الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ".
قوله: عن الأعرج، في رواية السّراج عن أبي الزناد "سمع الأعرج". وقوله: والذي نفسي بيده، هو قسم كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقسم به، والمعنى أن أمر نفوس العباد بيد الله، أي بتقديره وتدبيره. وفيه جواز القسم على الأمر الذي لا شك فيه، تنبيهًا على عظم شأنه. وفيه الرد على من كره أن يحلف بالله مطلقًا. وقوله: لقد هممت، اللام جواب القسم، والهَمّ العزم، وقيل: دونه، وزاد مسلم في أوله "أنه صلى الله عليه وسلم فقد ناساً في بعض الصلوات، فقال: لقد هممت" فأفاد ذكر سبب الحديث.
وقوله: بحطب ليحطب، كذا للحَمَويّ، والمُسْتَملي بلام التعليل، وللكُشْمِيْهَنِيّ والباقين "فيحطب" بالفاء، وكذا هو في "الموطأ" منصوبًا عطفًا على الذي قبله مبنيًا للمجهول. وفي روية وحطب واحتطب بمعنى واحد. قال "في الفتح": أي يكسر ليسهل اشتعال النار فيه، ويحتمل أن يكون أطلق ذلك عليه قبل أن يتصف به تجوزًا، بمعنى أنه سيتصف به. وقال العَيْنِيّ: لم يقل أحد من أهل اللغة أن معنى يحطب يكسر، بل المعنى يجمع.
وقوله: ثم آمر بالصلاة، وقد اختلف في تعيين الصلاة التي وقع التهديد بسببها، قيل: هي العشاء، وقد يومىء إلى أنها العشاء حديث الباب، لقوله في
آخره "لشهد العشاء" وفي رواية مسلمًا "يعني العشاء" وفي رواية لهما الإيماء إلى أنها العشاء، وعينها السّراج في رواية أنها العشاء، حيث قال في صدر الحديث "أخّر العشاء ليلة، فخرج فوجد الناس قليلًا، فغضب" فذكر الحديث. ولابن حبَّان يعني الصلاتين العشاء والغداة. وعند أحمد التصريح بتعيين العشاء، وسائر الروايات عن أبي هُرَيرةَ على الإبهام. وأخرجه عبد الرَّزَّاق والبَيْهَقِيّ عن معمر فقال: الجمعة، ولكن قال البَيْهَقِيّ بشذوذ هذه الرواية، ويدل على ذلك ما رواه أبو داود والطَّبَرانيّ عن أبي هُرَيرة من هذا الوجه أن أبا هُرَيرة لم يذكر جمعة ولا غيرها. وفي حديث ابن مسعود وعند مسلم الجزم بأنها الجمعة، وهو حديث مستقل مخرجه مغاير لحديث أبي هُرَيرة، فلا يقدح أحدهما في الآخر، فيحمل على أنهما واقعتان.
كما أشار إليه النوويّ والمُحبّ الطَّبَرِيّ، وقد وافق ابن أم مكتوم أبا هُرَيْرة على تعيين العشاء، وذلك فيما أخرجه ابن خُزَيْمَةَ وأحمد والحاكم عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل الناس في صلاة العشاء فقال: لقد هممت أني آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة فأُحَرِّق عليهم بيوتهم، فقام أم ابن مكتوم فقال: يا رسول الله، قد علمت ما بي وليس قائد" زاد أحمد "وأن بيني وبين المسجد شجرًا ونخيلًا، ولا أقدر على قائد كل ساعة، قال: أتسمع الإقامة؟ قال: أسمعها قال: فاحضرها" ولم يرخص له. ولابن حبان من حديث جابر قال: أتسمع الأذان؟ قال: نعم، قال: فأتها ولو حبوًا. وقد حمله العلماء على أنه كان لا يَشق عليه التصرف بالمشي وحده ككثير من العُميان، وعلل اختصاص العشاء والفجر بهذا بأن غيرها مظنة الشغل بالتكسب وغيره، أما العصران فظاهر، وأما المغرب فإنها في الغالب وقت الرجوع إلى البيت والأكل، ولاسيما للصائم مع ضيق وقتها بخلاف العشاء والفجر، فليس للمتخلف عنها عذر غير الكسل المذموم. وفي المحافظة عليهما أيضًا انتظام الألفة بين المتجاورين في طرفي النهار، وليختموا النهار بالاجتماع على الطاعة، ويختموه كذلك.
وفي رواية عن أبي هريرة عند أحمد تخصيص التهديد بمن حول المسجد،
ويأتي في الحديث أن العشاء والفجر أثقل على المنافقين من غيرهما، وإنما كانتا أثقل عليهم من غيرهما لقوة الداعي إلى تركهما لأن العشاء وقت السكون والراحة، والصبح وقت لذة النوم. وقيل: وجهه كون المؤمنين يفوزون بما ترتب عليهما من الفضل لقيامهم بحقها دون المنافقين. وقوله: ثم أخالف إلى رجال، أي آتيهم ملأ خلفهم. قال الجَوْهَريّ: خالف إلى فلان، أي أتاه إذا غاب عنه، أو المعنى أُخالف الفعل الذي أظهرت من إقامة الصلاة، وأتركه وأسير إليهم، أو معنى أخالف ظنهم في أني مشغول بالصلاة عن قصدي إليهم، أو أخالف أتخلف، أي عن الصلاة إلى قصد المذكورين، والتقييد بالرجال يُخرج النساء والصبيان.
وقوله: فَأُحَرِّقُ بالتشديد، والمراد به المبالغة، يقال: حرّقه إذا بالغ في تحريقه، وقوله: عليهم، يشعر بأن العقوبة ليست قاصرة على المال، بل المراد تحريق المقصودين والبيوت تبعًا للقاطنين فيها. وفي رواية مسلم "فأحرق بيوتًا على من فيها". وقوله: والذي نفسي بيده، فيه إعاده اليمين للمبالغة في التأكيد. وقوله: أنه يجد عرقًا، أي بفتح المهملة وسكون الراء بعدها قاف. قال الأَزْهَرِي: العَرْق بالفتح واحد العُراق، بالضم، وهي العظام التي يؤخذ منها هبر اللحم، ويبقى عليها لحم رقيق فيكسرويطبخ ويؤكل ما على العظام من لحم دقيق، ويتشمس العظام، يقال: عرقت العظم واعترقته وتعرقته إذا أخذت اللحم منه نهشًا.
وقال الأصْمَعيّ: العَرْق بسكون الراء قطعة لحم، ونقل جمع العَرْق على العِراق بكسر العين، وهو أقيس. وقال الخليل: العِراق العظم بلا لحم، وإن كان عليه لحم فهو عَرْق. وقوله: ومِرمَاتين، تثنية بكسر الميم، مثل مِنسأة ومِيضأة، وهي ما بين ظلفي الشاة من اللحم أو الظلفان نفسهما. قال عِيَاض: فالميم على هذا أصلية. قلت: لم أفهم وجه أصالتها مع أنها شبهت بمِنسأة ومِيضأة والميم فيهما زائدة، وأيضًا القاعدة التصريفية أن الميم إذا سبقت ثلاثة أحرف أصلية يحكم عليها بالزيادة، وهي كذلك. وقيل: المِرماة لعبة كانوا
يلعبونها بنصال محددة يرمونها في كوم من تراب، فأيهم أثبتها في الكوم غلب، وهي المِرماة والمِدحاة، ويبعد أن تكون هذه مراد الحديث، لأجل التثنية، وقيل: المرماة سهم الهدف، ويؤيده ما في حديث أبي هُريرة "لو أن أحدهم إذا شهد الصلاة معي، كان له عظم من شاة سمينة، أو سهمان لفعل" وقيل: المرماة سهم يتعلم عليه الرميّ وهو سهم دقيق مستوي غير محدد، قال ابن المُنِير: ويدل على ذلك التثنية فإنها مشعرة بتكرار الرامي بخلاف السهام المحددة الحربية، فإنها لا يتكرر رميها. وقال الزَّمَخْشَريّ: تصير المِرْمَاة بالسهم ليس بوجيه، ويدفعه ذكر العرق معه، ووجهه ابن الأَثير بأنه لما ذكر العظم السمين، وكان مما يؤكل، أتبعه بالسهمين لأنهما مما يُلَهّى به، ووصف العَرْق بالسمين، والمِرماة بالحسن، ليكون ثَمّ باعثٌ نفسانيّ على تحصيلهما.
وقوله: لشهد العشاء أي صلاتها، فالمضاف محذوف، والمعنى لو علم أنه لو حضر الصلاة يجد نفعًا دنيويا، وإن كان خسيسًا حقيرًا لحضرها، لقصور همته على الدنيا، ولا يحضرها لمالها من مثوبات الأخرى ونعيمها، فهو وصف بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به، مع التفريط فيما يحصل به رفيع الدرجات ومنازل الكرامات، وحديث الباب ظاهر في كون الجماعة فرض عين؛ لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول ومن معه، ويحتمل أن يقال إن التهديد بالتحريق المذكور يمكن أن يقع في حق تاركي فرض الكفاية، كمشروعية قتال تاركي فرض الكفاية، وفيه نظر؛ لأن التحريق الذي قد يفضي إلى القتل أخص من المقاتلة، ولأن المقاتلة إنما تشرع فيما إذا تمالأ الجميع على الترك.
وإلى القول بأنها فرض عين ذهب عَطَاء والأَوْزَاعيّ وأحمد وجماعة من محدِّثي الشافعية، كأبي ثَور وابن خُزَيْمَة وابن المُنذر وابن حِبّان، وبالغ داود ومن تبعه فجعلها شرطًا في صحة الصلاة، وهذا مبني على أن ما وجب في العبادة كان شرطًا فيها، وهذا هو الغالب، ولكن لما كان الوجوب قد ينفك عن الشرطية، قال أحمد، ومن قال بقوله: إنها واجبة غير شرط. وظاهر ما نص
الشافعي أنها فرض كفاية، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه، وصححه النَّوَوِيّ في "المنهاج" كأصل الروضة، وبه قال بعض المالكية، واختاره الطَّحَاويّ والكَرْخِيّ وغيرهما من الحنفية، لحديث أبي داود، وصححه ابن حَبّان وغيره، "ما من ثلاثة في قرية أو بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان" أي غلب.
ومشهور مذهب مالك وأبي حنيفة أنها سنة مؤكدة، وهو وجه عند الشافعية، لقوله عليه الصلاة والسلام، فيما رواه الشيخان "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" ولمواظبته صلى الله عليه وسلم، وبما رواه الحاكم، وصححه عن أُبيّ بن كَعْب رضي الله تعالى عنه "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع رجلين أزكى من صلاته مع رجل، وما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل" وبقوله صلى الله عليه وسلم للذين صليا في رحالهما من غير جماعة "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد، فصليا فإنهما لكما نافلة، فلو كانت فرضًا لأمرهما بالإعادة" ومثل هذا جرى لمحجن الدُئليّ: ذكره في الموطأ. وعند المالكية قول بأنها ندب وجمع ابن رشد بين الأقوال الثلاثة، فقال: فرض في حق أهل البلد سنة في حق كل مسجد ندب في حق كل فصل. وأجابوا عن ظاهر حديث الباب بأجوبة:
منها ما قال ابن بُزَيْزة أن بعضهم استنبط من نفس الحديث عدم الوجوب، لكونه صلى الله عليه وسلم هَمّ بالتوجه إلى المتخلفين، فلو كانت الجماعة فرض عين ما همّ بتركها إذا توجه، وتعقب بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه، وليس فيه أيضًا دليل على أنه لو فعل ذلك لم يتداركها في جماعة آخرين.
الثاني: قال ابن بطّال وغيره: لو كانت فرضًا لقال حين توعده بالإحراق: من تخلف عن الجماعة لم تجزئه صلاته؛ لأنه وقت البيان، وتعقب بأن البيان قد يكون بالتنصيص، وقد يكون بالدلالة، فلما قال صلى الله عليه وسلم "لقد هممت" إلخ دل على وجوب الحضور، وهو كاف في البيان.
ثالثها: أن الخبر ورد مورد الزجر، وحقيقته غير مرادة، وإنما المراد المبالغة، ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة، التي يعاقب بها الكفار، وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك، وأجيب بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار، وكان قبل ذلك جائزًا، كما يدل عليه حديث أبي هُريرة الآتي في الجهاد، الدال على جواز التحريق بالنار، ثم على نسخه، فحمل التهديد على حقيقته غير ممتنع.
رابعها: كونه صلى الله عليه وسلم ترك تحريقهم بعد التهديد، فلو كان واجبًا ما عفا عنهم. وقال عياض ومن تبعه: ليس في الحديث حجة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام هم ولم يفعل. زاد النَّوَوِيّ: ولو كان فرض عين ما تركهم، قال ابن دَقِيق العِيْد: هذا ضعيف؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا يهم إلا بما يجوز له فعله، وأما الترك فلا يدل على عدم الوجوب، لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك، وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه، على أنه قد جاء في بعض الطرق بيان سبب الترك، وهو ما رواه أحمد عن المَقْبريّ عن أبي هُريرة "لولا ما في البيوت من النساء والذرية، لأقمت صلاة العشاء، وأمرتُ فِتياتي يحرقون .. " الحديث.
خامسها: أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسًا، لا مجرد الجماعة، وهو متعقب بأن في رواية مسلم "لا يشهدون الصلاة" أي لا يحضرون، وفي رواية عجلان عن أبي هُرَيرة عند أحمد "لا يشهدون العشاء في الجميع" أي في الجماعة. وفي حديث أُسَامة بن زيد عند ابن ماجَه مرفوعًا "لَيَنْتَهِينَّ رجالٌ عن تركهم الجماعات أو لأحرِّقن بيوتهم".
سادسها: أن الحديث ورد في الحث على مخالفة فعل أهل النفاق، والتحذير من التشبه بهم، لا لخصوص ترك الجماعة، فلا يتم الدليل، وهذا قريب من الثالث.
سابعها: أن الحديث ورد في حق المنافقين، فليس التهديد لترك الجماعة بخصوصه، فلا يتم الدليل، وتعقب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على
تركهم الجماعة، مع العلم بأنه لا صلاة لهم، وبأنه كان معرضًا عنهم وعن عقويتهم، مع علمه بطويتهم. وقد قال:"لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" وتعقب ابن دَقيق العِيد هذا التعقب بأنه لا يتم إلا إذا ادعى أنّ ترك معاقبة المنافقين كان واجبًا عليه، ولا دليل على ذلك، فإذا ثبت أنه كان مخيرًا فليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقويتهم.
والذي يظهر أن الحديث ورد في حق المنافقين، لقوله في صدر الحديث الآتي بعد أربعة أبواب "ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر" ولقوله "لو يعلم أحدهم .. " إلخ لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل، لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر، بدليل قوله في رواية عَجْلَان "لا يشهدون العشاء في الجميع" وقوله في حديث أُسامة "لا يشهدون الجماعة" ولما هو أصرح من ذلك في رواية يزيد بن الاسم عن أبي هُرَيرة عند أبي داود "ثم آتي قومًا يُصَلُّون في بيوتهم، ليست بهم علة" فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا نفاق كفر؛ لأن الكافر لا يصلي في بيته، إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء، قاله القرطبي. وأيضًا فقوله في رواية المقْبريّ "لولا ما في البيوت من النساء والذرية" يدل على أنهم لم يكونوا كفارًا؛ لأن تحريق بيت الكافر إذا تعين طريقًا إلى الغلبة عليه، لم يمنع ذلك وجود النساء والذرية في بيته. قلت: هذا خلاف مذهبنا معاشر المالكية، فإن تحريق الكافر وتغريقه يمنعه عندنا وجود النساء والذرية، إلا لخوف على المسلمين.
وعلى تقدير أن يكون المراد بالنفاق في الحديث نفاق الكفر، فلا يدل على عدم الوجوب؛ لأنه يتضمن أن ترك الجماعة من صفات المنافقين، وقد نهينا عن التشبه بهم، وسياق الحديث يدل على الوجوب من جهة المبالغة في ذم من تخلف عنها، قال الطِّيبيّ: خروج المؤمن من هذا الوعيد، ليس من جهة أنهم إذا سمعوا النداء جاز لهم التخلف عن الجماعة، من جهة أن التخلف ليس من شأنهم، بل هو من صفات المنافقين، ويدل عليه قول ابن مسعود عند مسلم
"لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق" ويدل عليه ما رواه ابن أبي شَيْبَةَ وسَعِيد بن مَنْصور بإسناد صحيح عن ابن عُمَير بن أَنَس "حدثني عمومتي من الأنصار قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يشهدها منافق" يعني العشاء والفجر، ولا يقال هذا يدل على ما ذهب إليه صاحب هذا الوجه لانتفاء أن يكون المؤمن قد تخلف، وإنما ورد الوعيد في حق من تخلف؛ لأنا نقول هذا يقوي ما هو الظاهر أولًا من أن المراد بالنفاق نفاق المعصية لا نفاق الكفر، فعلى هذا الذي خرج هو المؤمن الكامل، لا العاصي الذي يجوز إطلاق النفاق عليه مجازًا، لما دل عليه مجموع الأحاديث.
ثامنها: ما ادَّعاه بعضهم من أن فرضية الجماعة كانت في أول الإِسلام لأجل سد باب التخلف عن الصلاة على المنافقين، ثم نسخ، حكاه عياض. ويمكن أن يتقوى بثبوت نسخ الوعيد المذكور في حقهم، وهو التحريق بالنار، كما يأتي في الجهاد. وكذا ثبوت نسخ ما يتضمنه التحريق من جواز العقوبة بالمال، ويدل على النسخ الأحاديثُ الواردة في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، كما يأتي في الباب الذي بعد هذا، لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل، ومن لازم ذلك الجواز.
تاسعها: أن المراد بذلك الجمعة لا باقي الصلوات؛ لأن الجماعة فيها شرط صحة باتفاق، وقد مرت الأحاديث الواردة في تعيين الصلاة التي وقع التهديد بسببها، هل هي الجمعة، أو العشاء والفجر معًا؟ وقد اعتمد ابن خُزَيْمَةَ وغيره من القائلين بفرضية الجماعة حديث ابن أم مكتوم المتقدم. قالوا إنه دال على فرضية الجماعة في الصلوات كلها، ورجحوه بحديث الباب، وبالأحاديث الدالة على الرخصة في التخلف عن الجماعة، قالوا: لأن الرخصة لا تكون إلا عن واجب، وفيه نظر، ووراء ذلك أمر آخر ألزم به ابن دَقِيق العِيْد من يتمسك بالظاهر، ولا يتقيد بالمعنى. وهو أن الحديث ورد في صلاة معينة، فيدل على وجوب الجماعة فيها دون غيرها، وأشار للانفصال عنه بالتمسك بدلالة العموم، لكن نُوْزع في كون القول بما ذكر أولًا ظاهرية محضة، فإن قاعدة حمل المطلق
على المقيد تقتضيه، ولا يستلزم ذلك ترك اتباع المعنى؛ لأن غير العشاء والفجر مظنة الشغل بالتكسب وغيره، إلى آخر ما مرَّ بيانه.
ولمشروعية الجماعة حكم منها قيام نظام الألفة بين المصلين، ولذا شرعت المساجد في المحال ليحصل التعاهد باللقاء في أوقات الصلوات بين الجيران، ومنها قد يتعلم الجاهل من العالم ما يجهله من أحكامها، ومنها مراتب الناس متفاوتة في العبادة فتعم بركة الكامل على الناقص، فتكمل صلاة الجميع. وفي الحديث من الفوائد أيضًا تقديمُ الوعيد والتهديد على العقوبة، وسره أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتفى به عن الأعلى من العقوبة عليه، وفيه جواز العقوبة بالمال، كذا استدل به كثير من القائلين بذلك من المالكية وغيرهم، وفيه نظر، لما مرَّ ولاحتمال أن التحريق من باب ما لا يتم الواجب إلا به، إذ الظاهر أن الباعث على ذلك أنهم كانوا يختفون في بيوتهم، فلا يتوصل إلى عقوبتهم إلا بتحريقها عليهم.
وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غِرة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هَمّ بذلك في الوقت الذي عهد منه فيه الاشتغال بالصلاة بالجماعة، فأرادوا أن يبغتهم في الوقت الذي يتحققون أنه لا يطرقهم فيه أحد، وفي السياق إشعار بأنه تقدم منه زجرهم عن التخلف بالقول حتى استحقوا التهديد بالفعل، وترجم عليه البُخَاري في كتاب الأشخاص والأحكام باب "إخراج أهل المعاصي والريب من البيوت بعد المعرفة" يريد أن من طلب منهم بحق فاختفى أو امتنع في بيته لددًا ومطلًا أخرج منه بكل طريق يتوصل إليه بها، كما أراد صلى الله عليه وسلم إخراج المتخلفين عن الصلاة بإلقاء النار عليهم في بيوتهم. واستدل به ابن العَرَبيّ وغيره على مشروعية قتل تارك الصلاة متهاونًا بها، ونوزع في ذلك.
ورواية أبي داود فيها أنهم كانوا يصلون في بيوتهم كما مرَّ، تعكر عليه، نعم يمكن الاستدلال منه بوجه آخر، وهو أنهم إذا استحقوا التحريق بترك صفة من صفات الصلاة خارجة عنها، سواء قلنا واجبة أو مندوبة، كان من تركها أصلًا رأسًا أحق بذلك لكن لا يلزم من التهديد بالتحريق حصول القتل، لا دائمًا ولا