الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَاةَ، لَيْسَ يُنَادَى لَهَا، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ بُوقًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلاً يُنَادِي بِالصَّلَاةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قُمْ يَا بِلَالُ، قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ".
قوله: "إن ابن عمر كان يقول، في رواية مسلم عن عبد الله بن عمر أنه قال. وقوله: "حين قدموا المدينة"، أي: من مكة في الهجرة. وقوله: "فيتحينون"، بحاء مهملة بعدها مثناة تحتية، ثم نون، أي: يقدرون أحيانها ليأتوا إليها، والحين: الوقت والزمان. وقوله: "ليس يُنادَى لها"، بفتح الدال على البناء للمفعول. قال ابن مالك: فيه جواز استعمال ليس حرفًا لا اسم لها ولا خبر، وقد أشار إليه سِيبَوَيه. ويحتمل أن يكون اسمها ضمير الشأن، والجملة بعدها خبر. ورواية مسلم تؤيد هذا، فإن لفظه "ليس يُنادي بها أحد"، وقوله: "فقال بعضهم: اتخذوا"، لم يعلم المتكلمين في ذلك. واختصر الجواب في هذه الرواية. ووقع لابن ماجه من وجه آخر، عن ابن عمر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم استشار الناس لما يَجْمعهم إلى الصلاة، فذكروا البوق فكرهه من أجل اليهود، ثم ذكروا الناقوس فكرهه من أجل النصارى، وقد مرت رواية روح بن عطاء نحوه.
وقوله: "بل بوقًا"، أي: بل اتخذوا. وفي بعض النسخ: "بل قرنًا"، وهي
رواية مسلم والنَّسائيّ، والبوق والقرن معروفان. وقد مرّ ما يفعل به. وقوله:"فقال عمر: أولا تبعثون رجلًا"، زاد الكشميهنيّ:"منكم". وقوله: "أو" الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدر، كما في نظائره. قال الطيبيّ: الهمزة إنكار للجملة الأولى المقدرة، وتقرير للجملة الثانية.
وقوله: "يُنادي بالصلاة"، قال القرطبي: يحتمل أن يكون عبد الله بن زيد لما أخبر برؤياه، وصدَّقه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بادر عمر، فقال: أوَلا تبعثون رجلًا ينادي، أي: يؤذن للرؤيا المذكورة، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم:"قم يا بلال"، فعلى هذا فالفاء في سياق حديث ابن عمر هي الفصيحة، والتقدير: فافترقوا فرأى عبد الله بن زيد، فجاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقص، فصدّقه، فقال عمر. لكن سياق حديث عبد الله بن زيد يخالف ذلك، فإن فيه أنه لما قص رؤياه على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، قال له:"ألقها على بلال فليؤذن بها". قال: فسمع عمر الصوت، فخرج، فأتى النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: لقد رأيت مثل الذي رأى، فدل على أن عمر لم يكن حاضرًا لما قَصّ عبد الله بن زيد رؤياه، والظاهر أن شارة عمر بإرسال رجل ينادي للصلاة، كانت عقب المشاورة فيما يفعلونه، وأن رؤيا عبد الله بن زيد كانت بعد ذلك.
وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي عمير بن أنس، عن عمومته من الأنصار، قالوا: اهتم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها؟ فقيل: إنصب راية عند حضور وقت الصلاة، فإذا رأوها آذَنَ بعضُهم بعضًا، فلم يعجبه الحديث. وفيه ذكر القُنْع، بضم القاف وسكون النون، يعني البوق، وذكروا الناقوس، فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم، فأُري الأذان، فغدا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: وكان عمر رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يومًا، ثم أخبر به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال:"ما منعك أن تخبرنا؟ " فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "يا بلال، قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد، فافعله". ترجم له أبو داود "بدء الأذان".
قال ابن عبد البَرّ: روى قصة عبد الله بن زيد جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة، وهي من وجوه حسان، وهذا أحسنها، وهذا لا يخالف ما رواه ابن خُزيمة وابن حبَّان في حديث عبد الله بن زيد، من أنه لما قضى منامه، فسمع عمر الأذان، فجاء فقال: قد رأيت مثل ذلك؛ لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك عقب إِخبار عبد الله، بل متراخيًا عنه، لقوله:"ما منعك أن تخبرنا؟ "، أي: عقب إخبار عبد الله، فاعتذر بالاستحياء، فدل على أنه لم يخبر بذلك على الفور، وليس في حديث أبي عمير التصريح بأن عمر كان حاضرًا عند قص عبد الله رؤياه، بخلاف ما وقع في روايته التي ذكرتها:"فسمع عمر الصوت، فخرج فقال"، فإنه صريح في أنه لم يكن حاضرًا عند قصّ عبد الله.
وحديث ابن عمر هذا ظاهر في أن الأذان إنما شرع بعد الهجرة، فإنه نفى النداء بالصلاة قبل ذلك مطلقًا. وقوله في آخره:"يا بلال، قُمْ فنادِ بالصلاة"، كان ذلك قبل رؤيا عبد الله بن زيد، ويأتي تقريره قريبًا إن شاء الله تعالى، وسياق حديثه يدل على ذلك فيما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان، ففيه نحو حديث ابن عمر، وفي آخره:"فبينما هم على ذلك أُري عبد الله النداء"، فذكر الرؤيا، وفيها صفة الأذان، لكن بغير ترجيع، وفيه تربيع التكبير، وإفراد الإقامة، وتثنية:"قد قامت الصلاة". وفي آخره قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "إنها لرؤيا حق إِن شاء الله تعالى، فقم يا بلال فألقها عليه، فإنه أندى صوتًا منك". وفيه مجيء عمر وقوله إنه رأى مثل ذلك.
وقد أخرج التِّرمذيّ في ترجمة بدء الأذان حديث ابن عمر، وإنما لم يخرجه المؤلف؛ لأنه ليس على شرطه، وقد روي عن عبد الله بن زيد من طرق، وحكى ابن خُزَيْمة عن الذُّهليّ أنه ليس في طرقه أصح من هذه الطريق، وشاهده حديث عبد الرزاق عن ابن المسيب مرسلًا، ومنهم من وصله عن سعيد، عن عبد الله بن زيد، والمرسل أقوى إسنادًا. قلت: روايةُ أبي داود لحديث عبد الله بن زيد ليس فيها تربيع التكبير، ولا تثنية:"قد قامت الصلاة"، فهي موافقة لمذهب مالك، إِلا أنه لم يذكر فيها الترجيح، وقد مر دليله. وفي "الأوسط" للطبرانيّ أن
أبا بكر أيضًا رأى الأذان، وفي "الوسيط" للغزاليّ أنه رآه بضعة عشر رجلًا، وعبارة الحيليّ:"أربعة عشر رجلًا"، وأنكره ابن الصَّلاح والنَّوويّ. ونقل مغلطاي عن بعض كتب الفقهاء أنه رآه سبعة، ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت في بعض طرقه كما مر. وفي مسند الحارث بن أبي أسامة بسند واهٍ، قال:"أول من أذّن بالصلاة جبريل في سماء الدنيا، فسمعه عمر وبلال، فسبق عمر بلالًا، فأخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم جاء بلالٌ، فقال: سبقك بها عمر".
واستشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد؛ لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي. وأُجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك، أو بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أَمَرَ بمقتضاه، لينظر أيقر على ذلك أم لا، ولاسيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوساوس فيه، وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده عليه الصلاة والسلام في الأحكام، وهو المنصور في الأصول، ويؤيد الأول ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في "المراسيل" عن عُبَيد بن عُمَير اللَّيثي، أحد كبار التابعين، أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فوجد الوحي قد ورد بذلك، فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام:"سبقك بذلك الوحي"، وهذا أصح مما حكى الداوديّ عن ابن إسحاق:"أن جبريل أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام".
وذكر السُّهَيليّ أن الحكمة في إعلام الناس به على غير لسانه عليه الصلاة والسلام، التنويهُ بقدره، لذكره بلسان غيره، ليكون أقوى لأمره، وأفخم لشأنه. وبُني على صحة هذه الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصحابة، أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سمعه فوق سبع سموات، وهو أقوى من الوحي، فلما تأخر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة، وأراد إعلامهم بالوقت، فرأى الصحابي المنام فقصها، فوافقت ما كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سمعه، فقال:"إنها لرؤيا حق"، وعلم حينئذ أن مراد الله بما أراه في السماء
أن يكون سنّة في الأرض، وتقوّى ذلك بموافقة عمر؛ لأن السكينة تنطق على لسانه، ولم يكتف برؤيا عبد الله حتى أضيف إليه عمر للتقوية، ولم يقتصر على عمر ليصير في معنى الشهادة.
وقد قيل إن مناسبة اختصاص بلال بالأذان دون غيره، هي لكونه كان لما عُذّب ليرجع عن الإِسلام يقول: أحد أحد، فجوزي بولاية الأذان المشتملة على التوحيد في ابتدائه وانتهائه، وهي مناسبة حسنة. وقوله:"يا بلال، قم فناد بالصلاة"، في رواية الإسماعيلي:"فأذَّن بالصلاة"، قال عياض: المراد الإعلام المحض بحضور وقتها، لا خصوص الأذان المشروع. وأغرب ابن العربيّ فحمل قوله:"أذّن" على الأذان المشروع، وطعن في صحة حديث ابن عمر، وقال: عجبًا لأبي عيسى كيف صححه؟ والمعروف أن شرع الأذان إنّما كان برؤيا عبد الله بن زيد، ولا تدفع الأحاديث الصحيحة بمثل ما قاله، مع إمكان الجمع كما مرّ.
وقد قال ابن منده: إن حديث ابن عمر مُجْمَع على صحته، وقد قال عِياض وغيره: فيه حجة لمشروعية الأذان قائمًا، وكذا احتج به ابن خُزَيمة وابن المُنذر، وتعقبه النّوويّ بأن المراد بقوله:"قم"، أي: اذهب إلى موضع بارز فنادِ فيه بالصلاة، ليسمعك الناس. قال: وليس فيه تعرض للقيام في حال الأذان، وما نفاه ليس ببعيد من ظاهر اللفظ، فإن الصيغة محتملة للأمرين، وإن كان ما قاله أرجح. ونقل عِياض أن مذهب العلماء كافة أن الأذان قاعدًا لا يجوز، إلا عند أبي ثَوْر، ووافقه أبو الفَرَج المالكي. وتعقب بأن هذا خلاف المعروف عند الأئمة، وأن الصواب ما قال ابن المنذر، أنهم اتفقوا على أن القيام من السنة، ومذهب مالك أن القيام مستحب لا غير.
وقد قال النَّوويّ: ومذهبنا الشهور أنه سُنّة، فلو أذن قاعدًا من غير عذر صحّ أذانه، لكن فاتته الفضيلة. وما قاله هو مذهب الحَنَفيّة، وكذلك الحنابلة، يسن عندهم القيام فيه. وأخرج ابن سعد من مراسيل سعيد بن المسيَّب أن اللفظ الذي كان ينادي به بلال للصلاة هو:"الصلاة جامعة". وفي حديث ابن عمر