الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن والعشرون
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ: أَتَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَحِيمًا رَفِيقًا، فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا، أَوْ قَدِ اشْتَقْنَا، سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا، فَأَخْبَرْنَاهُ، قَالَ:"ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ"، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لَا أَحْفَظُهَا، "وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ".
قوله: "ونحن شَبَبَة"، أي: بفتح المعجمة والموحدتين، جمع شاب. وقوله:"متقاربون"، المراد: تقاربهم في السنّ؛ لأن ذلك كان في حال قدومهم، أو في أعم من ذلك، فعند أبي داود: وكنا يومئذ متقاربين في العلم، ولمسلم: كنا متقاربين في القراءة، ومن هذه الزيادة يجاب عن كونه قدّم الأسنّ، فليس المراد تقديمه على الإقراء، بل في حال الاستواء في القراءة، ولم يستحضر الكِرْمانيّ هذه الزيادة، فقال: يؤخذ استواؤهم في القراءة من القصة، لأنهم أسلموا وهاجروا معًا، وصحبوا ولازموا عشرين ليلةً، فاستووا في الأخذ. وتعقب بأن ذلك لا يستلزم الاستواء في العلم، للتفاوت في الفهم، إذ لا تنصيص على الاستواء.
وقوله: "فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلة"، بالجزم، وفي بعض الروايات:"نحوًا من عشرين ليلة". وقوله: "فلما ظن أنّا قد اشتهينا أهلنا، أو قد اشتقنا، سألنا عمن تركنا بعدنا، فأخبرناه. قال: ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم
…
"، إلخ، وفي الرواية الآتية في أبواب الإمامة: "فقال أرجعتم إلى
بلادكم، فعلمتموهم، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون عرض ذلك عليهم على طريق الإيناس بقوله: لو رجعتم" إذ لو بدأهم بالأمر بالرجوع، لأمكن أن يكون فيه تنفيذ، فيحتمل أن يكونوا أجابوه بنعم، فأمرهم حينئذ بقوله: "ارجعوا"، واقتصار الصحابي على ذكر سبب الأمر برجوعهم بأنه الشوق إلى أهليهم، دون قصد التعليم، هو لما قام عنده من القرينة الدالة على ذلك، ويمكن أن يكون عرف ذلك بصريح القول منه صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن كان سبب تعليمهم قومهم أشرف في حقهم، لكنه أخبر بالواقع، ولم يتزين بما ليس فيهم، ولما كانت نيتهم صادقة، صادف شوقهم إلى أهلهم الحظ الكامل في الدين، وهو أهلية التعليم، كما قال الإِمام أحمد في الحرص على طلب الحديث: حظ وافق حقًا.
وقوله هنا: "ونحن شيبة"، وفي الذي قبله:"أتى رجلان النبي"، وفي رواية الجهاد:"أنا وصاحب لي" كما مرّ يجمع بينها بأنهم حين أذن لهم في السفر كانوا جميعًا، فلعل مالكًا ورفيقه عادا إلى توديعه، فأعاد عليهما بعض ما أوصاهم به تأكيدًا. وأفاد ذلك زيادة بيان أقل ما تنعقد به الجماعة. وقوله:"اشتهينا أهلنا"، في رواية الكُشميهنيّ:"أهلِينا" بكسر اللام وزيادة ياء، وهو جمع أهل، ويجمع مكسرًا على أَهال، بفتح الهمزة مخففًا، وفي رواية وهيب:"فلما رأى شوقنا إلى أهلنا" والمراد بأهل كل منهم زوجته أو أعم من ذلك.
وقوله: "سأَلَنا"، بفتح اللام، أي: النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، سأل المذكورين. وقوله:"ارجعوا إلى أهليكم"، إنما أذن لهم في الرجوع؛ لأن الهجرة كانت قد انقطعت بفتح مكة، فكانت الإقامة بالمدينة باختيار الوافد، فكان منهم من يسكنها، ومنهم من يرجع بعد أن يتعلم ما يحتاج إليه. وقوله:"وعلموهم ومروهم"، بصيغة الأمر، ضد النهي، فالمراد به أعم من ذلك؛ لأن النهي عن الشيء أمر بفعل خلاف ما نهى عنه اتفاقًا، وعطف الأمر على التعليم لكونه أخص منه، أو هو استئناف كأنَّ سائلًا قال: ماذا نعلمهم؟ فقال: مروهم بالطاعات، وكذا وكذا.
وفي رواية حماد بن زيد في أبواب الإمامة: "مروهم فليصلوا صلاة كذا، في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا"، فعرف بذلك المأمور المبهم في رواية الباب، ولم ير في شيء من الطرق بيان الأوقات في حديث مالك بن الحُويرث، فكأنه ترك ذلك لشهرتها عندهم. وقوله:"وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها" قائل هذا هو أبو قِلابة راوي الخبر. وفي رواية أخرى: "أو لا أحفظهما" وهو للتنويع لا للشك. وقوله: "وصلوا كما رأيتموني أصلي"، أي: ومن جملة الأشياء التي يحفظها أبو قِلابة عن مالك، قوله صلى الله تعالى عليه وسلم هذا، وفي رواية وهيب السابقة:"وصلوا" فقط، ونسبت إلى الاختصار، وتمام الكلام هو الذي وقع عنا.
قال ابن دقيق العِيد: استدل كثير من الفقهاء على مواضع كثيرة، على الوجوب بالفعل مع هذا القول، وهو:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، قال: وهذا إذا أخذ مفردًا عن ذكر سببه وسياقه أشعر بأنه خطاب للأمة بأنّ يصلوا كما كان يصلي، فيقوي الاستدلال به على كل فعل ثبت أنه فعله في الصلاة، لكن هذا الخطاب إنّما وقع لمالك بن الحُويرث وأصحابه، بأنّ يوقعوا الصلاة على الوجه الذي رأوه صلى الله تعالى عليه وسلم يصليه، نعم يشاركهم في الحكم جميع الأمة بشرط أن يثبت استمراره صلى الله تعالى عليه وسلم على فعل ذلك الشيء المستدل به دائمًا، حتى يدخل تحت الأمر، ويكون واجبًا، وبعض ذلك مقطوع باستمراره عليه، وأما ما لم يدل دليل على وجوده في تلك الصلوات التي تعلق الأمر بإيقاع الصلاة على صفتها. فلا نحكم بتناول الأمر له.
وقوله: "وليؤمكم أكبركم"، ظاهره تقديم الأكبر بكثير السن وقليله، وأما من جوز أن يكون مراده بالكبر ما هو أعم من السن أو القدر، كالتقديم في الفقه والقراءة والدِّين فبعيد، لما رواه ابن خُزيمة عن خالد راوي الحديث حيث قال لأبي قِلابة: فأين القراءة؟ قال: إنهما كانا متقاربين، فإنه دال على أن خالدًا فهم أن المراد كبر السن، ودعوى أن قوله:"وليؤمكم أكبركم"، مُعارض لقوله في حديث أبي مسعود الأنصاريّ عند مسلم مرفوعًا: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله،
فإن كانت قراءتهم سواء، فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فليؤمهم أكبرهم سنًا"، الحديث؛ لأن الأول يقتضي تقديم الأكبر على الأقرأ، والثاني عكسه، يجاب عنه بأن قصة مالك بن الحويرث واقعة عين قابلة للاحتمال، بخلاف الحديث الآخر، فإنه تقرير قاعدة تفيد التعميم، فيحتمل أن يكون الأكبر منهم كان يومئذ هو الأفقه، لكن التنصيص فيما مر على تقاربهم في العلم.
هذا والأولى في الجمع ما قال الزين بن المنير، وحاصله: إن تساوى هجرتهم وإقامتهم وغرضهم بها مع ما في الشباب غالبًا من الفهم، ثم توجه الخطاب إليهم بأن يعلّموا من وراءهم من غير تخصيص بعضهم دون بعض، دال على استوائهم في القراءة والتفقه في الدين. قلت: فلم يبق إلا الكبر في السنن. وقيل: المراد بقوله في حديث أبي مسعود: "أقرؤهم"، أفقههم. وقيل: هو على ظاهره، وبحسب ذلك اختلف الفقهاء. قال النّوويّ: قال أصحابنا الأفقه مقدم على الأقرأ، فإن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط. فقد يعرض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصلاة فيه إلا كامل الفقه، ولهذا قدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر في الصلاة على الباقين، مع أنه عليه الصلاة والسلام نص على أن غيره أقرأ منه، يعني حديث:"أقرؤكم أُبيّ"، قال: وأجابوا عن الحديث، يعني حديث أبي مسعود بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه، لكن هذا الجواب يلزم منه أن من نص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على أنه أقرأ من أبي بكر يكون أفقه منه، فيفسد الاحتجاج بأنّ تقديم أبي بكر كان لأنه الأفقه. قلت: مذهب المالكية تقديم الأفقه على الأقرأ.
ثم قال النَّوويّ بعد ذلك: أن قوله في حديث أبي مسعود: "فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم في الهجرة" يدل على تقديم الأقرأ مطلقًا، وهو واضح للمغايرة، وهذه الرواية أخرجها مسلم أيضًا من وجه آخر على إسماعيل بن رجاء، ولا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما