الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن عبّاس: ولما انقضى أمر الجمل دعا علىّ عليه السلام بآجرّتين، فعلاهما، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: يا أنصار المرأة، وأصحاب البهيمة، رغا فحننتم، وعقر فانهزمتم، نزلتم شرّ (261) بلاد، أبعدها من السماء، وبها مغيض الماء، ولها شرّ أسماء، هى البصرة، والبصيرة، والمؤتفكة، وتدمر.
وقتل فى ذلك اليوم طلحة بن عبيد الله، رضى الله عنه.
ذكر طلحة بن عبيد الله وأخباره ومقتله
طلحة بن عبيد الله من بنى تميم بن مرة، وكان سبب إسلامه رضى الله عنه أنّه حضر سوق بصرى من الشام، فإذا راهب فى صومعته يقول: سلوا هؤلاء القوم أفيهم أحد من أهل الحرم؟ قال طلحة: فقلت: نعم، فقال لى. ظهر أحمد؟ قلت:
من أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطّلب، هذا زمانه وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخل، قال طلحة: فوقع قوله فى قلبى، فلمّا أتيت مكّة قلت: هل كان من حدث؟ قالوا: نعم، محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب الأمين، تنبّأ وتبعه ابن أبى قحافة، قال: فدخلت على أبى بكر فسألته، فقال: نعم وقد اتّبعته، فإنّه يدعو إلى الحقّ، فأخبره طلحة بقول الراهب، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم طلحة، وأخبر النبى صلى الله عليه وسلم بقول الراهب، وسمّى رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة الفيّاض لكرمه، وسمّى أيضا طلحة الخير.
وكان طلحة من أجمل الناس، رأته امرأة يوم دخل البصرة، فقالت: من هذا الذى كأن وجهه دينار هرقلى، وكان لا يغيّر شيبه، سأله رجل شيئا، فقال:
إنّ حائطى بمكان كذا، قد أعطيت فيه ستّمائة ألف، فإن شئت فخذ المال، وإن شئت فخذ الحائط.
سمع علىّ كرّم الله وجهه رجلا ينشد:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه
…
إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
فقال: ذلك طلحة رضى الله عنه.
وثبت طلحة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (262) يوم أحد، وبايعه على الموت، فرمى مالك بن زهير الجشمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم، فاتّقاه طلحة، فأصاب السهم خنصره، فقال: حس، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: لو قال: بسم الله، لدخل الجنّة والناس ينظرون إليه (1)، وهذه الكلمة: حس ممّا تقولها العرب للشئ المؤلم، وجرح طلحة بضعة وثلاثين جرحا، وقال عليه السلام:«من أراد أن ينظر إلى رجل يمشى على الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة» .
وكان طلحة يلبس المصبغات، وهو الذى قال له عمر رضى الله عنه: إنّكم أيّها الرهط يقتدى بكم، فلو رآك جاهل لقال: على طلحة ثياب مصبغات، وإنّما كانا مصبوغين بمدر.
وكانت غلّة طلحة فى كلّ يوم ألف واف، وزن كل درهم درهم وثلث (2)، وقيل كانت غلته بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف، وغلّته بالشراة عشرة آلاف دينار، وكان لا يدع عائلا من بنى تيم إلاّ أغناه وكفاه مئونة عياله ويزوّج أيا ما هم، ويخدم من لا خادم له، وكان يبعث لعائشة إذا جاءته غلّته عشرة آلاف
وترك ألفى ألف درهم ومائتى ألف دينار، وكان ماله قد اغتيل، وكانت قيمة ما ترك من العقار والأموال ثلاثين ألف ألف درهم، ومن الناضّ ألفى ألف درهم ومائتى ألف دينار، والباقى عروض.
ولمّا حضر يوم الجمل قال طلحة: إنّا كنّا داهنّا فى أمر عثمان، فلا أقلّ من أن نبذل فيه دماءنا، الّلهمّ خذ لعثمان منّى حتى ترضى، فلمّا أصابه السهم اعتنق فرسه، وركضه حتى مات فى بنى تيم، ودفن طلحة عند قنطرة قرّة بالبصرة، رحمه الله، وأرضى عنه.
دخل ولد طلحة على علىّ كرّم الله وجهه، فرحّب به (263) علىّ عليه السلام فقال: أترحّب بى يا أمير المؤمنين، وقد قاتلت أبى، وأخذت ماله؟ فقال: أمّا مالك فهو معزول فى بيت المال، فاذهب فخذه، وأمّا قتالى أباك فإنّى أرجو أن أكون أنا وأبوك ممّن قال الله عز وجل فيهم:{وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ»} الآية (1)، وكان الذى قبض من طلحة أرضا له فردّها علىّ رضى الله عنه وردّ غلّتها للسنين الماضية.
وكان لطلحة أولاد، منهم محمّد السجّاد، وقتل يوم الجمل مع أبيه، ولمّا ولد محمّد هذا جاءت به أمّه حمنة بنت جحش رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمّاه محمّدا وكنّاه أبا إسحاق، وقال:«لا أجمع له بين اسمى وكنيتى» ، وكان علىّ رضى الله عنه قد نهى الناس عن قتل محمد هذا، قال: إيّاكم وصاحب البرنس، فقتله شريح ابن أوفى العبسىّ، فلمّا رآه علىّ مقتولا استرجع، وقال: السجّاد؟ وربّ الكعبة هذا الذى قتله برّه بأبيه، وكان أبوه قد أمره بالتقدّم، فتقدّم، ونثل درعه بين
رجليه، ووقف عليها، وكان كلّما حمل عليه رجل قال: نشدتك [بحاميم](1)، فقتله شريح، وقال:
وأشعث قوّام بآيات ربّه
…
قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
ضممت إليه بالقناة قميصه
…
فخرّ صريعا لليدين وللفم
على غير ذنب غير أن ليس تابعا
…
عليّا ومن لا يتبع الحقّ يندم
يناشدنى حاميم والرّمح شاجر
…
فهلاّ تلا حاميم قبل التقدّم
وقيل: قتله الأشتر، ولمّا رأى الحسن صلوات الله عليه جزع أبيه علىّ كرّم الله وجهه على محمّد بن طلحة قال: يا أمير المؤمنين، قد كنت أنهاك عن سيرك هذا، فغلبنى عليك فلان وفلان، فقال يا بنىّ، كان ذلك فى الكتاب مسطورا، وددت لو متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
(264)
خرج علىّ عليه السلام فى ليلة يوم الجمل، ومعه قنبر مولاه، وبيده شمعة يتصفّح وجوه القتلى، فوقف على طلحة فى بطن واد فمسح الغبار عن وجهه، وقال: أعزز علىّ أبا محمّد أن أراك معفّرا فى التراب، تحت نجوم السماء، وبطون الأودية، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثمّ بكى وقال:
شفيت نفسى وقتلت معشرى
…
[إليك](2) أشكو عجرى وبجرى
ومن أولاد طلحة: عائشة بنت طلحة، كانت من أنبل نساء قريش، وأجملهنّ، تزوّجها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصدّيق، ثم خلف عليها مصعب
ابن الزبير، ثم خلف عليها عمر بن عبد الله بن معمر المثنّى، وهى إحدى عقيلتى قريش، قال مصعب بن الزبير لحبىّ المدنيّة: ابغنى أيّما أتزوّجها، قالت: عائشة بنت طلحة، على عظم فى أذنيها وقدميها، فقال: أمّا الأذنان فيغطّيهما الخمار، وأما القدمان فيغطّيهما الخفّان، فتزوّجها، وأصدقها خمس مائة ألف درهم، فقال يونس بن أبى إياس الديلى، ويقال ابن همّام السلولى:
أبلغ أمير المؤمنين رسالة
…
من ناصح ما إن يريد متاعا
بضع الفتاة بألف ألف كامل
…
وتبيت سادات الجيوش جياعا
فلو اننى الفاروق أخبر بالّذى
…
شاهدته ورأيته لارتاعا
وكانت عائشة هذه سيّئة الخلق، تشارّ أزواجها، غضبت يوما على عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبى بكر، وكان أبا عذرتها، فخرجت إلى المسجد، فرآها أبو هريرة رضى الله عنه، فقال: سبحان الله، سبحان الله، ما أحسن ما غذّاك أهلك، أحسن وجها منك.
وقيل لعمر بن عبيد الله بن معمر، وهو آخر أزواجها، لو طلّقتها لاسترحت من سوء خلقها، فقال:
يقولون طلّقها وتصبح ثاويا
…
مقيما عليك الهمّ أضغاث حالم
فإنّ فراقى أهل بيت أودّهم
…
لهم زلفة عندى لإحدى العظائم
وجرت لعائشة هذه مع الحارث بن خالد المخزومى قصّة كانت سبب عزله عن ولاية [مكة](1)؛ وذلك أنّ الحارث المخزومىّ قدم على عبد الملك بن مروان أيّام خلافته، فأقام ببابه ستّة أشهر لا يؤذن له، فانصرف وقال: