الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس والعشرون
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ.
قوله: إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة، العَشاء بفتح العين والمد الطعام بعينه، وهو خلاف الغداء، وقد أخرجه المصنف هنا عن يحيى بن سعيد القَطّان بلفظ "إذا وضع العشاء" وأخرجه السّراج عن يحيى بن سعيد الأُمَويّ بلفظ "إذا حضر" وأخرجه المصنف في الأطعمة عن سفيان بلفظ "إذا حضر" أيضًا، وأخرجه مسلم بلفظ "إذا حضر" لكن الذين رووه بلفظ "إذا وضع" أكثر كما قال الإسماعيليّ، والفرق بين اللفظين أن الحضور أعم من الوضع، فيحمل قوله حضر أي بين يديه، لتأتلف الروايات لاتحاد المخرج.
ويؤيده حديث أنس الآتي بلفظ "إذا قدم العشاء" ولمسلم "إذا قرب العشاء" وعلى هذا فلا يناط الحكم بما إذا حضر العشاء، لكنه لم يقرب للأكل، كما لو لم يفرغ ونحوه. وقوله: وأقيمت الصلاة، قال ابن دَقيق العيد: الألف واللام في الصلاة لا ينبغي أن تحمل على الاستغراق، ولا على تعريف الماهية، بل ينبغي أن تحمل على المغرب، لقوله: فابدؤا بالعشاء، ويترجح حمله على المغرب لقوله في الرواية الأخرى "فابدؤا به قبل أن تصلوا المغرب" والحديث يفسر بعضه بعضًا وفي رواية صحيحة، أخرجها ابن حِبّان والطبرانيّ "إذا وضع العشاء وأحدكم صائم" وقال الفاكهانيّ: ينبغي حمله على العموم نظرًا إلى العلة، وهي التشويش المفضي إلى ترك الخشوع، وذكر المغرب لا يقتضي حصرًا فيها لأن الجائع غير الصائم قد يكون أشوق إلى الأكل من الصائم،
وحمله على العموم إنما هو بالنظر إلى المعنى إلحاقًا للجائع بالصائم، وللغداء بالعشاء، لا بالنظر إلى اللفظ الوارد.
وقوله: فابدؤا بالعَشاء، أي بفتح العين، وقد حمل الجمهور الأمر على الندب، ثم اختلفوا، فمنهم من قيده بمن كان محتاجًا للأكل، وهو المشهور عن الشافعية، وزاد الغزاليّ: ما إذا خشي فساد المأكول، ومنهم من لم يقيده، وهو قول الثَّوْريّ وأحمد وإسحاق، وعليه يدل فعل ابن عمر الآتي قريبًا. وأفرط ابن حَزْم فقال: تبطل الصلاة، ومنهم اختار البداءة بالصلاة إلا إن كان الطعام خفيفًا، نقله ابن المُنْذر عن مالك، وعند أصحابه تفصيل؛ قالوا: يبدأ بالصلاة إن لم يكن متعلق النفس بالأكل أو كان متعلقًا به لكنه لا يعجله عن صلاته، فإن كان يعجله عن صلائه بدأ بالطعام، واستحبت له الإعادة.
قال النّوويّ: في هذه الأحاديث كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله، لما فيه من ذهاب كمال الخشوع، ويلتحق به ما في معناه مما يشغل القلب، وهذا إذا كان في الوقت سعة، فإن ضاق صلى على حاله، محافظة على حرمة الوقت، ولا يجوز التأخير. وحكى المتولي وجهًا أنه يبدأ بالأكل وإن خرج الوقت؛ لأن مقصود الصلاة الخشوع فلا يفوته، وهذا إنما يجيء على قول من يوجب الخشوع، وفيه نظر، لأن المفسدتين إذا تعارضتا اقتصر على أخفهما، وخروج الوقت أشد من ترك الخشوع، بدليل صلاة الخوف وغير ذلك، وإذا صلى لمحافظة الوقت صحت مع الكراهة، وتستحب الإعادة عند الجمهور.
وادعى ابن حَزْم أن في الحديث دلالة على امتداد الوقت في حق من وضع له الطعام، ولو خرج الوقت المحدد، وقال مثل ذلك في حق النائم والناسي، واستدل النّوَوِيّ وغيره بحديث أنس الآتي بعد هذا، على امتداد وقت المغرب، واعترضه ابن دقيق بأنه إن أُريد بذلك التوسعة إلى غروب الشفق ففيه نظر، وإن أريد به مطلق التوسعة فمسلم. ولكن ليس محل الخلاف المشهور، فإن بعض من ذهب إلى ضيق وقتها جعله مقدرًا بزمن يدخل فيه مقدار ما يتناول فيه لقيمات يكسر بها سورة الجوع، واستدل به القُرْطُبيّ على أن شهود صلاة الجماعة ليس
بواجب، لأن ظاهره أنه يشتغل بالأكل، وإن فاتته الصلاة في الجماعة، وفيه نظر، لأن بعض من ذهب إلى الوجوب، كابن حبَّان، جعل حضور الطعام عذرًا في ترك الجماعة، فلا دليل فيه حينئذ على إسقاط الوجوب مطلقًا. وفيه دليل على تقديم فضيلة الخشوع في الصلاة على فضيلة أول الوقت، واستدل بعض الشافعية والحنابلة بقوله "فابدؤا" على تخصيص ذلك بمن لم يشرع في الأكل، وأما من شرع ثم أقيمت الصلاة، فلا يتمادى بل يقوم إلى الصلاة، لأنه قد أخذ منه ما يمنعه من شغل البال، وبحديث الحز من الكتف الآتي قريبًا قال ابن بطال: يرد هذا التأويل حديث ابن عمر الآتي قريبًا، ولا يعجل حتى يقضي حاجته، وقيل: لا رد عليه، لأنه يقول إنه قضى حاجته كما في الحديث، وليس من شرطه أن يستوفي أكل الكتف، لاسيما قلة أكله عليه الصلاة والسلام، وأنه يكتفي بحزة واحدة.
وقد روى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة بإسناد حسن، عن أبي هُرَيرة وابن عباس أنهما كانا يأكلان طعامًا شواء في التَّنُّور، فأراد المؤذن أن يقيم فقال له ابن عباس: لا تعجل، لئلا نقوم وفي أنفسنا منه شيء. وفي روايته ابن أبي شَيْبَةَ: لئلا يعرض لنا في صلاتنا، وله عن الحسن بن علي قال: العشاء قبل الصلاة يذهب النفس اللوامة، وفي هذا كله إشارة إلى أن العلة في ذلك تشوف النفس إلى الطعام، فينبغي أن يدار الحكم مع علته وجودًا وعدمًا ولا يتقيد بكل ولا بعض، ويستثنى من ذلك الصائم، فلا تكره صلاته بحضرة الطعام، إذ الممتنع بالشرع لا يشغل العاقل نفسه به. لكن إذا غلب استحب له التحول من ذلك المكان.
وقد قال ابن الجوزيّ: ظن قوم أن هذا من باب تقديم حق العبد على حق الله، وليس كذلك، وإنما هو صيانة لحق الله ليدخل الخلق في عبادته بقلوب مقبلة، ثم إن طعام القوم كان يسيرًا لا يقطع عن إلحاق الجماعة غالبًا، وقد يقع في بعض كتب الفقه: إذا حضر العِشاء والعَشاء فابدؤا بالعَشاء، ولا أصل له في كتب الحديث بهذا اللفظ، وقد قال قطب الدين: إن ابن أبي شَيْبَةَ أخرج عن