الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس عشر
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ بِلَالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِىَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ". ثُمَّ قَالَ وَكَانَ رَجُلاً أَعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ، أَصْبَحْتَ.
قوله: "إن بلالًا يؤذن بليل"، فيه إشعار بأن ذلك كان من عادته المستمرة، وزعم بعضهم أن ابتداء ذلك كان باجتهاد منه، وعلى تقدير صحة ذلك، فقد أقره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ذلك، فصار في حكم المأمور به، ويأتي قريبًا إن شاء الله تعالى ما قيل في تعيين الوقت الذي يؤذن فيه من الليل، ومن قال به ومن منعه. وقوله:"فكلوا واشربوا"، فيه إشعار بأن الأذان كان علامة عندهم على دخول الوقت، فبين لهم أن أذان بلال بخلاف ذلك.
وقوله: "وكان رجلًا أعمى"، ظاهره أن فاعل قال هو ابن عمرو، جزم بذلك الشيخ الموفق في "المغني"، ورواه جمع عن القَعْنَبِيّ، وفي روايتهم تعيين أنه ابن شهاب، وعلى هذا يكون في رواية البخاري إدراج، ويجاب عن ذلك بأنه لا يمنع كون ابن شهاب قاله أن يكون شيخه قاله، وشيخ شيخه، وقد رواه البَيهقيّ عن ابنِ شِهاب، وفيه:"قال سالم: وكان رجُلًا ضريرًا"، ففي هذا التصريح بأن شيخ البخاريّ قاله، ويأتي عند المصنف في الصيام عن ابن عمر ما يؤدي معناه، فثبت صحة وصله.
وقوله: "أصبَحْتَ، أصبَحْتَ"، أي: دخلْتَ في الصبح، هذا ظاهره، وفيه إشكال لأنه جعل أذانه غاية للأكل، فلو لم يؤذن حتى دخل الصباح للزم منه جواز الأكل بعد طلوع الفجر. والإجماع على خلافه إلا من شذ كالأعمش.
وأجيب عنه بأنّ المراد قاربت الصباح؛ لأن قرب الشيء قد يعبر به عنه، كما في قوله تعالى:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ، أي: قاربن؛ لأن العدة إذا تمت فلا رجعة، ويعكر على هذا الجواب أن في رواية الرَّبيع بن سُلَيمان عند البَيهقيّ:"ولم يكن يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر أذِّنْ"، وأبلغ من ذلك أن لفظ رواية المصنف في الصيام:"حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر"، وإنما كانت أبلغ لكون جميعه من كلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأيضًا، فقوله:"إن بلالًا يؤذن بليل"، يشعر بأن ابن أم مكتوم بخلافه، ولأنه لو كان قبل الصبح لم يكن بينه وبين بلال فرق، ولصدق أن كلاًّ منهما أذَّن قبل الوقت. وهذا الموضع في غاية الإشكال، وأقرب ما يقال فيه أن أذانه جُعل علامة لتحريم الأكل والشرب، وكأنه كان له من يراعي الوقت، بحيث يكون أذانه مقارنًا لابتداء طلوع الفجر. وهو المراد بالبزوغ. وعند أخذه في الأذان يعترض الفجر في الأفق، أو يقال: إنه لا يلزم من كون المراد بقولهم: أصبحت، أي: قاربت الصباح وقوع أذانه قبل الفجر، لاحتمال أن يكون قولهم ذلك يقع في آخر جزء من الليل، وأذانه يقع في أول جزء من طلوع الفجر، وهذا وإن كان مستبعدًا في العادة، فليس بمستبعد من مؤذن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، المؤيد بالملائكة، فلا يشاركه فيه مَن لم يكن على تلك الصفة.
وقد روى أبو قرة عن ابن عمر حديثًا فيه: "وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطئه". قلت: مما يحكى عن العلماء أنه كان بجامع القيروان صاحب الوقت أعمى، وكان لا يخطىء. ويذكر أنه كان يشم لطلوع الفجر رائحة، وإذا كان هذا لغير صحابي، فما ظنك بصاحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟
وفي هذا الحديث جواز الأذان قبل طلوع الفجر، وبه قال الجمهور، واختلف هل يكتفى به عن إعادة الأذان بعد الفجر أم لا؟ وإلى الاكتفاء مطلقًا ذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم، وخالف ابن خُزَيمة وابن المُنذر وطائفة من أهل الحديث. وقال به الغَزاليّ في "الإحياء"، وادعى بعضهم أنه لم يرد في شيء من الحديث ما يدل على الاكتفاء، وتعقب بحديث ابن مسعود
الآتي في باب الأذان قبل الفجر، وأجيب بأنه مسكوت عنه فلا يدل، وعلى التنزل فمحله فيما إذا لم يرد نطق بخلافه، وهنا قد ورد حديث ابن عمر وعائشة في الباب المذكور، بما يشعر بعدم الاكتفاء، وعند أبي داود عند زياد بن الحارث ما يدل على الاكتفاء، فإن فيه أنه أذن قبل الفجر بأمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنه استأذنه في الإقامة فمنعه إلى أن طلع الفجر، فأمره فأقام. لكنْ في إسناده ضعف، وأيضًا فهي واقعة عَيْن، وكانت في سفر، ومن ثمَّ قال القرطبيُّ: إنه مذهب واضح غير أن العمل المنقول بالمدينة على خلافه، فلم يرده إلا بالعمل على قاعدة المالكية. وحاصل مذهب المالكية فيه أربعة أقوال ليس لها إلا أذان واحد يقدم لها، أذانان كل منهما سنة. الأول سنة، والثاني مستحب، وعكسه، واعتمد كون الأول سنة، والثاني مستحبًا. ونظم هذا شيخنا عبد الله بن محمد سالم، فقال:
الأذان للسُّدْسِ يُسَنُّ ونُدِبْ
…
تقديمه وعند فجر استُحبْ
وقيل لا أذانَ للصبح وقد
…
قيل يُسَنُّ فيهما وقد عضد
وقيل الأول أخو استحباب
…
والثاني للسنة ذو استصحاب
وقال النووي وأبو حنيفة ومحمد وزُفَر: لا يجوز أن يؤذن للفجر إلا بعد دخول وقتها، كما لا يجوز لسائر الصلوات إلا بعد دخول وقتها؛ لأنه للإعلام به. وقبل دخوله تجهيل، وليس بإعلام فلا يجوز. وأجيب عن هذا بأن الإعلام قبل الوقت أعم من أن يكون إعلامًا بأنه قد دخل أو قارب أن يدخل، وإنما اختصت الصبح بذلك من بين الصلوات؛ لأن الصلاة في أول وقتها مُرَغَّب فيها، والصبح يأتي غالبًا بعد نوم، فناسَبَ أن ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها، ليتأهبوا ويدركوا فضيلة أول الوقت، وتمسك الطَّحاويّ لمذهبه بما في حديث ابن مسعود الآتي من قوله:"ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم"، فقال: قد أخبر أن ذلك النداء كان لما ذكر لا للصلاة، وتعقب بأن قوله:"لا للصلاة" زيادة في الخبر، وليس فيه حصر فيما ذكر. وادعى بعض الحنفية فيما حكاه السُّرُوجيّ منهم أن النداء قبل الفجر لم يكن بألفاظ الأذان، وإنما كان تذكيرًا أو تسحيرًا لما يقع للناس
اليوم، وهذا مردود، فإن الذي يفعله الناس اليوم محدَث قطعًا، وقد تضافرت الطرق على التعبير بلفظ الأذان، فحمله على معناه الشرعيّ مقدم، وأيضًا لو كان الأذان الأول بألفاظ مخصوصة غير ألفاظ الأذان، لما التبس على السامعين. وسياق الخبر يقتضي أنه خشي عليهم الالتباس. وادّعى ابن القَطّان أن ذلك كان في رمضان خاصة، وفيه نظر.
وقد اختلف في الوقت الذي يؤذن للصبح فيه، فمشهور مذهب مالك أنه من سدس الليل الأخير، وعند الشافعي مختلف فيه، فالذي صححه النَّوويّ في أكثر كتبه أن وقته من أول نصف الليل الآخر؛ لأن صلاته تدرك الناس وهم نيام، فيحتاجون إلى التأهب لها، وهذا مذهب أحمد وأبي يُوسُف وابن حَبيب من المالكية، لكن يعكر على هذا قول القاسم بن محمد المَرْوزِيّ عند المؤلف في الصيام: لم يكن بين أذانهما، أي: بلال وابن أم مكتوم إلا أن يرقى هذا وينزل ذا، ولا يقال: إن هذا مرسل؛ لأن القاسم تابعي لم يدرك ما القصة المذكورة، لأنه ثبت في رواية النّسائيّ والطّحاويّ عن القاسم، عن عائشة، فذكر الحديث، وفيه:"فقالت: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا"، وهذا ينفي كونه مرسلًا.
ومن ثمّ اختار السُّبكيّ فى "شرح المنهاج"، وحكى تصحيحه عن القاضي حسين والمُتَولِّي، وقطع به البَغْويّ أن الوقت الذي يؤذن فيه قبل الفجر هو وقت السحر، وهو كما قال في "القاموس": قبيل الصبح. وكلام ابن دقيق العيد يشعر به، فإنه قال بعد أن حكاه: يرجح هذا بأنّ قوله إن بلالًا ينادي بليل، خبر تتعلق به فائدة للسامعين قطعًا، وذلك إذا كان وقت الأذان مشتبهًا محتملًا لأن يكون عند طلوع الفجر، فبيّن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن ذلك لا يمنع الأكل والشرب، بل الذي يمنعه طلوع الفجر الصادق، قال: وهذا يدل على تقارب وقت بلال من الفجر، ويقويه أيضًا ما تقدم من أن الحكمة في مشروعيته التأهب لإدراك الصبح في أول وقتها.
واحتج الطَّحاويّ لعدم مشروعية الأذان قبل الفجر بقوله: لما كان بين