الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع والثلاثون
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بن سعد، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِينَا الْقُرْآنَ فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ: أَيْ رَبَّنَا، أَعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلاً، قَالَ: قَالَ اللَّهُ عز وجل: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَهْوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ".
قوله: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس"، ظاهره أن بقاء هذه الأمة وقع في زمان الأمم السالفة، وليس ذلك مرادًا قطعًا، وإنما معناه أن نسبة مدة هذه الأمة إلى مدة مَنْ تقدم مِن الأمم، مثل ما بين صلاة العصر وغروب الشمس إلى بقية النهار، فكأنه قال: إنما بقاؤكم بالنسبة إلى ما سلف
…
إلخ. وحاصله أن "في" بمعنى "إلى" وحذف المضاف، وهو لفظ "نسبة".
وقوله: "أُوتي أهلُ التوراةِ التوراةَ"، ظاهره أن هذا كالشرح والبيان لما تقدم من تقدير مدة الزمانين، وقد زاد المصنف من رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر في "فضائل القرآن": "وإن مَثَلَكم ومَثَل اليهود والنصارى
…
" إلى آخره، وهو يشعر بأنهما قضيتان.
وقوله: "حتى إذا انتصف النهار عجزوا". قال الداوديّ: هذا مشكل، لأنه إن كان المراد من مات منهم مسلمًا، فلا يوصف بالعجز، لأنه عمل ما أمر به، وإن كان من مات بعد التبديل والتغيير، فكيف يعطى القيراط من حَبِط عمله بكفره؟ وأجيب بأن المراد من مات منهم مسلمًا قبل التبديل والتغيير، وعبر بالعجز لكونهم لم يستوفوا عمل النهار كله، وإن كانوا قد استوفوا عمل ما قدر لهم. فقوله:"عجزوا"، أي: عن إحراز الأجر الثاني دون الأول، لكن من أدرك منهم النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، وآمن به، أُعطي الأجر مرتين، كما مرَّ في كتاب العلم.
وقوله: "قيراطًا قِيراطًا"، كرر قيراطًا ليدل على تقسيم القراريط على العمال، لأن العرب إذا أرادت تقسيم الشيء على متعدد كررته، كما تقول: اقسم هذا المال على بني فلان درهمًا درهمًا، أي: لكل واحد درهم، والمراد بالقيراط النصيب، وهو في الأصل نصف دانق، والدانق سدس درهم.
وقوله: "ونحن كنا أكثر عملًا"، تمسك به بعض الحنفية كأبي زيد في كتاب "الأسرار"، إلى أن وقت العصر من مصير ظل كل شيء مثليه، لأنه لو كان من مصير ظل كل شيء مثله لكان مساويًا لوقت الظهر، وقد قالوا: كنا أكثر عملًا، فدل على أنه دون وقت الظهر. وأجيب بمنع المساواة، وذلك معلوم عند أهل العلم بهذا الفن، وهو أن المدة التي بين الظهر والعصر أطول من المدة التي بين العصر والمغرب.
وأما ما نقله بعض الحنابلة من الإجماع على أن وقت العصر ربع النهار، فمحمول على التقريب، إذا فرعنا على أن أول وقت العصر مصير الظل مثله، كما قال الجمهور. وأما على قول الحنفية، فالذي من الظهر إلى العصر أطول قطعًا، وعلى التنزل لا يلزم من التمثيل والتشبيه التسوية من كل جهة، وبأن الخبر إذا ورد في معنى مقصود لا تؤخذ منه المعارضة، لما ورد في ذلك المعنى بعينه مقصودًا في أمر آخر، وبأنه ليس فيه نص على أن كلاًّ من الطائفتين أكثر عملًا، لصدق أن كلهما مجتمعين أكثر عملًا من المسلمين، وباحتمال أن يكون
أطلق ذلك تغليبًا، وباحتمال أن يكون ذلك قول اليهود خاصة، فيندفع الاعتراض من أصله كما جزم به بعضهم، وتكون نسبة ذلك للجميع في الظاهر غير مرادةٍ، بل هو عمومٌ أُريد به الخصوص، أُطلق ذلك تغليبًا.
ويؤيده ما وقع في التوحيد بلفظ: "فقال أهل التوراة"، وبأنه لا يلزم من كونهم أكثر عملًا أن يكونوا أكثر زمانًا، لاحتمال كون العمل في زمنهم كان أشق. ويؤيده قوله تعالى:{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ، ومما يؤيد كون المراد كثرة العمل وقلته، لا بالنسبة إلى طول الزمان وقصره، كونُ أهلِ الأخبار متفقين على أن المدة التي بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام، دون المدة التي بين نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وقيام الساعة، لأن جمهور أهل المعرفة بالأخبار قالوا: إن مدة الفترة بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام ست مئة، وثبت ذلك في صحيح البخاريّ عن سلمان. وقيل إنها دون ذلك، فذكر الحاكم في "الإكليل" أنها مئة وخمس وعشرون سنة، وذُكر أنها أربع مئة سنة. وقيل: خمس مئة وأربعون سنة، وعن الضحاك أربع مئة وبضع وثلاثون سنة.
وهذه مدة المسلمين المشاهدة أكثر من ذلك، فلو تمسكنا بأن المراد التمثيل بطول الزمانين وقصرهما، للزم أن يكون وقت العصر أطول من وقت الظهر، ولا قائل به، فدل على أن المراد كثرة العمل وقلته، ويحتمل أن يكون كل من الفريقين قال ذلك، أما اليهود؛ فلأنهم أطول زمانًا، فيستلزم أن يكونوا أكثر عملًا، وأما النصارى، فلأنهم وزنوا كثرة أتباعهم بكثرة زمن اليهود، لأن النصارى آمنوا بموسى وعيسى جميعًا، عليهما الصلاة والسلام.
ويحتمل أن تكون نسبة ذلك إليهم على سبيل التوزيع، فالقائل: نحن أكثر عملًا، اليهودُ، والقائلُ في الرواية الآتية في الإجارة: نحن أقل أجرًا، النصارى. وقوله: هل ظلمتكم من أجركم من شيء، في رواية الإجارة الآتية:"هل نقصتكم من حقكم"، وأطلق لفظ الحق في هذه الرواية لقصد المماثلة، وإلا فالكل من فضل الله تعالى. وقوله:"فذلك فضلي أوتيه من أشاء"، فيه حجة