الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَاّ أَنْ يَسْتَهِمُوا لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ. وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا.
ذكر المصنِّفُ في هذا المتن ثلاثة أحاديث، قصة الذي نحّى غصن الشوك، والشهداء، والترغيب في النداء، وكأنّ قتيبة حدث به عن مالك هكذا مجموعًا، فلم يتصرف فيه المصنف كعادته في الاختصار، وتكلف الزَّيْنُ بن المُنِير في إبداء مناسبة للأول من جهة أنه دالٌ على أن الطاعة، وإن قلَّتْ، فلا ينبغي أن تترك، واعترف بعدم مناسبة الثاني. أما حديث الترغيب في النداء، فقد مرَّ الكلام عليه في باب الاستهام في الأذان، وحديث تنحية غصن الشوك، أخرجه المؤلف في المظالم، وحديث الشهداء أخرجه في الجهاد، وها أنا أتكلم عليهما هنا.
قوله: فأخذه في رواية الكُشْمِيْهَنيّ "فأخّره" يعني عن الطريق، قوله: فشكر له، أي رضي بفعله وقبل منه، يقال: شكرته، وشكرت له بمعنى واحد. وفي حديث أَنَس عند أحمد "أن شجرة كانت في طريق الناس تؤذيهم فأتى رجل فعزلها" وفي هذا الحديث "ولقد رأيته يتقلب في ظلها في الجنة" وقد ترجم المصنف لهذا الحديث في المظالم بقوله "باب من أخذ الغصن وما يؤذي الناس
في الطريق، فرمى به" قال الزَّيْنُ بن الْمُنِير: إنما ترجم لئلا يتخيل أن الرمي بالغصن، وغيره مما يؤذي، تصرف في ملك الغير بغير إذنه، فأراد أن يبين أن ذلك لا يمتنع لما فيه من الندب إليه. وقد روى مسلم عن أبي بَرْزَةَ قال: قلت: "يا رسول الله، دُلَّني على عمل انتفع به، قال: اعزل الأذى عن طريق المسلمين".
ففي الحديث أن قليل الخير يحصل به كثير الأجر، وفيه فضيلة إماطة الأذى عن الطريق، وهي أدنى شُعَب الإيمان كما مرَّ في كتاب الإيمان، فإذا كان الله عز وجل يشكر عبده، ويغفر له على إزالة غصن شوك من الطريق، فلا يدري ماله من الفضل والثواب إذا فعل ما فوق ذلك.
وقوله: الشهداء خمس، كذا لأبي ذَرٍّ عن الحمويّ، وللباقين خمسة، وهو الأصل في المذكر، وجاز الأولُ لأن الأصل إذا كان غير مذكور يجوز الوجهان. فلذا جاز الأول هنا، والشهداء جمعٍ شهيد، وهو إما بمعنى فاعل، أو مفعول، وقد اختلف في سبب تسميته شهيدًا، فقيل: لأنه حيٌّ فكأنَّ أرواحهم شاهدة، أي حاضرة، فهو بمعنى فاعل على هذا، وقيل: لأنه يشهد عند خروج روحه ما أعد الله له من الكرامة. وقيل: لأنه هو الذي يشهد يوم القيامة بإبلاغ الرسل. وقيل: لأنه يشاهد الملائكة عند احتضاره. وقيل: لأنه يشاهد الملكوت من دار الدنيا ودار الآخرة، وهذه كلها بمعنى فاعل.
وقيل لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة، وقيل لأنه مشهود له بالأمان من النار، وقيل لأنه عليه علامة شاهدة بأنه قد نجا، وقيل لأن عليه شاهدًا بكونه شهيدًا. وقيل لأنه لا يشهده عند موته إلا ملائكة الرحمة. وقيل لأن الملائكة تشهد له بحسن الخاتمة. وقيل الأنبياء تشهد له بحسن الاتباع لهم. وقيل لأن الله تعالى يشهد له بحسن نيته وإخلاصه، وهذه كلها بمعنى مفعول، وبعض هذه يختص بمن قُتل في سبيل الله، ويعضها يعم غيره، ويعضها قد ينازع فيه.
وقوله: المطعون هو الذي يموت في الطاعون، أي الوباء، ولم يرد المطعون بالسِّنان؛ لأنه الشهيد في سبيل الله. والطاعون مرض عام يفسد له
الهواء فتفسد الأمزجة والأبدان، والمبطون هو صاحب الإسهال، وقيل هو الذي به الاستسقاء، وقيل هو الذي يشتكي بطنه، وقيل من مات بداء بطنه مطلقًا، وصاحب الهَدْم هو الذي يموت تحت الهَدَم. قال ابن الجَوْزِيّ: بفتح الدال المهملة، وهو اسم ما يقع. وأما بتسكين الدال فهو الفعل، والذي يقع هو الذي يقتل، ويجوز أن ينسب القتل إلى الفعل.
وقوله: والشهيد في سبيل الله، هذا هو الخامس من الشهداء، وقد قال الطيبى: يلزم منه حمل الشيء على نفسه؛ لأن قوله "خمسة" خبر للمبتدأ، والمعدود بعده بيان له، وأجاب بأنه من باب "أنا أبو النجم وشعري شعري" ويحتمل أن يكون المراد بالشهيد في سبيل الله المقتولَ؛ فكأنّه قال: والمقتول، فعبر عنه بالشهيد، ويؤيده قوله في رواية جابر بن عتيك الآتية "الشهداء سبعة سوى القتيل في سبيل الله" ويجوز أن يكون لفظ الشهيد مكررًا في كل واحد منها، فيكون من التفصيل بعد الإجمال. والتقدير الشهداء خمسة، الشهيد كذا، والشهيد كذا إلى آخره.
وقوله في الحديث: الشهداء خمسة، قد جاء في كثير من الأحاديث الجيدة ما يحصل من مجموعه أكثر من عشرين خصلة، فلعله صلى الله عليه وسلم أعلم بالأقل، ثم أعلم زيادة على ذلك فذكرها في وقت آخر، ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك، وقد قال البخاريّ في الجهاد: باب الشهادة سبع سوى القتل، وعنى بالترجمة ما أخرجه مالك وأبو داود والنَّسائيّ وابن حبَّان عن جابر بن عَتيك، كأمير، "أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثَابت
…
" فذكر الحديث، وفيه "ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: من يقتل في سبيل الله" وفيه "الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله" فذكر زيادة على حديث أبي هُرَيْرَةَ "الحريق، وصاحب ذات الجَنْب والمرأة تموت بجُمْع" فأما ذات الجَنْب فهو مرض معروف يقال له الشَّوصة.
وأما المرأة تموت بجُمْع، فهو بضم الجيم وسكون الميم وقد تفتح الجيم وتكسر، وهي النُّفَساء، ويدل لهذا ما أخرجه النّسائيّ عن عقبة بن عامر، خمس
من قُبِض فيهنَّ فهو شهيد" فذكر فيهن النُّفَساء، وقيل هي التي يموت ولدها في بطنها ثم تموت بسبب ذلك، وقيل التي تموت بمزدلفة، وهو خطأ ظاهر، وقيل التي تموت عَذراء.
ولأحمد من حديث راشد بن حُبَيْش نحو حديث جابر بن عَتِيك، وفيه والسِّل" وهو بكسر السين، وروى أصحاب السنن، وصححه التِّرْمِذيّ، عن سعيد بن زيد مرفوعًا "من قتل دون ماله فهو شهيد" قال في الدين والدم والأهل مثل ذلك، وللنَّسائيّ عن سُوَيد بن مُقَرّن مرفوعًا "من قتل دون مظلمته فهو شهيد" وأخرج أبو داود والحاكم والطَّبَرانيّ عن أبي مالك الأَشْعَريّ مرفوعًا "من وَقَصَه فرسه أو بعيره في سبيل الله، أو لدغته هامَّة، أو مات على أي حتف شاء الله فهو شهيد" وصحح الدارَقُطني من حديث ابن عمر "موت الغريب شهادة" ولابن حِبّان عن أبي هُريرة "من مات مرابطًا مات شهيدًا" وللطَّبَرانيّ عن ابن عباس مرفوعًا "المرء يموت على فراشه في سبيل الله شهيد".
وقال ذلك أيضًا في المبطون واللَّديغ والغَريق والشَّرِيق والذي يفترسه السبع والخارّ عن دابته، وصاحب الهدم، وذات الجنب، ولأبي داود عن أم حَرام "المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد" وأخرج الحاكم عن أنس "من سأل القتل في سبيل الله صادقًا ثم مات أعطاه الله أجر شهيد". وللحاكم أيضًا من حديث سهل بن حنيف مرفوعًا "من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه" وأخرج مسلم عن أنَس مرفوعًا "من طلب الشهادة صادقًا أُعطِيها ولو لم يصبها" أي أعطي ثوابها ولو لم يقتل. وفي كتاب الطِّب "من صبر على الطاعون فله أجر شهيد" أخرجه المؤلف، وعند الطَّبرانيّ عن ابن مسعود وبإسناد صحيح "أن من تردَّى من رؤوس الجبال، وتأكله السباع، ويغرق في البحار لشهيد عند الله" فهذه نحو سبع وعشرين وردت بالأسانيد الجيدة ووردت أحاديث أخرى في أمور أخرى لم يعرج عليها لضعفها.
قال ابن التّين: هذه مِيتات فيها شدة تفضل الله تعالى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بأن جعلها تمحيصًا لذنوبهم، وزيادة في أجورهم، فيبلغهم بها مراتب