الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ، فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَأُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ.
قوله: "قال: ذكروا النار والناقوس، فذكر اليهود والنصارى"، كذا ساقه عبد الوارث مختصرًا، ورواية عبد الوهاب الآتية في الباب بعده، أوضح قليلًا، حيث قال: لما أكثر الناس ذكروا أن يُعَلِّموا صفة الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن يُوروا نارًا، أو يضربوا ناقوسًا، وأوضح من ذلك رواية روح بن عطاء عن أبي الشيخ، ولفظه:"فقالوا: لو اتخذنا ناقوسًا، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "ذاك للنَّصَارَى"، فقالوا: لو اتَّخذنا بوقًا، فقال: "ذاك لليهودِ"، فقالوا: لو رفعنا نارًا، فقال: "ذاك للمجوسِ"، فعلى هذا، ففي رواية عبد الوارث اختصار، كأنه كان فيه: "ذكروا النار والناقوس والبوق، فذكروا اليهود والنصارى والمجوس"، فيكون فيه لف ونشر معكوس، فالنار للمجوس، والناقوس للنصارى، والبوق لليهود.
وفي حديث ابن عمر الآتي التنصيصُ على أن البوق لليهود. وقال الكِرْمانيّ: يحتمل أن تكون النار والبوق جميعًا لليهود، وجمعًا بين حديثي أنس وابن عمر، ورواية روح تغني عن هذا الاحتمال، والناقوس خشبة تضرب بخشبة أصغر منها، فيخرج منها صوت، وهو من شعار النصارى، والبوق معروف، والمراد أنه يُنفخ فيه، فيجتمعون عند سماع صوته، وهو من شعار اليهود، ويسمى أيضًا الشَّبُّور، بالشين المعجمة المفتوحة والموحدة المضمومة الثقيلة.
وقوله: "فأمر بلالًا"، في معظم الروايات على البناء للمفعول، وقد اختلف
أهل الحديث والأصول في اقتضاء هذه الصيغة للرفع، والمختار عند محققي الطائفتين أنها تقتضيه؛ لأن الظاهر أن المراد بالأمر من له الأمر الشرعيّ الذي يلزم اتباعه، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، ويؤيد ذلك هنا من حيث المعنى، أن التقرير في العبادة إنما يؤخذ من توقيف، فيقوى جانب الرفع جدًا.
وفي رواية روح بن عطاء المذكورة: "فأمر بلالًا"، بالنصب، وفاعل أمر هو النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم، وأصرح من ذلك رواية النَّسائيّ وغيره، عن قُتيبَة بلفظ أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بلالًا. قال الحاكم: صرح برفعه إمام الحديث، بلا مدافعة، قُتيبة، ولم ينفرد به قُتيبة عن عبد الوهاب، بل أخرجه أبو عَوانة في صحيحه، والدارقطنيُّ عن يحيى بن مَعين، عن عبد الوهاب، ولم ينفرد به عبد الوهاب، بل رواه البَلاذُرِيّ، عن ابن شهاب الجنّاط، عن أبي قِلابة، وقضية وقوع ذلك عقب المشاورة في أمر النداء إلى الصلاة ظاهر في أن الآمر بذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا غيره، كما استدل به ابن المنذر وابن حبَّان.
وقوله: "أن يَشْفع الأذان"، بفتح أوله، وفتح الفاء، أي: يأتي بألفاظه شفعًا. قال الزَّين بن المُنِير: وصف الأذان بأنه شفع، يفسره قوله في الباب الآتي بعد هذا:"مثنى مثنى"، أي: مرتين مرتين، وذلك يقتضي أن تستوي جميع ألفاظه في ذلك، لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة، فيحمل قوله:"مثنى" على ما سواها. قال في "الفتح": وكأنه أراد بذلك تأكيد مذهبه في ترك تربيع التكبير في أوله، لكن لمن قال بالتربيع أن يدّعي نظر ما ادعاه لثبوت الخبر بذلك.
وقوله: "وأن يُوتر الإقامة، أي: يجعلها وترًا، واستدل بهذا الحديث مالك، ومن قال بقوله، على أن الأذان مشفع جميعًا، أي: مثنى مثنى، تكبيره الأول وغيره، إلا كلمة التوحيد الأخيرة كما مر، إشارة إلى الانفراد بالربوبية، وعلى أن الإقامة مفردة، واستثنوا من ذلك التكبير أولًا وآخرًا، فإنه مثنى. وقالت المالكية بترجيع الشهادتين في الأذان بأن يشهد بالوحدانية ثنتين، ثم بالرسالة، ثم
يرجع، فيشهد كذلك، ويكون الصوت في الترجيح أرفع من الأول، وهو وإن كان في العدد مربعًا، فهو في الصورة مثنى، ويالترجيع هكذا قالت الشافعية، غير أنهم يجعلون الشهادتين الأُوليين سرًا، والترجيع جهرًا، ووافقت الشافعية أيضًا على تثنية التكبير في الإقامة، وإفراد غيره، إلا قد قامت الصلاة، فإنها تثنى عندهم أيضًا.
وقالت الحنفيّة والشافعية: إن التكبير في أول الأذان مربع، وأجابوا عن لفظ:"وأن يشفع الأذان"، بأن لفظ الشفع يتناول التثنية والتربيع، فليس في لفظ حديث الباب ما يخالف ذلك، على أن تكرير تثنيته في الصورة مفردة في الحكم، ولذا يستحب أن يقالا بنَفَس واحد. واستدل مالك بظهور الشفع في الاثنين، ويرواية ذلك من وجوه صحيحة في أذان أبي محذورة، وأذان ابن زيد، والعمل على ذلك بالمدينة في آل سعد القَرَظ إلى زمانه. واحتج القائلون بتربيع التكبير بما رواه مسلم وأبو عوانة والحاكم، من حديث أبي محذورة، وهو المحفوظ عند الشافعي من حديث ابن زيد.
واحتجت الشافعية على تكرير: "قد قامت الصلاة" في الإقامة، برواية سماك بن عطية الآتية عند المصنف، بلفظ:"وأن يُوتِر الإقامة" إلا الإقامة، وقد أجابت المالكية عنه مما قاله ابن منده، من أن قوله:"إلا الإقامة" من قول أيوب، غير مسند، ولذا لم يذكره إسماعيل بن علية في روايته. قال: ففي رواية سماك هذه إدراج، وكذا قال أبو محمد الأصيلي: قوله: "إلا الإقامة"، هو من قول أيوب، وليس من الحديث. وتعقب هذا في "الفتح"، بأن عبد الرزاق رواه عن أيوب بسنده متصلًا بالخبر مفسرًا. ولفظه:"كان بلال يثني الأذان ويوتر الإقامة، إلا قوله قد قامت الصلاة". وأخرجه أبو عوانة في صحيحه، والسراج في مسنده، وللإسماعيليّ من هذا الوجه، ويقول: قد قامت الصلاة، مرتين، والأصل أنَّ ما كان في الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه، ولا دليل في رواية إسماعيل، لأنّه إنما يتحصل منها أن خالدًا كان لا يذكر الزيادة، وكان أيوب يذكرها، وكل منهما روى الحديث عن أبي قِلابة، عن أنس، فكأنّ في رواية أيوب زيادة من حَافظ، فتقبل.
قلت: على كل حال، الرواية التي لم يتكلم فيها أرجح، وعمل أهل المدينة مرجح، وهو عليها كما يأتي. وقول صاحب الفتح: إن عمل أهل مكة على تلك الزيادة، لم يذكر له مستندًا، وأيضًا ليس لأهل مكة عمل يرجح به، كعمل أهل المدينة، لفقدان المعنى الذي في عمل أهل المدينة فيها.
وقد قالت الحَنفية بتثنية الإقامة كلها، إلا كلمة التوحيد الأخيرة، واحتجوا مما رواه التِّرمذيّ عن أبي مَحذورة:"أنه عليه الصلاة والسلام علَّمه الأذان مثنى مثنى، والإقامة مثنى مثنى"، وحديث أبي جُحَيْفة:"أن بلالًا رضي الله تعالى عنه كان يؤذن مثنى مثنى"، وهذا الذي احتجوا به لا يوازي ما في الصحيحين عن أنس. وأجاب بعضهم عما في الصحيح بدعوى النسخ، وأن إفراد الإقامة كان أولًا، ثم نسخ بحديثِ أبي مَحذورة، يعني الذي رواه أصحاب السنن، وفيه تثنية الإقامة، وهو متأخر عن حديث أنس، فيكون ناسخًا وعورض بأن في بعض طرق حديث أبي مَحذورة المُحسِّنة التربيع والترجيع، فكان يلزمهم القول به.
وقد أنكر أحمد على من ادّعى النسخ بحديث أبي مَحذورة، واحتج بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم:"رجع بعد فتح مكة إلى المدينة، وأقر بلالًا على إفراد الإقامة، وعلّمه سعد القرظ، فأذَّن به بعده"، كما رواه الدارقطنيّ والحاكم. وقال ابن عبد البَرّ: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير، إلى أن الأذان من الاختلاف المباح، فإن رَبَّع التكبير الأول في الأذان، أو ثناه، أو رجّع في التشهد، أو لم يرجع، أو ثنى الإقامة، أو أفردها كلها، أو "إلا قد قامت الصلاة"، فالجميع جائز. وعن ابن خُزَيمة: إن ربّع الأذان ورجّع فيه ثنَّى الإقامة، وإلا أفردها. وقيل: لم يقل بهذا التفضيل أحد قبله.
قيل: الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان لإعلام الغائبين، فيكرر ليكون أوصل إليهم، بخلاف الإقامة، فإنها للحاضرين، ومن ثَمَّ استُحب أن يكون الأذان في مكان عال، بخلاف الإقامة، وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة، وأن يكون الأذان مُرتلًا، والإقامة مسرعة، وإنما اختص الترجيح بالشهادتين؛ لأنهما أعظم ألفاظ الأذان، واختص التكرير في الإقامة