الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني والعشرون
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الأَنْصَارِيَّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا أَذَّنَ قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ كَذَلِكَ يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ شَيْءٌ.
قوله: "كان المؤذن إذا أذَّن"، في رواية الإسماعيليّ:"إذا أخذ المُؤذِّن في أذان المغرب"، وقوله:"قام ناسٌ" في رواية النّسائيّ: "قام كبار أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"، وكذلك تقدم للمؤلف في أبواب ستر العورة. وقوله:"يبتدرون"، أي: يستبقون والسَّوَاري جمع سارية، وكان غرضهم بالاستباق إليها للاستتار بها ممن يمر بين أيديهم لكونهم يصلون فرادى. وقوله:"وهم كذلك"، أي: في تلك الحال. زاد مسلم عن أنس: "فيجيء الغريب فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليها".
وقوله: "ولم يكن بينهما"، أي: الأذان والإقامة. وقوله: شيء، التنوين فيه للتعظيم، ونفي الكثير لا يستلزم نفي القليل. وبهذا يندفع قول من زعم أن الرواية المعلقة معارضة للرواية الموصولة، بل هي مبينة لها لأن نفي الكثير يقتضي إثبات القليل، وقد أخرجها الإسماعيليّ موصولة عن عُثمان بن عمر، عن شعبة، بلفظ:"وكان بين الأذان والإقامة قريب"، ولمحمد بن نصر عن أبي عامر، عن شُعبة نحوه. وقال ابن المُنير: يُجمع بين الروايتين بحمل الغني المطلق على المبالغة مجازًا، والإثبات للقليل على الحقيقة، وحمل بعض العلماء حديث الباب على ظاهره. فقال: دل قوله: "ولم يكن بينهما شيء" على
أنَّ عموم قوله: "بين كل أذانين صلاة" مخصوص بغير المغرب، فإنهم لم يكونوا يصلّون بينهما، بل كانوا يشرعون في الصلاة في أثناء الأذان، ويفرغون مع فراغه. قال: ويؤيد هذا ما رواه البَزَّار عن حَبّان بن عُبيد الله، بفتح المهملة والتحتانية مشددة، عن بُريدة مثل الحديث الأول، أي: حديث ابن مُغفَّل، وزاد في آخره: إلا المغرب.
وفي قوله: "يفرغون مع فراغه"، نظر لأنه ليس في الحديث ما يقتضيه، ولا يلزم من شروعهم في أثناء الأذان ذلك، قاله في "الفتح". قلت: ظاهره أن شروعهم في أثناء الأذان في الحديث، وليس كذلك، بل هو جمع من بعض العلماء كما مر. وأما رواية حَيّان فشَاذّة؛ لأنّه وإن كان صَدوقًا عند البَزّار وغيره، فقد خالف الحفاظ من أصحاب ابن بُريدة في إسناد الحديث ومتنه. وعند الإسماعيليّ:"وكان بُريدةُ يُصلِّي ركعتين قبل صلاة المغرب"، فلو كان الاستثناء محفوظًا لم يخالف فيه بُريدة روايته.
وقد نقل ابن الجَوزِيّ في الموضوعات عن الفَلَّاس أنه كذب حيّانَ المذكور. وقال القُرطبيُّ وغيره: ظاهر حديث أنس أن صلاة الركعتين بعد المغرب قبل صلاة المغرب، كان أمرًا قرر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه عليه، وعملوا به حتى كانوا يستبقون إليه، وهذا يدل على الاستحباب، وكان أصلُه قوله عليه الصلاة والسلام:"بين كل أذانين صلاة"، وأما كونه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يصلهما، فلا ينفي الاستحباب، بل يدل على أنهما ليستا من الرواتب. وإلى استحبابهما ذهب أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث، وذهب مالك والشافعي في الشهور عنهما وأبو حنيفة إلى عدم استحبابها، بل عند المالكية مكروهتان تنزيهًا، وعن مالك قول باستحبابها، وكذا عند الشافعية وجه رجّحه النَّوويّ ومن تبعه.
وقال في شرح مسلم: قول من قال إن فعلهما يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها خيال فاسد منابذ للسنة، ومع ذلك فزمنهما يسير لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها. قال في "الفتح": مجموع الأدلة يدل على استحباب تخفيفهما
كما في ركعتي الفجر، قيل: الحكمة في الندب إليهما رجاء إجابة الدعاء، لأن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد، وكلما كان الوقت أشرف كان ثواب العبادة فيه أكثر. وادعى بعض المالكية نسخهما، فقال: إنما كان ذلك في أول الأمر، حيث نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، فَبَيّن لهم بذلك وقت الجواز، ثم ندب إلى المبادرة إلى المغرب في أول وقتها، فلو استمرت المواظبة على الاشتغال بغيرها، لكان ذلك ذريعة إلى مخالفة إدراك أول وقتها. وتعقب هذا بأن دعوى النسخ لا دليل عليها.
قلت: دليل النسخ ما رواه أبو داود عن ابن عمر، قال: ما رأيت أحدًا يصليهما على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فأي دليل فوق هذا؟ فكيف تكون الصحابة داومت عليهما إلى موته عليه الصلاة والسلام، ولم يري ابن عمر أحدًا يصليهما؟ وهو قد بلغ في الأحزاب، وما رواه محمد بن نصر وغيره عن إبراهيم النَّخعيّ أن الخلفاء الأربعة كانوا لا يصلونهما، وهذا هو أقوى دليل على النسخ عند مالك. قال: لأن الخلفاء هم أعلم الناس بآخر فعله عليه الصلاة والسلام، فكانوا يتبعون الأحدث من فعله فالأحدث، فهذا دالٌّ على أنه لم يفعلهما، أو أن كان فعلهما تركهما أخيرًا.
وقول صاحب "الفتح" فيما مرّ عنه: إن عدم فعله عليه الصلاة والسلام لهما لا ينافي الاستحباب، فيه نظر، فإنه شافعي، والمستحب عند الشافعية ما فعله صلى الله تعالى عليه وسلم من غير مداومة، والمستحب عندنا معاشر المالكية مرادف للندب، وهو ما أمر به أمرًا غير جازم، أو أعلم صلى الله تعالى عليه وسلم فيه بالثواب، ولم يثبت حديث فيه الأمر بهاتين الركعتين، والإخبار بثوابهما. وقد روى محمد بن نصر وغيره من طرق قوية عن عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبيّ بن كعب، وأبي الدرداء، وأبي موسى وغيرهم أنهم كانوا يواظبون عليهما، ويأتي في أبواب التطوع أن عقبة بن عامر سُئل عن الركعتين قبل المغرب، فقال: كنا نفعلهما على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، قيل له: فما منعك الآن؟ قال: الشغل.