النوى على رأسى من المدينة، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، والنوى على رأسى، ومعه صلى الله عليه وسلم نفر من أصحابه، فدعانى، ثم قال:«أخ أخ» ، ليحملنى، فاستحييت من الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، وكان الزبير أغير الناس، فعرف صلى الله عليه وسلم أنّى استحييته، فتركنى ومضى، وذكرت ذلك للزبير، فقال: أعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار؟ والله لحملك النوى أشدّ علىّ من ركوبك خلفه، ثم أنفذ لى أبو بكر بعد ذلك خادما، فكفانى مئونة سياسة الفرس، وكأنّما أعتقنى.
قال قتادة: كنت مع الزبير يوم الجمل، فجاءه فارس فسلّم عليه، وقال: أيّها الأمير، وكانوا لا يسلّمون عليه إلاّ بالإمرة، إنّ القوم قد أتوا موضع كذا، فنظرت إليهم، فلم أر قوما أرثّ سلاحا، ولا أقلّ عددا، ولا أرعب قلوبا منهم، ثم جاءه فارس آخر، فقال: أيّها الأمير، إنّ القوم قد وصلوا مكان كذا، فسمعوا بما جمع الله سبحانه لك (1) من العدّة والعدد، فقذف الله فى قلوبهم الرعب، فولّوا مدبرين، فقال الزبير: إيها عنك، فو الله لو لم يجد ابن أبى طالب إلاّ العرفج (2) لدبّ إلينا فيه، ثم جاء آخر، وقد كادت الخيل تخرج من الرهج، فقال:
أيّها الأمير، هؤلاء القوم والله قد أتوك وفيهم عمّار بن ياسر، فقال الزبير: والله؟ ما جعله الله فيهم! فقيل: بلى، قد جعله الله فيهم، (270) فبعث الزبير رجلا من ثقاته ينظر إن كان عمّار فيهم، فأتاه فقال: قد صدقك من أخبرك، فقال الزبير:
واقطع ظهراه، ثم أخذه أفكل (1) حتى انتفض السلاح عليه، فقال الناس: أهذا الذى نقاتل معه؟ أليس هذا فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلمّا تشاغل الناس انصرف فجلس على دابّته عائدا، ثم جاء فارسان إلى الأحنف بن قيس فأكبّا عليه، فقال الأحنف: يا عمرو بن جرموز يا فلان، فأتياه فناجياه، ثم انصرفا، ثم أتى عمرو ابن جرموز، فقال: لقيته بوادى السباع فقتلته، وكان قرّة بن شريك يقول:
والذى نفسى بيده، إن صاحب الزبير إلاّ الأحنف.
ويقال إنّ عليّا عليه السلام دعا الزبير أن يبرز إليه وهو آمن حتى يكلّمه، ففعل، واجتمعا حتى التقت أعناق خيلهما، فقال: يا زبير أنشدك الله، الذى لا إله إلاّ هو، أخرج نبى الله صلى الله عليه وسلم يمشى وخرجت معه أنا وأنت، فقال:«يا زبير لتقاتلنّه ظالما» ، وضرب كتفك، فقال الزبير: الّلهم نعم! قال: أفجئت تقاتلنى؟ فرجع عن قتاله، وسار عن البصرة راجعا ليله، فنزل بماء لبنى مجاشع، فلحقه رجل من بنى تميم يقال له ابن جرموز، فقتله، وجاء بسيفه إلى على كرّم الله وجهه، فقال علىّ:«بشّر قاتل ابن صفيّة بالنّار» ، أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
وأتى ابن جرموز برأسه إلى علىّ، فدفنه مع بدنه بوادى السباع.
وقال علىّ: إنّى لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير، من الذين قال الله
سبحانه فى حقّهم: {وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْااناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ»} (1).
ويقال: إنّ الأحنف هو الذى طعنه، وكان لمّا حمل على الأحنف قال الأحنف: الله الله يا زبير (271) فأمسك الزبير عنه، فحمل ابن جرموز ورجل آخر معه على الزبير، فقال الزبير: قاتلك الله، تذكّرنا بالله وتنساه. فغافصاه حتى قتلاه، واحتزا رأسه، وأخذ ابن جرموز سيفه، وأتى عليّا عليه السلام فلمّا رآه علىّ قال: سيف طالما جلّى به الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنّه الحين ومصارع السوء.
قال جرير للفرزدق:
قتل الزبير وأنتم جيرانه
…
غيّا لمن قتل الزّبير طويلا
ويقال: إنّ الزبير لمّا انصرف لقيه رجل من بنى مجاشع، فقال: يا زبير أنت فى جوارى، فقال الأحنف: يا عجبا للزبير! ألّب بين النّاس ثم نجا بنفسه، فسمعه ابن جرموز، فتبعه حتى قتله.
وكان الأحنف قد أتى طلحة والزبير، فدعواه إلى بيعتهما، والطلب بدم عثمان، ومخالفة علىّ، فقال لهما: أمرتمانى ببيعته، ثم تأمراننى بقتاله، فقالا:
أفّ لك، إنّما أنت فريسة آكل، وتابع غالب.
وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، امرأة الزبير ترثيه:
غدر ابن جرموز بفارس بهمة
…
يوم اللّقاء وكان غير معرّد (1)
يا عمرو لو نبّهته لوجدته
…
لا طائشا رعش البنان ولا اليد
شلّت يمينك إن قتلت لمسلما
…
حلّت عليك عقوبة المتبلّد
ثكلتك أمّك هل ظفرت بمثله
…
فيمن مضى [ممن](2) يروح ويغتدى
كم غمرة قد خاضها لم يثنه
…
عنها طرادك يا بن فقع [القردد](3)
وعاتكة هذه هى التى كان أهل المدينة يقولون: من أراد الشهادة فليتزوّج عاتكة، كانت زوجة لعبد الله بن أبى بكر، ثم زوجة عمر بن الخطّاب، ثم زوجة الزّبير.
وغزا الزبير مصر، فصعد السور وحده (272) وقاتل عليه، وكان فتحها بصعوده.
والزبير أحد من شهد له النبى صلى الله عليه وسلم بالجنّة، وقتل رضى الله عنه وهو ابن ستّين سنة.
وقال عمرو بن جرموز فى قتله للزبير:
أتيت عليّا برأس الزّبي
…
ر أرجو لديه به الزلفة
فبشّر بالنّار إذ جئته
…
فبئس بشارة ذى التحفة
وسيّان عندى قتل الزّبير
…
وضرطة عير بذى الجحفة
ويقال: إنّ الزبير أوّل من سلّ سيفا فى الله عز وجل، وذلك أنّه نفخت نفخة من الشيطان: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل الزبير سوق الناس بسيفه، وكان عليه السلام قد ذهب إلى أعلى مكّة، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«ما لك يا زبير» ، فقال: أخبرت أنك أخذت، فصلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا له ولسيفه.
وقال جرير ينعى على بنى مجاشع قتل الزّبير:
قالت قريش ما أذلّ مجاشعا
…
دارا وأكرم ذا القتيل قتيلا
لو كنت حرّا يا بن قين مجاشع
…
شيعت ضيفك فرسخا أو ميلا
أفبعد قتلكم خليل محمّد
…
ترجو القيون مع الرّسول سبيلا
وقيل: إنّ هذه الأبيات أيضا من قوله:
إنى تذكّرنى الزبير حمامة
…
تدعو ببطن الواديين هديلا (1)
قال محمّد بن جرير الطبرى فى تاريخه (2): ولمّا استقر علىّ بالبصرة بعث عبد الله بن عبّاس إلى عائشة رضى الله عنها، يأمرها بالخروج إلى المدينة، فدخل عليها ابن عبّاس، بغير إذنها، واجتذب وسادة فجلس عليها، فقالت له: يا بن عبّاس، أخطأت السّنة المأمور بها، (273) دخلت علينا بغير إذننا، وجلست على رحلنا بغير أمرنا، فقال لها: لو كنت فى البيت الذى خلّفك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كنّا دخلناه إلاّ بأمرك، ولا جلسنا على رحلك إلاّ بإذنك، إنّ أمير المؤمنين
يأمرك بسرعة الأوبة، والتأهّب للخروج إلى المدينة، قالت: أبيت ما قلت وخالفت ما وصفت، قال: فمضى فأعاد ذلك على علىّ عليه السلام، فردّه إليها، وقال: قل لها إن أنت أبيت تعلمين (1)، فلمّا أخبرها أنعمت، وأجابت إلى الخروج.
قال: وأتاها علىّ عليه السلام فى اليوم الثانى، وبصحبته الحسن والحسين، صلوات الله عليهما، مع بقيّة أولاده وأولاد إخوته، وفتيان من بنى هاشم وغيرهم من شيعته، فلمّا أبصرته النساء صحن فى وجهه، وقلن له: يا قاتل الأحبّة! فقال:
لو كنت قاتل الأحبّة لقتلت من فى هذا البيت، وأشار إلى بيت من تلك البيوت قد اختفى فيه مروان بن الحكم، وعبد الله بن عامر، وعبد الله بن الزبير وغيرهم، فضرب من معه بأيديهم إلى قوائم سيوفهم لما علموا بمن فى البيوت مخافة أن يخرجوا عليه فيقتلوه.
فقالت له عائشة، بعد كلام كثير جدّا بينهما، أضربت عنه: أحبّ أن أقيم معكم، فأسير إلى قتال عدوّك عند مسيرك، فقال لها: بل ترجعى إلى البيت الذى أمرك بلزومه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته أن يؤمّن عبد الله بن الزّبير (2)، قال:
قد أمّنته، ثم أمّن الوليد بن عقبة، وجميع ولد عثمان، وغيرهم من بنى أميّة، ثم أمّن الناس جميعا، وقد كان نادى يوم الوقعة: من ألقى سلاحه فهو آمن، [ومن دخل داره فهو آمن](3).
قال الطبرى: وخرجت عائشة من البصرة يوم السبت لعشر من رجب (1)، سنة ستّ وثلاثين هجريّة، وشيّعها علىّ بنفسه أميالا.
(274)
قال الطبرى (2): ولما فرغ علىّ عليه السلام من بيعة أهل البصرة أمّر عليها عبد الله بن عبّاس، ثم سار إلى الكوفة، فدخلها لاثنتى عشرة ليلة بقيت من رجب، ودخل إلى بيت المال فى جماعة من المهاجرين والأنصار، فنظر إلى ما فيه من العين والورق، فجعل يقول: يا صفراء غرّى غيرى، يا بيضاء غرّى غيرى، وأدام النظر إلى المال مفكّرا، ثم قال: اقسموه بين أصحابى، ومن معى، خمس مائة خمس مائة، ففعلوا فما نقص درهم ولا زاد درهم، وكان عدد من قسم عليهم اثنى عشر ألفا.
وكان قد بعث إلى مصر قيس بن سعد أميرا، حسبما ذكرنا.
قال الطبرى (3): وكان معاوية وعمرو بن العاص رضى الله عنهما جاهدين على إخراج قيس بن سعد من مصر، ليغلبا عليها، وكان قيس شديد النكاية، حسن التدبير، صاحب دهاء، ومكايدة للأعداء، فلم يقدرا عليه بحيلة من الحيل، حتى كاد معاوية قيسا من جهة علىّ عليه السلام.
وذلك أنّ معاوية كان يجد رجالا من ذوى الرأى من قريش، فيقول:
ما ابتدعت مكايدة تطّ كانت أعجب عندى من مكايدة كدت بها قيس بن سعد من قبل علىّ بن أبى طالب، وذلك أنّى كنت أقول لأهل الشّام: لا تسبّوا قيسا،
فإنّه لنا شيعة، وقد أتتنا كتبه بذلك، ونصحه لنا، ألا ترون إلى ما يفعله بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا (1)، يجرى عليهم عطاياهم وأرزاقهم، ويحسن إلى كلّ راكب قدم عليه منكم، فلا تستنكرونه (2) فى شئ.
وكتبت بذلك إلى شيعتى والنواب بالشام، قال: فبلغ ذلك جواسيس علىّ، فأبلغوه عليّا، ونماه إليه محمّد بن أبى بكر، وعبد الله بن جعفر، فاتّهم قيسا، وكتب إليه علىّ عليه السلام يأمره بقتال أهل خربتا، وهم يومئذ نحو من عشرة آلاف، فأبى قيس أن يقاتلهم، وكتب إلى علىّ عليه السلام أنّهم (275) وجوه أهل مصر وأشرافهم، وقد رضوا منّى أن أؤمّن سربهم، وأن أجرى عليهم عطاياهم، وأدرّ عليهم أرزاقهم، وقد علمت أنّ هواهم مع معاوية، فلست مكايدهم بأمر أهون علىّ وعليك من الذى أفعل بهم، فذرنى، فأنا أعلم بما [أدارى](3) منهم.
فأبى عليه إلاّ قتالهم، وأبى قيس أن يقاتلهم، ثم كتب قيس إلى علىّ رضى الله عنه يقول: إن كنت قد اتّهمتنى فأرسل إلى عملك غيرى! فبعث إلى علىّ عليه السلام محمّد بن أبى بكر الصّديق رضى الله عنه أميرا إلى مصر (4)، فلمّا قدم على قيس تلقاه وأنزله وخلا به، وقال: ليس عزلكم إيّاى بمانعى أن أنصح لكم،
وأنا من أمركم هذا على بصيرة، وإنّى أدلّك على الذى كنت أكايد به معاوية وعمرا وأهل خربتا، فكايدهم أنت كذلك، ولا يحدث عليك أمر تخشاه! وأظهره على ما كان يعتمده.
فأغشّه محمّد بن أبى بكر إلى معاوية كتابا يقول فيه ما رواه المسعودىّ (1):
من محمّد بن أبى بكر إلى الغاوى معاوية بن صخر، أمّا بعد، فإنّ الله تعالى بعظمته وسلطانه خلق خلقه من غير عىّ منه (2)، ولا ضعف فى قوّته، خلقهم عبيدا، وجعل منهم غويّا ورشيدا، وشقيّا وسعيدا، اختار على علمه واصطفى، واستحبّ (3) منهم محمّدا المصطفى صلى الله عليه وسلم فانتخبه (4) بعلمه، واصطفاه برسالته، وأمنه على وحيه، وجعله رسولا ومبشّرا ونذيرا، فكان أوّل من أجاب، وآمن وأناب، وصدّق وأسلم وسلّم، أخوه وابن عمّه علىّ بن أبى طالب، صدّقه بالغيب المكتوم، [وآثره](5) على كلّ حميم، ووقاه بنفسه كلّ هول، وحارب حربه، وسالم سلمه، فلم يزل مبتذلا لنفسه فى ساعات الليل والنهار، والخوف (276) والجوع والخضوع، حتى برز سابقا لا نظير له فيمن اتّبعه، ولا مقاربا له فى فعله.
وقد رأيتك تساميه، وأنت أنت، وهو هو: أصدق النّاس نيّة، وأحسنهم سرّا وعلانية، وأفضلهم قربة، وخيرهم زوجة وولدا، أخوه وابن عمّه، ووارث
علمه، عمّه سيد الشهداء يوم أحد، وأبوه الذابّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت اللعين ابن اللعين، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم الغوائل، وتجتهدان فى إطفاء نور الله، تجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان فيه المال، وتؤلّبان عليه القبائل، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون، على ذلك مات أبوك، وعليه خلفته، والشهيد عليك من تدنى، ويلجأ إليك من تعتدّه للنفاق ورءوس الأحزاب، والشاهد لعلىّ فضله القديم المبين أنصار الله ورسوله الذين معه، أكرمهم الله بفضله، وأثنى عليهم فى كتابه من المهاجرين والأنصار، فهم معه كتائب وعصائب، يرون الحقّ فى اتّباعه.
فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعلىّ، وهو وارث رسول الله، ووصيّه، وأبو ولده، أوّل الناس له اتّباعا، وأقربهم به عهدا، يخبره بسرّه، ويطلعه على أمره، وأنت عدوّه وابن عدوّه، فتمتّع فى دنياك ما استطعت بباطلك.
وليمددك ابن العاص فى غوايتك، فكأنّ أجلك قد انقضى، وكيدك قد وهى، ثم يتبيّن لك أنّ العاقبة لعلىّ المرتضى، واعلم أنّك تكايد ربّك الذى قد أمنت مكره، فهو لك بالمرصاد، وأنت منه فى غرور، والسلام على من اتّبع الهدى.
فكتب معاوية رضى الله عنه جوابه يقول: من معاوية إلى الزارى على أبيه محمّد بن أبى بكر، أمّا بعد، فقد أتانى كتابك تذكر فيه ما الله [أهله](1) فى قدرته وعظمته وسلطانه، وما اصطفى به رسوله (277) صلى الله عليه وسلم، مع كلام فيه لك
تضعيف، ولأبيك فيه تعنيف، وذكرت فضل ابن أبى طالب، وقديم سوابقه، وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومواساته إيّاه فى كلّ هول وخوف، فكان احتجاجك علىّ، وعيبك لى، بفضل غيرك لا بفضلك، فأحمده ربّا صرف هذا الفضل عنك، وجعله لغيرك، فقد كنّا وأبوك معنا (1) نعرف فضل ابن أبى طالب، فلمّا اختار الله لنبيّه ما عنده، وأتمّ له ما وعده، وأظهر دعوته، وأبلغ حجّته، وقبضه الله إليه صلوات الله عليه كان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه حقّه، وخالفه على أمره، على ذلك اتّفقا واتّسقا، ثم إنّهما دعواه إلى بيعتهما، فأبطأ عنهما، فهمّا به الهموم، وأرادا به العظيم، ثم إنّه بايعهما وسلّم لهما، فأقاما لا يشركانه فى أمرهما، ولا يطلعانه على سرّهما، حتى قبضهما الله إليه.
ثم قام ثالثهما عثمان، فهدى بهديهما، وسار بسيرهما، فعبته أنت وصاحبك، حتى طمع فيه الأقاصى، من أهل المعاصى، فطلبتما له الغوائل، وأظهرتما عداوتكما حتّى بلغتما فيه منا كما، فخذ حذرك يا ابن أبى قحافة (2)، وقس شبرك بفترك، يقصر عن أن توازى الجبال حلمه، لا تلين على قسر قناته، ولا يدرك ذو مقال [أناته](3)، أبوك مهّد مهاده، [وبنى](4) لملكه وساده، فإن يك ما نحن فيه صوابا، فأبوك أسّسه (5)، ونحن شركاؤه فيه، ولولا فعل ذلك أبوك [من قبل،
ما خالفنا ابن أبى طالب، ولسلّمنا إليه، ولكنّا رأينا أباك] (1) فعل ذلك به من قبلنا، فأخذنا بمثله، فعقّ أباك ما بدا لك، والسلام.
قال المسعودى (2): وخرج قيس بن سعد من مصر لمّا عزل حتى أتى المدينة، فأخافه مروان بن الحكم، والأسود، وجاءه حسّان بن ثابت، وكان حسّان عثمانيّا وقال له: نزعك ابن أبى طالب وقد قتلت عثمان؟ فبقى عليك (278) الإثم، ولم يوف إليك بالشّكر، فقال له قيس: والله يا أعمى القلب والبصيرة، لولا أنّ الذى منّى وبين رهطك، وأجنى بذلك بين قومى وقومك حربا، لعلوت رأسك بهذا السيف فى ساعتى هذه، انزع عنّى، نزعك الله عافيتك، ثم إنّ قيسا خرج، هو وسهل بن حنيف، حتى قدما على علىّ عليه السلام الكوفة، فخبّره قيس بن سعد الخبر، فصدّقه، وعلم أن الذى أشار عليه بعزله لم ينصحه.
قال: وكتب معاوية إلى مروان والأسود يقول لهما: أمددتما عليّا بقيس ابن سعد، ورأيه، ونكايته فو الله لو أنّكما أمددتماه بمائة ألف مقاتل ما كان ذلك بأغيظ لى من إخراجكما قيس بن سعد إلى علىّ بن أبى طالب.
قال (3): وكان جرير بن عبد الله البجلى بهمدان، عاملا عليها لعثمان، فلمّا انصرف علىّ رضى الله عنه من البصرة إلى الكوفة كتب إليه أن يأخذ له البيعة على من قبله، ويقدم عليه، ففعل ذلك، وانصرف إليه معزولا، فلمّا أراد علىّ عليه السلام إنفاذ رسول إلى معاوية، قال جرير بن عبد الله: ابعثنى إليه، فأوهيه فى واد لا يسعه غير الدخول فى طاعتك.
فقال الأشتر النخعى: لا تبعثه، فو الله إنّى لأظنّ هواه مع معاوية، فقال علىّ رضى الله عنه: دعنا حتّى ننظر ما الذى يرجع به إلينا، ووجّهه إلى معاوية، يدعوه إلى طاعة علىّ عليه السلام، وقدم جرير على معاوية، فكلّمه، فأبطأ جوابه عليه، فقال جرير: إنّى رأيتك توقّفت بين الحقّ والباطل وقوف رجل ينتظر رأى غيره، وكذلك فعل معاوية، فإنّه انتظر شرحبيل بن السمط (1) الكندى، فلمّا قال جرير لمعاوية ما قال، قال معاوية لشرحبيل: هذا جرير يدعو إلى بيعة علىّ، فقال شرحبيل: إنما أنت عامل لأمير المؤمنين عثمان رضى الله عنه وابن عمّه (279) وأنت أولى الناس بدمه.
فلمّا سمع ذلك جرير انصرف إلى علىّ رضى الله عنه، وأخبره الخبر، فقال مالك الأشتر: يا جرير، أما أعرف غشّك وغدرك، وكونك بعت دينك لعثمان بولاية همدان؟ فغضب جرير، ولم يحضر صفّين. فأتى علىّ كرّم الله وجهه دار جرير فشعّثها، وأحرق مجلسه، فقال له أبو زرعة بن عمرو بن جرير: أصلحك الله، إنّ فى الدار أنصباء لغير جرير، فأمسك علىّ رضى الله عنه.
وقام أبو مسلم الخولانىّ واسمه عبد الرحمن فقال لمعاوية: لم تقاتل عليّا، وأنت تعلم سابقته وفضله؟ فقال له معاوية: كف، ليدفع إلينا قتلة عثمان، ولا قتال بيننا وبينه، فإنّ عثمان قتل مظلوما محرما، فقال له: اكتب له كتابا!
فكتب معاوية لعلىّ رضى الله عنهما يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، من معاوية إلى علىّ، أمّا بعد، فإنّ الله سبحانه وتعالى اصطفى محمّدا بعلمه ووحيه، وجعله الأمين على وحيه، ثم اجتبى له من المسلمين أعوانا، أيّده بهم، فكانوا فى المنازل عنده على قدر فضائلهم فى الإسلام، فكان أنصحهم لله عز وجل ولرسوله خليفته ثم خليفته، ثم الخليفة الثالث المقتول ظلما عثمان رضى الله عنه، فكلّهم حسدت، وعلى كلّهم بغيت، عرفنا ذلك فى نظرك الشزر، وقولك الهجر، وتنفّسك الصعداء وإبطائك عن بيعة الخلفاء، ولم تكن لأحد منهم أشدّ حسدا [منك] لابن عمّتك، وكان أحقّهم ألاّ تفعل ذلك به، لقرابته وفضله، فقطعت رحمه، وقبّحت حسنه، وأظهرت له العداوة، وبطنت له بالغشّ، وألّبت عليه الناس، حتى ضربت إليه آباط الإبل من كلّ وجه، وقيدت إليه الخيل من كل أفق، وشهر عليه السلاح فى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل معك فى المحلّة، وأنت تسمع الهائعة، لا تدرأ عنه بقول ولا عمل (280) ولعمرى يا ابن أبى طالب، لو قمت فى أمره مقاما ينهى الناس عنه، وتقبح لهم ما انتهكوا، ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا، ولمحا ذلك عنهم ما كانوا يعرفون منك من المجانبة له والبغى عليه وأخرى أنت بها عند أولياء عثمان ظنين: إيواؤك قتلة عثمان، فهم عضدك ويدك وأنصارك.
وقد بلغنى أنّك تتبرأ من دم عثمان رضى الله عنه، فإن كان كذلك فادفع إلينا قتلته لنقتلهم به، ثم نحن أسرع الناس لحاقا بك، وإلاّ فليس بيننا وبينك إلاّ السيوف، فو الّذى لا إله غيره لنطلبنّ قتلة عثمان فى الجبال والرمال والبرّ والبحر، حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله عز وجل.