الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويحصل من الأذان الإعلام بدخول الوقت، والدعاء إلى الجماعة، وإظهار شعائر الإِسلام، والحكمة في اختيار القول له دون الفعل، سهولةُ القول وتيسره لكل أحد في مكان وزمان، واختلف أيهما أفضل: الأذان أولًا أو الإِقامة. ثالثها: إنْ علم من نفسه القيام بحقوق الإمامة فهي أفضل، وإلا فالأذان. وفي كلام الشافعي ما يومىء إليه. واختلف أيضًا في الجمع بينهما، فقيل: يكره، وفي البيهقيّ، عن جابر مرفوعًا النهيُ عن ذلك، لكن سنده ضعيف. وصح عن عمر:"لو أطيق الأذان مع الخلافة لأذَّنت"، رواه سعيد بن منصور وغيره. وقيل: هو خلاف الأَوْلى، وقيل: يستحب، وصححه النووي.
وقد كثر السؤال: هل باشر عليه الصلاة والسلام الأذان بنفسه؟ فعند السُّهَيليّ، أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أذّنَ في سفر، وصلّى بأصحابه وهم على رواحلهم، السماء من فوقهم، والبِلَّة من أسفلهم. أخرجه التِّرمِذيّ عن أبي هُريرة، وليس من حديث أبي هُريرة، وإنما هو من يَعلي بن مُرة، وكذا جزم النوويّ أن النبي عليه الصلاة والسلام أذّنَ مرة في السفر، وعزاه للتِّرمذيّ، وقوّاه. ولكن هذا في مسند أحمد من الوجه الذي أخرجه التِّرمذيّ منه، ولفظه:"فأمر بلالًا فأذَّن"، فعرف أن في رواية الترمذي اختصارًا، وأن معنى قوله:"أذَّن" أمر بلالًا به، كما يقال: أعطى الخليفةُ العالم الفلانيَ ألفًا، وإنما باشر العطاء غيره، ونسب للخليفة لكونه آمرًا.
ثم قال:
باب بدء الأذان
أي: ابتداؤه، وسقط لفظ:"باب" من رواية أبي ذَرٍّ، ثم قال: وقول الله عز وجل: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} ، وقوله:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} يُشير بذلك إلى أن ابتداء الأذان كان بالمدينة؛ لأن الآية مدنية، وقد ذكر بعض أهل التفسير أن اليهود لما سمعوا الأذان قالوا: لقد ابتدعت شيئًا يا محمد، لم يكن فيما مضى،
فنزلت: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية، يعني: إذا أذن المؤذِّن للصلاة، وإنّما أضاف النداء إلى جميع المسلمين؛ لأن المؤذن يؤذن لهم، ويناديهم، فأضافه إليهم.
وقوله: {اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} ، يعني أن الكفار إذا سمعوا الأذان استهزؤوا بهم، وإذا رأوهم ركوعًا وسجودًا ضحكوا عليهم، واستهزؤوا بذلك. وقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} ، أي: ذلك الاستهزاء بانهم قوم لا يعلمون ثوابهم. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السّدّيّ، قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: حُرِقَ الكاذب، فدخلت أمَتُه ليلةً من الليالي بنار، وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله.
وقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} ، يشير بذلك أيضًا إلى الابتداء، لأن ابتداء الجمعة إنما كان بالمدينة، كما يأتي في بابه. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس، أن فرض الأذان نزل مع هذه الآية، والفرق بين ما في الآيتين من التعدية بإلى واللام، أن صِلات الأفعال تختلف بحسب مقاصد الكلام، فقصد في الأولى معنى الانتهاء، وفي الثانية معنى الاختصاص. ويحتمل أن تكون اللام بمعنى إلى أو العكس. ويأتي عند حديث ابن عمر الآتي في الباب "إتمام الكلام على كونه شرع بالمدينة".
وقد وردت أحاديث ضعيفة تدل على أنه شرع بمكة قبل الهجرة، منها ما أخرجه الطبرانيّ عن ابن عمر، قال:"لما أُسري بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أوحى الله إليه الأذان، فنزل به، فعلَّمه بلالًا، وفي سنده طَلْحة بن زيد، متروك. وما أخرجه الدارقطني في الأطراف عن أنس: "أن جبريل أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالأذان حين فرضت الصلاة"، وإسناده ضعيف. ولابن مردويه عن عائشة مرفوعًا: "لما أَسرى بي جبريل، فظنت الملائكة أنه يُصلي بهم، فقَدَّمني فصليت". وفيه من لا يُعرف، وللبزار وغيره عن عليّ رضي الله تعالى عنه، قال: لما أراد الله أن يعلِّم رسوله الأذان، أتاه
جبريل بدابة يقال لها البراق، فركبها. وفيه: إذا خرج مَلَكٌ من وراء الحجاب، فقال: الله أكبر الله أكبر"، وفي آخره: "ثم أخذ المَلَك بيده، فأمَّ بأهل السماء"، وفي سنده زياد بن المنذر أبو الجارود، وهو متروك أيضًا.
ويمكن على تقدير الصحة أن يحمل على تعدد الإسراء، فيكون ذلك وقع بالمدينة، وقد مرّ القول بتعدد الإسراء عند حديث الإسراء أول كتاب الصلاة. وأما قول القُرطبيّ لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعًا في حقه، ففيه نظر، لقوله في أوله:"لما أراد الله أن يعلِّم رسوله الأذان"، وكذا قول المُحبّ الطَّبريّ: يحمل الأذان ليلة الإسراء على المعنى اللُّغويّ، وهو الإعلام لتصريحه بالكيفية المشروعة فيه، والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث، وقد جزم ابن المنذر بأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي بغير أذان، منذ فرضت الصلاة بمكة، إلى أن هاجر إلى المدينة، وإلى أن وقع التشاور في ذلك، على ما في حديث ابن عمرو، وحديث عبد الله بن زيد الآتيين.
ومن أغرب ما وقع في بدء الأذان ما رواه أبو الشيخ، بسند فيه مجهول، عن عبد الله بن الزُّبَير، قال: أخذ الأذان من أذان إبراهيم، من قوله:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} ، قال: فأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وما رواه أبو نعيم في "الحلية" بسند فيه مجاهيل: "أن جبريل نادى بالأذان لآدم حين أُهبط من الجنة". قال الزَّين بن المُنير: "أعرض البخاريُّ عن التصريح بحكم الأذان، لعدم الإفصاح من الآثار الواردة فيه عن حكم معين، فأثبت مشروعيته، وسلم من الاعتراض".
وقد اختلف في ذلك، ومنشأ الخلاف أن مبدأ الأذان، لمّا كان بمشورة أوقعها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بين أصحابه، حتى استقر برؤيا بعضهم فأقره، وكان ذلك بالمندوبات أشبه، ثم لما واظب على تقريره، ولم يُنقل أنه تركه، ولا أمر بتركه، ولا رخص في تركه، كان ذلك بالواجبات أشبه. وقد قال بوجوبه مطلقًا الأوزاعيُّ وداود وابن المنذر، وهو ظاهر قول مالك في "الموطأ" وبه قال مُحمّد بن الحسين، وقال الأوزاعي: يعيد تاركه في الوقت، واختلف
الظاهرية في صحة الصلاة بدونه، وقيل: واجب في الجمعة فقط، وقيل: فرض كفاية، ومشهور مذهب مالك أنه سنة في حق كل مسجد، فرض كفاية على أهل كل بلد، وإن تركوه قوتلوا، والجمهور على أنه من السنن المؤكدة. واستدل من قال بوجوبه بورود الأمر به، وتعقب بأن الأمر إنما ورد بصفة الأذان، كما يأتي، لا بنفسه. وأجيب بأنه إذا ثبت الأمر بالصفة، لزم أن يكون الأصل مأمورًا به.