الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الطبرى: فلما انقضى ذو القعدة (1) تداعى الناس إلى أن يكفّ بعضهم عن بعض.
وحجّ فى هذه السنة بالناس عبيد الله بن عبّاس (2) بأمر علىّ عليه السلام، وكان عامله على اليمن، والله أعلم
ذكر سنة سبع وثلاثين
النيل المبارك فى هذه السنة:
الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وثلاثة أصابع.
ما لخّص من الحوادث
الإمام علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه أمير المؤمنين، وعلى مكّة شرّفها الله تعالى أميرا قثم بن العبّاس، والمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام سهل بن حنيف، من قبل الإمام علىّ عليه السلام، والبصرة عبد الله بن عبّاس، والكوفة أبو مسعود الأنصارى، ومصر محمّد بن أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه، وخراسان خليد (3) بن قرّة اليربوعى، من قبل الإمام علىّ عليه السلام، والشّام معاوية رضى الله عنه من قبل نفسه، وهو فى حرب صفّين مع الإمام علىّ صلوات الله عليه.
وكان شهر المحرّم من هذه السنة جميعه (293) موادعة بينهما، جرت طمعا
فى الصلح، واتّفاق الكلمة، واجتماع الأمر، ثم اختلفوا ولم يتّفق لهما حال، ولا انتظم لهم سلك.
فلمّا دنا سلخ المحرّم أمر علىّ عليه السلام مرثد بن الحارث الجشمى، فنادى على الناس من أهل الشّام عند غروب الشمس: ألا إنّ أمير المؤمنين يقول لكم:
إنّى قد استدمتكم لتراجعوا الحقّ، وتثيبوا إليه، واحتججت عليكم بكتاب الله، ودعوتكم إليه، فلم [تناهوا](1) عن الطغيان، ولم تجيبوا إلى الحقّ، وإنّى قد نبذت إليكم على سواء، إنّ الله لا يحبّ الخائنين.
قال (2): ففزع أهل الشام إلى أمرائهم ورؤسائهم، وخرج معاوية وعمرو ابن العاص فى الناس يكتبان الكتائب، ويعبئان الناس، وأوقدوا النيران، وبات علىّ عليه السلام طول ليلته يعبّئ الناس، ويكتّب الكتائب، ويحرّض الناس على القتال، ويقول: لا تقاتلوا القوم حتى يبدؤوكم بالقتال، فأنتم بحمد الله على حجّة، وترككم إيّاهم حتّى يبدؤوكم حجّة أخرى لكم، فإذا قاتلتموهم وهزمتموهم، فلا تقتلوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثّلوا بقتيل، فإذا وصلتم إلى رحال القوم، فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا بيتا، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم، إلاّ ما وجدتموه فى عسكرهم، ولا [نهيّجوا](3) امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم، فإنّهن ضعاف القوى والأنفس.
وأصبح من الغد، فبعث إلى الميمنة والميسرة، وكان ذلك فى أوّل يوم
من شهر صفر سنة سبع وثلاثين هجريّة، وهو يوم الأربعاء، وعبّأ الجيش، وأخرج الأشتر أمام النّاس، وأخرج إليه معاوية حبيب بن مسلمة الفهرىّ، فكان بينهما قتال شديد، والناس قد تصافّوا: أهل العراق وأهل الشّام سائر يومهم، وأسفرت (294) عن قتلى من الفريقين جميعا، وانصرفوا.
فلمّا كان فى اليوم الثانى، وهو يوم الخميس، أخرج علىّ عليه السلام هاشم ابن عتبة بن أبى وقّاص الزهرى، وهو ابن أخى سعد بن أبى وقّاص، وسمّى المرقال، لأنّه كان يرقل من تقدّمه فى الحرب، وكان أعور، ذهبت عينه يوم اليرموك، وكان من شيعة علىّ رضى الله عنه، فأخرج إليه معاوية أبا الأعور السلمى، وهو سفيان بن عوف، وكان من شيعة معاوية، والمنحرفين عن علىّ، فكان ذلك اليوم بينهم سجال، وانصرفوا فى آخر النهار.
وأخرج فى اليوم الثالث، وهو يوم الجمعة، علىّ رضى الله عنه أبا اليقظان، عمّار بن ياسر، رضى الله عنه، فى عدّة من البدريّين، وغيرهم من المهاجرين والأنصار، فيمن أسرع معهم من الناس، فأخرج إليه معاوية رضى الله عنه عمرو ابن العاص فى نفر من الشام، فكان بينهم سجال إلى الظهر، ثم حمل عمّار فيمن ذكرنا من الناس فأزال عمرا عن موضعه، وألحقه بعسكر معاوية، وأسفرت عن قتلى كثيرة من أهل الشام دون أهل العراق (1).
وأخرج علىّ رضى الله عنه فى اليوم الرابع، يوم السبت، ابنه محمّد بن الحنفيّة
فى همدان، ومن خفّ معه من شيعته، فأخرج معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فكان بينهما قتال وقتلى.
وأخرج علىّ فى اليوم الخامس عبد الله بن عبّاس، فأخرج إليه معاوية الوليد بن عقبة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وأكثر الوليد من سبّ بنى عبد المطّلب، فناداه عبد الله بن عبّاس: ابرز إلىّ يا صفوان، فأبى، وكان يوما صعبا (1).
وأخرج علىّ فى اليوم السّادس سعيد بن قيس الهمدانىّ، وهو يومئذ سيّد همدان، فأخرج له معاوية ابن ذى الكلاع الحميرى، فكان بينهما حرب شديد إلى آخر النهار، وأسفرت عن قتلى كثيرة من الفريقين.
وأخرج علىّ (295) عليه السلام فى اليوم السابع الأشتر النخعى فى قومه، وفيمن خفّ معه، وأخرج إليه معاوية حبيب بن مسلمة الفهرىّ، فتكافأوا، وأبوا إلاّ الموت، وأسفرت عن كثير من القتلى، وكان فى أهل الشّام أعم وأكثر.
وخرج فى اليوم الثامن، وهو يوم الأربعاء، علىّ عليه السلام بنفسه وأصحابه البدريّين، رضوان الله عليهم، وجماعة من المهاجرين والأنصار، ومن ربيعة وهمدان.
قال الطبرى رحمه الله: قال ابن عبّاس رضى الله عنه (2): رأيت ذلك اليوم عليّا عليه السلام وعليه عمامة بيضاء، وكأنّ عينيه سراجان، وهو يقف على
طوائف الناس فى مراتبهم [فيحثّهم](1)، ويحرّضهم على القتال والحرب، وهو على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء، وخرج معاوية فى رؤساء أهل الشام، فكان بينهما قتال شديد إلى آخر النهار، وانصرفوا عند المساء، وكلّ غير ظافر.
وكذلك خرج فى اليوم التاسع، وهو يوم الخميس، علىّ عليه السلام ومعاوية رضى الله عنه فاقتتلوا إلى ضحوة نهار، وبرز أمام الناس عبيد الله بن عمر ابن الخطّاب، فى أربعة آلاف من [الخضريّة](2)، وابن عمر يتقدّمهم، فناداه علىّ عليه السلام: ويحك يا ابن عمر، على ماذا تقاتلنى؟ فو الله لو كان أبوك حيّا ما فعله، قال: أطلب بدم عثمان، فقال: أنت تطلب بدم عثمان من غير قاتله، والله يطلبك بدم الهرمزان، إذ أنت قاتله بيدك ظلما وعدوانا، وأمر علىّ الأشتر بالخروج إليه، فانصرف عنه عبيد الله ولم يقاتله، وكثرت القتلى يوم ذاك، فقال عمّار بن ياسر: إنّى أرى وجوها لا يزالون يضاربون حتى يرتاب المبطلون، والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا شعبات (3) هجر لكنّا على الحقّ، وكانوا على الباطل، ثم تقدّم عمّار بن ياسر رضى الله عنه فقاتل قتالا شديدا، ثم رجع إلى (296) موضعه، فاستسقى فأتته امرأة من نساء بنى شيبان من مصافّهم، بعسّ فيه لبن، فدفعته إليه، فقال: الله أكبر، اليوم التقى الأحبّة تحت الأسنّة، صدق الصادق، وبذلك أخبرنى الناطق، هذا اليوم الذى وعدت فيه.
ثم قال (1): يا أيّها النّاس، والذى نفسى بيده لنقاتلنّكم على تأويله، كما قاتلناكم على تنزيله، ثم توسّط القوم، واشتكت عليه الأستّة، فقتل رضى الله عنه قتله أبو العادم العاملىّ، وابن جوين السكسكى، واختلفا فى سلبه، فاحتكما إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال لهما: اخرجا عنّى، فإنّى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ولعت قريش بعمّار، ما لهم ولعمّار، يدعوهم إلى الجنّة، ويدعونه إلى النّار» .
وكان قتل عمّار رضى الله عنه عند المساء، وعمره يومئذ ثلاث وتسعون سنة وصلى عليه علىّ عليه السلام ولم يغسّله، ودفن بصفّين رحمة الله عليه، وقد تنوزع فى نسبه، فمن الناس من ألحقه ببنى مخزوم ومنهم من رأى أنّه من حلفائهم، والله أعلم.
قال الطبرى (2): إنّ عمّارا لمّا قتل، خرج فى تلك الليلة رجل من عسكر علىّ عليه السلام إلى عسكر معاوية رضى الله عنه على فرسه، ليسمع ما يقولون فى قتل عمّار، فإذا أربعة يتسايرون، وهم معاوية بن أبى سفيان، وأبو الأعور السّلمى وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله، وهو خير الأربعة، قال: فأدخل فرسه بينهم،
فقال عبد الله بن عمرو لأبيه: يا أبت، قتلتم هذا الرجل فى يومكم هذا، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، قال: وما قال يا بنىّ؟ قال: ألم تكن معنا ونحن نبنى المسجد، والناس ينقلون حجرا حجرا، ولبنة لبنة، وعمّار ينقل حجرين حجرين، ولبنتين لبنتين (297) فغشى عليه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول:«ويحك [يا ابن سميّة] (1)، النّاس ينقلون حجرا حجرا، ولبنة لبنة، وأنت تنقل حجرين حجرين، ولبنتين لبنتين، رغبة فى الآخرة، وأنت مع ذلك تقتلك الفئة الفئة الباغية» ؟ قال: فدفع عمرو صدر فرسه، وجذب معاوية إليه، فقال: يا معاوية، ألا تسمع ما يقول عبد الله؟ قال: وما يقول؟ فأخبره الخبر، فقال معاوية: إنّك لشيخ أخرق، ولا تزال تحدّث بالحديث، وأن تدحض فى شيبك (2)، أونحن قتلناه؟ إنّما قتله من جاء به.
قال (3): ولمّا صرع عمّار، تقدّم سعد بن قيس فى همدان، وقيس بن سعد فى الأنصار وربيعة، وعدىّ بن حاتم فى طيئ، فخلطوا الجمع بالجمع، واشتدّ القتال، وحطمت همدان أهل الشام، حتى زووهم إلى قبّة معاوية، قال: وأمر علىّ عليه السلام الأشتر أن يتقدّم باللواء إلى أهل حمص، وعزلهم عن أهل قنّسرين (4)، وأكثروا القتل فيهم، وأبلى المرقال فيهم يومئذ بمن معه، فلا يقوم معه أحد، وكان صاحب لواء علىّ عليه السلام وجعل يرقل كما يرقل الفحل فى قيده،
وعلىّ وراءه يقول: يا أعور، لا تكن جبانا، ثم إنّ المرقال صدر (1) لابن ذى الكلاع، واختلفا الطعنتين، فطعنه هاشم المرقال فقتله، وقتل بعده تسعة عشر رجلا، ثم حلف مع جماعة أن لا يرجعوا، أو لينتهوا، أو ليقتلوا، واجتلد الناس، فقتل المرقال فى معمعة الحرب، فتناول ابنه اللواء حين قتل أبوه، وكثر العجاج، ووقف على مصرع أبيه ومن صرع معه من الأسلميّين وغيرهم، فدعا لهم، وترحّم عليهم (2).
قال (3): وحمل حريث بن جابر الجحفى على عبيد الله بن عمر بن الخطّاب فقتله، وقيل إنّ الذى قتل عبيد الله بن عمر هو ابن الأشتر (4)(298)، وقيل إنّ عليّا عليه السلام ضربه ضربة قطع ما عليه من الحديد، حتى خالط السيف حشو جوفه، وقد ذكرنا قتلة عبيد الله بن عمر فيما تقدّم من الكلام من رواية أخرى (5)، والله أعلم.
وعاد علىّ عليه السلام يحرّض النّاس على القتال، وهو على البغلة الشهباء أمام القوم، وحمل معه جماعة، فلم يبق لأهل الشام صفّ إلاّ انتقض كلّما أتوا عليه، حتى انتهوا إلى قبّة معاوية وعلىّ رضى الله عنه لا يمرّ بفارس إلا قدّه، ثم نادى علىّ عليه السلام: يا معاوية على ماذا [يقتل](6) الناس بينى وبينك؟
هلمّ أحاكمك إلى الله، فأيّنا قتل صاحبه استقامت له الأمور، فقال عمرو بن العاص:
قد أنصفك الرجل، فقال معاوية: ما أنصفت أنت، فإنّك لتعلم أنّه ما بارزه أحد قطّ إلاّ قتله أو أسره، فقال عمرو: ما يجمل بك أن يناديك فتتخلّف عن مبارزته، فقال معاوية: أظنّك قد طمعت بها بعدى.
وقيل إنّ معاوية ألزم عمرا بخروجه إلى علىّ عليه السلام فبرز إليه على رغم منه، فلمّا رآه عرفه، فرفع السيف وهمّ أن يضربه، فكشف عمرو عن عورته، وقال:
أخوك يا أبا الحسن (1)! فحوّل وجهه عنه، وقال: قبّحت قبّحك الله، فرجع عمرو إلى مصافّه سالما.
واقتتل الناس تلك الليلة كلّها إلى الصباح، وهى ليلة [الهرير](2)، حتى تقصّفت الرماح، وفقد النبل وصار الناس إلى السيوف، وأخذ علىّ رضى الله عنه يسير من الميمنة إلى الميسرة، ويأمر كلّ كتيبة أن تتقدّم على [التى تليها](3)، ولم يزل يفعل ذلك حتّى أصبحوا، وقد صارت المعركة خلف ظهور أصحاب علىّ عليه السلام والأشتر فى ميمنة الناس، وعبد الله بن عبّاس فى الميسرة، وعلىّ عليه السلام فى القلب تارة، وتارة فى الميمنة، وتارة فى الميسرة، والناس (299)[يقتتلون](4) من كلّ جانب، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة، وكسفت فيه الشمس، وارتفع القتام، وتقطّعت الألوية والرايات، ولم يعرفوا مواقيت الصلاة.
قال المسعودى (1) رحمة الله: إنّ جملة من قتله علىّ رضى الله عنه بيده وسيفه فى يوم واحد وليلة واحدة خمسمائة وثلاثة وعشرون رجلا أكثرهم فى اليوم، علم ذلك لأنّه كان كلّما ضرب رجلا كبّر، وكان إذا ضرب قتل، ذكر ذلك عنه من كان يليه فى حربه لا يفارقه من ولده، وغيرهم.
وكان الأشتر ذلك اليوم فى ميمنة الجيش، وقد أشرف على الفتح، قال (2):
فنادت مشيخة الشام: يا معشر العرب، الله الله فى الحرمات والنساء والبنات، فعندها قال معاوية لعمرو بن العاص، وقد عاين انكشافه، وانكشاف جيوشه:
ما عندك يا أبا عبد الله، فما خبأتك إلاّ لها، فقال عمرو: مر من كان معه مصحف فليرفعه على رمحه، قال: فكثر فى الجيش رفع المصاحف، وارتفعت الضجّات، ونادوا: كتاب الله بيننا وبينكم، من لثغور المسلمين؟ من لحفظ الشام بعد أهله؟ من لجهاد الروم؟ من لجهاد الترك من الكفّار؟ ورفع من عسكر معاوية نحو من خمسمائة مصحف.
قال: فلمّا رأى أهل العراق ذلك، قالوا: نجيب إلى كتاب الله، فقال علىّ:
ويحكم امضوا على حقّكم وصدقكم، القتال لعدوّكم، فإنّ معاوية، وابن العاص وابن أبى معيط، وعدّد جماعة، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، فأنا أعرف بهم منكم، صحبتهم طويلا أطفالا ورجالا، فكانوا أشرّ أطفال وشرّ رجال (3)، وإنّما هذا منهم مكر وخديعة، وهى خديعة ابن العاص.
وجرى له مع القوم خطب طويل، حتّى هدّدوه أن يصنعوا به ما صنعوا بعثمان، وقال له الأشعث بن قيس: إن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد، قال:(300) ذلك إليك، قال: فأتاه الأشعث بن قيس، فقال له الأشعث: ما مرامك يا معاوية؟ قال: نرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله عز وجل به فى كتابه، تبعثون منكم رجلا ترضون به وتختارونه، ونبعث نحن كذلك، ونأخذ عليهما عهد الله وميثاقه أن يعملا بما فى كتاب الله تعالى، وننقاد جميعا إلى ما اتّفقا عليه من حكم الكتاب، فقال (1): نعم، وصوّب الأشعث قوله، ورجع إلى علىّ عليه السلام فأخبره بذلك، فقال أكثر الناس: رضينا وقبلنا، وغلبوا رأى علىّ فيما أراده.
واختار أهل الشام عمرو بن العاص للتحكيم، وقال الأشعث ومن ارتدّ بعد ذلك إلى رأى الخوارج: ونحن رضينا بأبى موسى الأشعرى، فقال علىّ عليه السلام:
ويحكم قد عصيتمونى فى الأولى فلا تعصونى الآن، إنّى لا أرى أن أولّى أبا موسى الأشعرى هذا الأمر، فإنّه غير ثقة، فقال الأشعث ومن معه: لا نرضى إلاّ أبا موسى الأشعرىّ، فقال علىّ: ويحكم، إنّه فارقنى، وخذّل عنّى الناس (2)، وفعل كذا وكذا، وعدّد له أشياء فعلها أبو موسى، ثمّ إنّه هرب شهورا حتى أمّنته، ألا هذا عبد الله بن عبّاس، أولّيه ذلك، فقال الأشعث وأصحابه: والله لا يحكم فيها مضريّان، قال: فالأشتر؟ قالوا: وهل أشعل هذه النار التى نحن نتوقّدها
إلاّ الأشتر، قال: فاصنعوا الآن ما شئتم أن تصنعوا، وافعلوا ما بدا لكم أن تفعلوه.
قال (1): فبعثوا إلى أبى موسى الأشعرىّ، فأحضروه، وكتبوا بينهم صحيفة تتضمّن أنّ كلاّ من الجيشين عند حكم الله وكتابه، وأنّ الحكمين يحييان ما أحيا القرآن، ويميتان ما أماته القرآن، ولا يتّبعان الهوى، ولا يداهنان فى شئ من ذلك، فإن فعلا فلا حكم لهما، وصيّروا ذلك لأجل إلى رمضان، وكان كتب الصحيفة لأيّام بقين من صفر سنة سبع وثلاثين هجريّة.
ثم مرّ (301) الأشعث بن قيس بالصّحيفة، حتى انتهى إلى مجلس بنى تميم فيه جماعة من زعمائهم، فقرأها عليهم، فجرى بين الأشعث وبين أناس منهم خطب طويل، ثم قال عروة (2) للأشعث: أتحكّمون فى دين الله وأمره ونهيه [الرجال](3)؟، لا حكم إلاّ الله، فكان أوّل من قالها.
ولمّا وقع أمر التحكيم، أمر علىّ عليه السلام بالرحيل لعلمه باختلاف الكلمة، وتفاوت الرأى، وعدم انتظام أمورهم، وما لحقه منهم من الاختلاف، وكثر قول التحكيم فى جيش العراق، وتضارب القوم بالمخاصر، واجتذبوا السيوف (4)، وتسابّوا، ولام كل فريق منهم الآخر فى رأيه، وسار علىّ رضى الله عنه يريد الكوفة، ولحق معاوية بدمشق.