الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن عشر
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ الأَسْوَدُ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ رضى الله عنها فَذَكَرْنَا الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الصَّلَاةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهَا قَالَتْ لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَأُذِّنَ، فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّىَ بِالنَّاسِ وَأَعَادَ فَأَعَادُوا لَهُ فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَصَلَّى، فَوَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَأَنِّى أَنْظُرُ رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ مِنَ الْوَجَعِ فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَكَانَكَ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ قِيلَ لِلأَعْمَشِ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ بِرَأْسِهِ نَعَمْ.
وقوله: مرضه الذي مات فيه، وقد بيّن الزُّهريّ في روايته في الحديث الذي بعده، أن ذلك كان بعد أن اشتد به المرض، واستقر في بيت عائشة. وقد اختلف في سبب مرضه، وفي محل ابتدائه ووقت ابتدائه وقدره، أما سبب مرضه فالصحيح فيه ما أخرجه البخاريّ عن عائشة في باب وفاته، أنها قالت "إنه عليه الصلاة والسلام كان يقول في مرضه الذي مات فيه: ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بِخَيْبَرَ فهذا أوان وجدت انقطاع أَبْهَري من ذلك السم". وقوله: أوان، بالفتح عَلى الظرفية، والأبهر بفتح الهمزة، عرْق مُسْتَبْطِن بالظهر متصل بالقلب، إذا انقطع مات صاحبه، فكان صلى الله عليه وسلم شهيدًا.
وأما ما رواه أبو يَعلى بسند فيه ابن لَهِيْعَة عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم مات
بذات الجنب" فغير صحيح لهذا الحديث الصحيح، ولما أخرجه البخاري تعليقًا، ووصله محمد بن سعد عن عائشة قالت: "كانت تأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الخاصرة، فاشتدت به فأُغمي عليه، فلددناه، فلما أفاق قال: هذا من فعل نساء جئن من هنا، وأشار إلى الحبشة، وإن كنتم ترون أن الله يسلط عليّ ذات الجَنْب ما كان الله ليجعل لها عليّ سلطانًا، والله لا يبقى أحد في البيت إلا لُدّ، وَلَدَدْنا مَيْمونة وهي صائمة" وفي الصحيح "إلا العباس، فإنه لم يشهدكم".
قال في الفتح، ويمكن الجمع بينهما بأن ذات الجنب تطلق بإزاء مرضين، أحدهما ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن للأضلاع، والآخر ما يعرض في نواحي الجنب من رياح غليظة، تحتقن بين الصفاقات والعضل التي في الصدر والأضلاع، فتحدث وجعًا، فالأول هو ذات الجَنْب الحقيقيّ الذي تكلم عليه الأطباء، وهو المنفي في الحديث، وفي رواية للمستدرك "ذات الجَنْب من الشيطان". وقد قال الأطباء: يحدث بسببه خمسة أمراض: الحمّى والسعال والنَّخْس وضيق النفس والنَّبض المِنْشاريّ، ويقال لذات الجنْب أيضًا وجع الخاصرة، وهي من الأمراض المخوفة، لأنها تحدث بين القلب والكبد، وهي من سيّء الأسقام، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "ما كان الله ليسلطها عليّ".
والثاني هو الذي أثبت في حديث أبي يَعْلى، وليس فيه محذور كالأول قاله "في الفتح" قلت: كيف يمكن الجمع مع التصريح في حديث أبي يَعْلى أنه مات من ذات الجنب؟ والتصريح في حديث البُخاري بقوله انقطاع "أبهري" فالجمع مع التصريحين غير ممكن.
وأما محل ابتدائه فالصحيح أنه كان في بيت مَيْمونة، لما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أسماء بنت عُمَيْس قالت: إن أول ما اشتكى كان في بيت مَيْمونة، فاشتد مرضه حتى أُغمي عليه، فتشاورن في لَدّه، فلدوه، فلما أفاق .. إلخ الحديث، وأخرج مسلم أيضًا أنه أول ما اشتكى في بيت مَيْمُونة، وفي سيرة أبي مَعْشَر في بيت زَينب بنت جَحْش، وفي سيرة سليمان التَّيْميّ في بيت رَيحانة، وذكر الخَطّابيّ أنه ابتدأ يوم الاثنين، وقيل يوم السبت، وقال الحاكم
أبو أحمد: يوم الأربعاء.
واختلف في مدة مرضه، فالأكثر على أنها ثلاثة عشر يومًا. وقيل: بزيادة يوم، وقيل بنقصه، والقولان في الروضة، وصدر بالثاني. وقيل عشرة أيام، وبه جزم سُلَيمان التَّيميّ في مغازيه، وأخرجه البَيْهَقِيّ بإسناد صحيح، وكانت وفاته يوم الاثنين، بلا خلاف، من ربيع الأول، وكاد يكون إجماعاً، لكن في حديث ابن مسعود عند البزار في حادي عشر رمضان، ثم عند ابن إسحاق والجمهور أنها في الثاني عشر منه، وعند موسى بن عُقْبَة واللَّيث والخَوارِزْميّ وابن زَبْر مات لهلال ربيع الأول، وعند أبي مخيف والكلبيّ في ثانيه، ورجحه السُّهَيليّ. وعلى القولين يتنزل ما نقله الرافعيّ من أنه عاش بعد حجته ثمانين يومًا، وقيل أحدًا وثمانين، وعلى ما جزم به في الروضة يكون عاش بعد حجته تسعين يومًا أو أحدًا وتسعين.
وقد استشكل السُّهَيْليّ ومن تبعه كونه عليه الصلاة والسلام مات يوم الاثنين ثاني عشر شهر ربيع الأول، وذلك أنهم اتفقوا على أن ذا الحجة كان أوله يوم الخميس، فمهما فرضت الثلاثة توامّ "أو نواقص" أو بعضها لم يصح. قال "في الفتح": وهو ظاهر لمن تأمله. قلت تأملته فوجدته يصح على جعل الثلاثة كوامل، على القول بأنه كان في الثالث عشر في يوم الاثنين. وأجاب البارزيّ، ثم ابن كثير، باحتمال وقوع الأشهر الثلاثة كوامل، وكأنَّ أهل مكة والمدينة اختلفوا في رؤية هلال ذي الحجة، فرآه أهل مكة ليلة الخميس، ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة، فحصلت الوقفة برؤية أهل مكة، ثم رجعوا إلى المدينة فأرخوا برؤية أهلها، فكان أول ذي الحجة الجمعة وآخره السبت، وأول المحرم الأحد، وآخره الاثنين، وأول صفر الثلاناء وآخره الأربعاء، وأول ربيع النبوي الخميس فيكون ثاني عشره الاثنين.
قال "في الفتح": وهذا الجواب بعيد من حيث إنه يلزم توالي أربعة أشهر كوامل. قلت: هذا لا بعد فيه؛ لأن تتابع النقص أو الكمال في الأشهر لا تحديد له في الشريعة، وإنما التحديد فيه عند أهل النجوم، والذي قالوه هو عدم توالي
خمسة كاملة لا أربعة. قال عليّ الأجهوريّ ناظمًا لكلامهم:
لا يتوالى النقضُ في أكثر من
…
ثلاثة من الشهور يا فطن
كذا توالى خمسة مكمله
…
هذا الصواب وسواه أبطله
وما نظمه لا عبرة به شرعًا.
وجزم سُليمان التَّيْمِي أحد الثقات بأن ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم كان يوم السبت، الثاني والعشرين من صفر، ومات يوم الاثنين، لليلتين خلتا من ربيع الأول، وعلى هذا كان صفر ناقصًا، ولا يمكن أن يكون أول صفر السبت، إلا إن كان ذو الحجة والمحرم ناقصين، فيلزم منه نقص ثلاثة أشهر متوالية، وأما على قول من قال: مات أول يوم من ربيع الأول، فيكون اثنان ناقصين وواحد كاملًا، ولهذا رجحه السُّهَيْليّ.
قلت: الذي مرَّ أن السُّهَيْليّ رجحه هو الثاني لا الأول، وفي المغازي لأبي مَعْشَر عن محمد بن قَيْس قال:"اشتكى النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لإحدى عشرة مضت من صفر" وهذا موافق لقول سُلَيمان التَّيميّ، المقتضي لأن أول صفر كان السبت. وأما ما رواه ابن سعد عن عمر بن عَلِيّ بن أبي طالب قال "اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لليلة بقيت من صفر، فاشتكى ثلاث عشرة ليلة، ومات يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول" فيرد على هذا الإشكال المتقدم، وكيف يصح أن يكون أول صفر الأحد فيكون تاسع عشرينه الأربعاء، والفرض أن ذا الحجة أوله الخميس، فلو فرض هو والمحرم كاملين، لكان أول صفر الإثنين، فكيف يتأخر إلى يوم الأربعاء؟ فالمعتمد ما قال أبو مخيف فيما مرَّ عنه، أنه ثاني ربيع الأول. وكان سبب غلط غيره أنهم قالوا: مات في ثاني شهر ربيع الأول، فتغيرت فصارت ثاني عشر، واستمر الوهم بذلك يتبع بعضهم بعضًا من غير تأمل.
وقد أجاب القاضي بدر الدين بن جمَاعة بجواب آخر فقال: يحمل قول الجمهور لاثنتي عشرة ليلة خلت، أي بأيامها، فيكون موته في الثالث عشر،
وبفرض المشهور كوامل فيصح قول الجمهور، ويعكر عليه ما يعكر على الذي قبله مع زيادة مخالفة اصطلاح أهل اللسان في قولهم لاثنتي عشرة، فإنهم لا يفهمون منها إلا مضي الليالي، ويكون ما أرخ بذلك واقعًا في اليوم الثاني عشر.
وقوله: فحضرت الصلاة، وقيل هي العشاء لما في رواية موسى بن أبي عائشة الآتية في باب "إنما جعل الإِمام ليؤتم به" من قول عائشة "ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة". وقيل: هي الظهر، لما في الحديث المذكور "فخرج بين رجلين أحدهما العباس، لصلاة الظهر" وقيل: إنها الصبح، واستدل هذا القائل بما في رواية أرْقَم بن شُرَحبيل عن ابن عباس "وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءة من حيث بلغ أبو بكر" هذا لفظ ابن ماجَهْ، وإسناده حسن، لكن في الاستدلال به نظر، لاحتمال أن يكون عليه الصلاة والسلام لما قرب من أبي بكر سمع الآية التي كان انتهى إليها خاصة، وقد كان هو صلى الله عليه وسلم يسمع الآية أحيانًا في السرية، كما يأتي عن أبي قتادة، ثم لو سلم لم يكن فيه دليل على أنها الصبح، بل يحتمل أن تكون المغرب، فقد ثبت في الصحيحين عن أم الفضل بنت الحارث قالت "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفًا، ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله" هذا لفظ البُخاريّ في آخر المَغازي، لكن في النَّسائيّ أن هذه الصلاة التي ذكرتها أم الفضل كانت في بيته. قلت: كونها في بيته يبعده قولها في الحديث، ثم ما صلى لنا بعدها لأن صلاته في بيته لا يقال فيها صلى لنا.
وقد صرح الشافعي بأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل بالناس في مرض موته في المسجد إلا مرة واحدة، وهي هذه التي صلى فيها قاعدًا، وكان أبو بكر فيها أولًا إمامًا، ثم صار مأمومًا يُسْمع التكبير. وقوله: فأُذِّن، بضم الهمزة على البناء للمفعول، وفي رواية الأصيليّ "وأذِّن" بالواو، وهو أوجه، والمراد به أذان الصلاة، ويحتمل أن يكون معناه أعلم، ويقويه رواية أبي معاوية الآتية في باب "الرجل يأتم بالإمام" ولفظه "جاء بلال يؤذنه بالصلاة" واستفيد منه تسمية المبهم، وسيأتي في رواية ابن أبي عائشة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بدأ بالسؤال عن حضور وقت
الصلاة، وأنه أراد أن يتهيأ للخروج إليها فأغمي عليه.
وقوله: مُرُوا أبا بكر فليصل بالناس، استدل به على أن الأمر بالأمر بالشيء يكون أمرًا به، وهي مسألة معروفة في أصول الفقه، وأجاب المانعون بأن المعنى: بلغوا أبا بكرًا أني أمرته، وفصل النزاع أن النافي إن أراد أنه ليس أمرًا حقيقة فمسلم؛ لأنه ليس فيه صيغة أمر للثاني، وإن أراد أنه لا يستلزمه فمردود. قلت: محل الخلاف عند أهل الأصول إنما هو حيث لم تقم قرينة على أنه آمر للثالث، وإلا فهو آمر له اتفاقًا كما في حديث ابن عمر في الصحيحين "مره فليراجعها". فقوله: فليراجعها قرينة على أنه آمر له. وكما في هذا الحديث "فليصل بالناس" فإنه قرينة على أنه آمر له.
وقوله: فقيل له، قائل ذلك عائشة كما يأتي، وقوله: أسِيف، بوزن فعيل، وهو بمعنى فاعل من الأسف، وهو شدة الحزن، والمراد أنه رقيق القلب. ولابن حِبان عن عاصم عن عائشة في هذا الحديث، قال عاصم: والأسِيف الرقيق الرحيم، وسيأتي في حديث ابن عمر في هذه القصة بعد ستة أبواب "فقالت له عائشة إنه رجل رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء" ومن رواية مالك عنها قالت عائشة: "إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر".
وقوله: فأعادوا له، أي من كان في البيت، والمخاطب بذلك عائشة كما ترى، لكن جمع لأنهم كانوا في مقام الموافقين لها على ذلك. وفي رواية أبي موسى بالإفراد "فعادت" ولابن عمر "فعاودته". وقوله: إنكنّ صواحب يوسف فيه حذف بينه مالك في روايته المذكورة، وأن المخاطب له حينئذ حَفصة بنت عمر بأمر عائشة، وفيه أيضًا "فمر عمر" فقال "مه إنكن لأنتن صواحب يوسف" وصواحب جمع صاحبة، والمراد أنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن، ثم إن هذا الخطاب، وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به واحدة، وهي عائشة فقط. كما أن صواحب جمع والمراد به زَلِيخا فقط. ووجه المناسبة بينهما في ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة، ومرادها زيادة على ذلك، وهي أن ينظرن إلى حسن يوسف، ويعذرنها في
محبته، وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك، وهي أن لا يتشاءم الناس، وقد صرحت بذلك فيما يأتي في آخر المغازي فقالت "لقد راجعته وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبى أن يحب الناس بعده رجلًا قام مقامه أبدًا". وأخرجه مسلم أيضًا، وبهذا التقرير يندفع اشكال من قال إن صواحب يوسف لم يقع منهن إظهار يخالف ما في الباطن. وفي "أمالي" ابن عبد السلام أن النسوة أتين امرأة العزيز يُظهرن تعنيفها، ومقصودهن في الباطن أن يدعون يوسف إلى أنفسهن، كذا قال: وسياق الآية يخالف ما قال.
وفي مُرْسَل الحسن عند ابن أبي خَيْثَمة أن أبا بكر أمر عائشة أن تكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرف ذلك عنه، فأرادت التوصل إلى ذلك بكل طريق، فلم يتم، وكًذلك أخرج الدَّوْرَقيّ في مسنده عن حمّاد بن أبي سُليمان عن إبراهيم "أن أبا بكر هو الذي أمر عائشة أن تشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يأمر عمر بالصلاة" وزاد مالك في روايته: فقالت حَفْصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا. ومثله للإسماعيليّ، وإنما قالت حفصة ذلك لأن كلامها صادف المرة الثالثة من المعاوَدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يراجع بعد ثلاث، فلما أشار إلى الإنكار عليها بما ذكر من كونهن صواحب يوسُف، وجدت في نفسها من ذلك لكون عائشة هي التي أمرتها بذلك، ولعلها تذكرت ما وقع لها معها أيضًا في قصة المغافير المتقدمة في باب التناوب في العلم.
وقوله: فليصلّ بالناس، في رواية الكُشْمَيْهَنِيّ "فليصل للناس" وقوله: فخرج أبو بكر، فيه حذف دل عليه سياق الكلام، وقد بينه في رواية موسى بن أبي عائشة، ولفظه فأتاه الرسول، أي بلال؛ لأنه هو الذي أعلم بحضور الصلاة كما مرَّ، فأجيب بذلك. وفي روايته: فقال له "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس، فقال أبو بكر، وكان رجلًا رقيقًا: يا عمر، صل بالناس، فقال له عمر: أنت أحق بذلك" وقول أبي بكر هذا لم يرد به ما أضمرت عائشة. قال النَّوَوِيّ: تأوله بعضهم على أنه قال ذلك تواضعًا. وليس كذلك، بل قاله للعذر المذكور،
وهو كونه رقيق القلب كثير البكاء، فخشي أن لا يسمع الناس، ويحتمل أن يكون رضي الله تعالى عنه فهم من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى، وعلم ما في تحملها من الخطر، وعلم قوة عمر على ذلك، فاختاره. ويؤيده أنه عند البيعة أشار عليهم أن يبايعوه أو يبايعوا أبا عُبَيدة بن الجَرّاح، والظاهر أنه لم يطلع على المراجعة المتقدمة، وفهم من الأمر له بذلك تفويض الأمر له في ذلك، سواء باشر بنفسه أو استخلف. قال القُرْطبي: ويستفاد منه أن للمستخلَف في الصلاة أن يستخلِف، ولا يتوقف على إذن خاص له في ذلك.
وقوله: فصلى، في رواية المُسْتَملِي والسَّرْخَسِيّ "صلي" وظاهره أنه يشرع في الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد أنه تهيأ للدخول فيها، ويأتي في رواية أبي معاوية الآتية في باب "الرجل يأتم بالإمام" بلفظ "فلما دخل في الصلاة" وهو محتمل أيضًا بأن يكون المراد دخل في مكان الصلاة، وحمله بعضهم على ظاهره، وقوله: فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، ظاهره أنه صلى الله تعالى عليه وسلم وجد ذلك في تلك الصلاة بعينها، ويحتمل أن يكون ذلك بعد ذلك، وأن يكون فيه حذف كما تقدم مثله في قوله "فخرج أبو بكر" وأوضح منه رواية موسى بن أبي عائشة الآتية "فصلّى أبو بكر تلك الأيام، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة" وعلى هذا لا يتعين أن تكون الصلاة المذكورة هي العِشاء، وقد مرَّ قريبًا ما قيل في تعيينها.
وقوله: يُهادَى، بضم أوله وفتح الدال، أي يعتمد على الرجلين، إلى آخر ما مرَّ في باب الغسل والوضوء من المخضب. وقوله: فأراد أبو بكر، زاد أبو مُعاوية "فلما سمع أبو بكر حسّه". وفي رواية أرقم بن شُرحبيل عن ابن عباس "فلما أحس الناس به سبحوا" أخرجه ابن ماجه وغيره بإسناد حسن، وقوله: أنْ مكانك، في رواية عاصم أن أثبتْ مكانك، وفي رواية بن أبي عائشة "فأومأ إليه بأن لا يتأخر".
وقوله: ثم، أتي به، كذا هنا بضم الهمزة، وفي رواية ابن أبي عائشة أن ذلك كان بأمره ولفظه. فقال "أجلساني إلى جنبه، فأجلساه" وعين أبو معاوية في
روايته المتقدمة محل ذكرها مكان الجلوس، فقال "حتى جلس عن يسار أبي بكر" وهذا هو مقام الإِمام. وقد أغرب القُرْطُبيّ فحكى الخلاف هل كان أبو بكر إمامًا أو مأمومًا؟ فقال: لم يقع في الصحيح بيان جلوسه صلى الله عليه وسلم، هل كان عن يمين أبي بكر أو عن يساره، ورواية أبي معاوية هذه عند مُسْلِم أيضًا، فالعجب منه كيف يغفل عن ذلك في حال شرحه.
وقوله: فقيل للأعْمش: ظاهره الانقطاع؛ لأن الأعمش لم يسنده، لكن في رواية أبي معاوية عنه ذكر ذلك متصلًا بالحديث، وكذلك في رواية موسى بن أبي عائشة. وقوله: فقال برأسه نعم، يعني جوابًا عن كون أبي بكر كان يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر. وقد وقع في هذا اختلاف كثير، ففي رواية أبي داود والطَّيَالِسيّ المعلقة عند المؤلف، فيما وصله البَزّار، بلفظ "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المقدم بين يدي أبي بكر" وهذا موافق لقضية حديث الباب، لكن رواه ابن خُزَيْمَة في صحيحه عن محمد بن بَشّار عن أبي داود عن عائشة قالت "من الناس من يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المقدم بين يدي أبي بكر، ومنهم من يقول كان أبو بكر المقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف". ورواه مسلم بن إبراهيم عن شعبة بلفظ "إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر" أخرجه ابن المنذر، وهذا عكس رواية أبي موسى، وهو اختلاف شديد، وفي رواية مسروق عنها أيضًا اختلاف، فأخرجه ابن حبَّان عن عاصم عن شقيق عنه بلفظ "كان أبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر" وأخرجه التِّرمِذِيّ والنَّسائيّ وابن خُزَيْمَة عن شقيق أيضًا بلفظ "إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر".
وظاهر رواية محمد بن بَشّار أن عائشة لم تشاهد الهيئة المذكورة، ولكن تظاهرت الروايات عنها بالجزم مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإِمام في تلك الصلاة، منها رواية موسى بن أبي عائشة المشار إليها سابقًا، ففيها "فجعل أبو بكر يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، والناس بصلاة أبي بكر" وهذه رواية زائدة بن قُدَامة عن موسى، وخالفه شُعْبَةُ فرواه عن موسى بلفظ "إن أبا بكر صلى بالناس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف خلفه" فمن العلماء من سلك الترجيح، فقدم الرواية