الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ ما يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ".
في رواية ابن وَهْب عن مالك، ويونُس عن الزُّهريّ، أن عطاء بن يزيد أخبره. أخرجه أبو عوانة. وقد اختُلف على الزُّهريّ وعلى مالك في إسناد هذا الحديث، لكنه اختلاف لا يقدح في صحته. وقوله:"إذا سمعتم"، ظاهره اختصاص الإجابة بمن يسمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلًا في الوقت، وعلم أنه يؤذن، لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم لا تشرع له المتابعة، وما هو ظاهره هو الحكم عند الأئمة الأربعة. وقوله:"مثل ما يقول المؤذن"، ادَّعى ابن وضّاح أن قوله:"المؤذن" مدرج، وأن الحديث انتهى عند قوله:"مثل ما يقول". وتعقب بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى. وقد اتفقت الروايات في "الصحيحين" و"الموطأ" على إثباتها، ولم يصب صاحب العمدة في حذفها.
وقوله: "ما يقول"، قال البخاريّ: ما يقول، ولم يقل: مثل ما قال ليشعر، بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها، والصريح في ذلك ما رواه النَّسائيّ، عن أم حبيبة، أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقولُ كما يقول المؤذن حتى يسكت. وقال أبو الفتح اليَعْمُريّ: ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول عقب فراغ المؤذن، لكن الأحاديث التي تضمنت إجابة كل كلمة عقبها دلّت على أن المراد المساوقة يشير إلى حديث عمر بن الخطاب عند مسلم وغيره، فلو لم يجاوبه حتى فرغ، استحب له التدارك إن لم يَطُل الفصل. وظاهر قوله مثل أنه يقول مثل قوله في جميع الكلمات، لكن حديث عمر عند مسلم، وحديث
معاوية الآتي، يدلان على أنه يستثنى من ذلك:"حيّ على الصلاة"، و"حيّ على الفلاح"، فيقول بدلهما: لا حول ولا قوة إلا بالله، كذلك استدل به ابن خزيمة، وهو المشهور عند الجمهور.
قلت: مشهور مذهب مالك أن الحكاية تنتهي عند منتهى الشهادتين، والراجح عنده مذهب الجمهور. وقال ابن المنذر: يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح، فيقول تارة كذا، وتارة كذا. وحكى بعض المتأخرين عن أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما، وجب إعمالهما. قال: فلم لا يقال: يستحب للسامع أن يجمع بين الحَيْعلة والحَوْقَلَة، وهو وجه عند الحنابلة، وأجيب عن المشهور من حيث المعنى بأن الأذكار الزائدة على الحيعلة يشرك السامع والمؤذن في ثوابها، وأما الحَيْعَلَة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة، وذلك يحصل من المؤذن، فعوض السامع عما يفوته من ثواب الحيعلة بثواب الحوقلة.
ولقائل أن يقول: يحصل للمجيب الثواب لامتثاله الأمر، ويمكن أن يزاد إيقاظًا وإسراعًا إلى القيام إلى الصلاة إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن، ومن نفسه. وقال الطَّيبيّ: معنى الحيعلتين هلمّ بوجهك وسريرتك إلى الهدى عاجلًا والفوز بالنعيم آجلًا، فناسب أن يقول: هذا أمر عظيم لا أستطيع مع ضعفي القيام به، إلا إذا وفقني الله تعالى بحوله وقوته، ومما لوحظت فيه المناسبة ما نقل عبد الرزّاق عن ابن جُريج، قال: حدَّثت أن الناس كانوا ينصِتون للمؤذن إنصاتهم للقراءة، فإذا قال شيئًا قالوا مثله، حتى إذا قال: حي على الصلاة، قالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال: حي على الفلاح، قالوا: ما شاء الله. وبهذا قالت الحنفية في المشهور عندهم، إلا أنهم يزيدون فيقولون: ماشاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
وروي عن سعيد بن جُبير، قال: في جواب الحَيْعَلة: "سمعنا وأطعنا"، وقيل: لا يجيبه إلا في التشهدين فقط، وقيل: هما والتكبير، وقيل: يضيف إلى ذلك الحوقلة دون ما في آخره، وقيل: مهما أتى به مما يدل على التوحيد
والإخلاص كفاه، وهو اختيار الطّحاوي، وحكوا أيضًا خلافًا: هل يجيب في الترجيع أو لا؟ وفيما أذّن مؤذّن آخر: هل يجيبه بعد إجابته للأول أو لا؟ قال النوويّ: لا أعلم فيه شيئًا لأصحابنا. وقال ابن عبد السلام: يجيب كل واحد بإجابة، لتعدد السبب. وإجابة الأول أفضل إلا في الصبح والجمعة، فإنهما سواء، لأنهما مشروعان.
قلت: المشهور عند المالكية أنه لا يحكى الترجيع، وقيل: يحكيه. والمشهور عندهم أنه يكتفي بحكاية الأول مطلقًا. واختار اللخميّ تكرر الحكاية، واستدل به على جواز إجابة المؤذن في الصلاة، عملًا بظاهر الأمر، ولأن المجيب لا يقصد المخاطبة. وقيل: يؤخر الإجابة حتى يفرغ، والمشهور عند المالكية التفصيل بين النافلة، فتندب الحكاية في أثنائها، وبين الفريضة فتكره في أثنائها، ولا تبطل إلا إذا لم يبدل الحيعلتين بالحوقلتين، فتبطل إن فعل ذلك عمدًا أو جهلًا لا سهوًا.
قال في "الفتح": وقيل: يجيب إلا في الحيعلتين؛ لأنهما كالخطاب للآدميين، والباقي من ذكر الله فلا يمنع، لكن قد يقال: من يبدل الحيعلتين بالحوقلة لا يمنع؛ لأنها من ذكر الله. وفرق ابن عبد السلام بين ما إذا كان يقرأ الفاتحة فلا يجيب بناء على وجوب موالاتها، وإلا فيجيب. وعلى هذا إن أجاب في الفاتحة استأنف. قال: والمشهور في المذهب كراهة الإجابة في الصلاة، بل يؤخرها حتى يفرغ، وكذا في حال الجماع والخلاء. لكن إن أجاب بالحيعلة بطلت.
ونصّ الشافعيّ في "الأم" على عدم فساد الصلاة بذلك، واستدل به أيضًا على مشروعية إجابة المؤذن في الإقامة. قالوا: إلا في كلمتي قد قامت الصلاة، فيقول: أقامها الله وأدامها. وقياس إبدال الحيعلة بالحوقلة في الأذان أن يجيء هنا، لكن قد يفرق بأن الأذان إعلام عام، فيعسر على الجميع أن يكونوا دعاة إلى الصلاة، والإقامة إعلام خاص، وعدد من سمعها محصور، فلا يعسر أن يدعو بعضهم بعضًا، قاله في "لفتح". ومقتضى كلامه هذا أن الإبدال في
الإقامة غير منصوص عندهم.
ونصت الحنفية والحنابلة على مساواة الإقامة للأذان في ابدال الحيعلتين بالحوقلة، وعلى إبدال لفظ الإقامة أقامها الله وأدامها كما مرّ.
وأما المالكية فلا تندب عندهم حكاية الإقامة أصلًا، قلت: ولعل منشأ الخلاف بينهم ويين غيرهم أن غيرهم جعلها داخلة في قوله عليه الصلاة واللام: "إذا سمعتم المؤذن"، والمالكية لم يجعلوا الأذان شاملًا للإقامة، وحديث أبي هُريرة الماضي في فضل الأذان قال لهم في كون الإقامة غير متناول لها الأذان لتفريقه بينهما في الحديث، واستدل به أيضًا على وجوب اجابة المؤذن لدلالة الأمر على الوجوب، وبه قالت الحنفية والظاهرية وابن وهب من المالكية، قالوا: ألا ترى أن السامعين يتركون القراءة والكلام ورد السلام وكل عمل غير الإجابة؟ فهذا أمارة الوجوب.
وقال الجمهور: أن الأمر في الحديث للاستحباب لا للوجوب، وهو اختيار الطحاوي من الحنفية، واستدل الجمهور بحديث أخرجه مسلم عن أنس:"أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سمع رجلًا يقول: الله أكبر، الله أكبر، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: على الفطرة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: خرجت من النار، فنظروا فهذا هو راعي معزى"، فلما قال عليه الصلاة والسلام غير ما قال المؤذن، علمنا أن الأمر بذلك للاستحباب، وأجيب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال، فيجوز أن يكون قاله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة، ونقل القول الزائد، وبأنه يحتمل أن يكون ذلك وقع قبل صدور الأمر، ويحتمل أن يكون الرجل لم يقصد الأذان، لكن يرد هذا الأخير أن في بعض طرقه أنه حضرته الصلاة، واستدل به على أن لفظ المثل لا يقتضي المساواة من كل وجه؛ لأن قوله:"مثل ما يقول" لا يقصد به رفع الصوت المطلوب، وفيه بحث؛ لأن المماثلة وقعت في القول لا في صفته، والفرق بين المؤذن والمجيب في ذلك أن المؤذن مقصوده الإعلام، فاحتاج إلى رفع الصوت، والسامع مقصوده ذكر الله، فيكتفي بالسر أو الجهر لا مع الرفع. نعم لا يكفيه أن يجريه