الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثلاثون
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالأَبْطَحِ فَجَاءَهُ بِلَالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ، ثُمَّ خَرَجَ بِلَالٌ بِالْعَنَزَةِ حَتَّى رَكَزَهَا بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالأَبْطَحِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ.
قوله: "بالأبطح" موضع معروف خارج مكة، وقد بيناه في باب سترة الإِمام سترة لمن خلفه، وفهم بعضهم أن المراد بالأبطح موضع جمع لذكره لها في الترجمة، وليس بمراد، بل بين الأبطح وجمع مسافة طويلة، وإنما أورد حديث أبي جحيفة لأنه يدخل في أصل الترجمة، وهي مشروعية الأذان والإقامة للمسافرين، وفذا الحديث مرت مباحثه مستوفاة في كتاب الوضوء في باب "استعمال فضل وضوء الناس" وباب "الصلاة في الثوب الأحمر".
رجاله خمسة:
الأول: إسحاق، والمراد به ابن منصور، أو ابن إبراهيم، وقد مرَّ كل منهما في الحادي والعشرين من العلم، ومرَّ جَعْفَر بن عَوْن وأبو العُمَيس في الثامن والثلاثين من الإيمان، ومرَّ عَوْن بن أبي جُحَيْفَةَ في السابع والعشرين من الصلاة، ومرَّ أبو جُحَيْفةَ في الحادي والخمسين من العلم. ثم قال المصنف.
باب هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا وهل يلتفت في الأذان
قوله: يَتَتبَّع، بياء تحتانيّة ثم بتاءين مفتوحتين ثم بموحدة مشدده من التتبع، وفي رواية الأصيليّ "يُتتبع" بضم أوله من الاتباع، والمؤذن بالرفع فاعل التتبع، وفاه منصوب على المفعولية، وهاهنا وهاهنا ظرف مكان، والمراد بهما جهة
اليمين والشمال، كما يأتي قريبًا إن شاء الله تعالى. وقال الكِرْمَانيّ: لفظ المُؤذِّن بالنصب، وفاعله محذوف تقديره الشخص، وفاه بالنصب بدل من المؤذن. قال: ليوافق قول أبي جُحَيْفَة في الحديث "فجعلت اتتبع فاه" وليس ذلك بلازم لما عرفت من طريقة المصنف، أنه لا يقف مع اللفظ الذي يورده غالبًا، بل يترجم له ببعض ألفاظه الواردة فيه، وكذا وقع هنا، فإن في رواية عبد الرحمن بن مَهْدِيّ عن سفيان عند أبي عَوانة في صحيحه "فجعل يتتبع بفيه يمينًا وشمالًا" وفي رواية وكيع عن سفيان عند الإسماعيلي "رأيت بلالًا يؤذن يتتبع بفيه" ووصف سفيان "يميل برأسه يمينًا وشمالًا" والحاصل أن بلالًا كان يتتبع بفيه الناحيتين، وكان أبو جُحَيْفَة ينظر إليه، فكل منهما متتبع باعتبار.
وقوله: وهل يلتفت في الأذان، يشير إلى ما مرَّ في رواية وكيع، وعند النّسائي من رواية الأزرق "فجعل ينحرف يمينًا وشمالا" وعند مسلم من رواية وكيع عن أبي جُحَيْفَة "فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا يمينًا وشمالًا، يقول حي على الصلاة، حي الفلاح" وهذا فيه تقييده للالتفات في الأذان، وأن محله عند الحَيْعَلَتين وبوب عليه ابن خزيمة باب "انحراف المؤذن عند قوله حيّ على الصلاة، حي على الفلاح" بفمه لا ببدنه كله "قال: وإنما يمكن الانحراف بالفم بانحراف الوجه، ثم ساقه عن وكيع أيضًا بلفظ "فجعل يقول في أذانه هكذا، ويحرف رأسه يمينًا وشمالًا" وعند التِّرْمِذِي من رواية عبد الرّزّاق عن الثّوريّ "رأيت بلالًا يؤذن ويدور، ويتبع فاه هاهنا وهاهنا، وأصبعاه في أذنيه" ففي هذا الحديث زيادتان، إحداهما الاستدارة، والأخرى وضع الأصبع في الأذن.
وقوله: يدور، مُدْرَج في رواية سفيان عن عون، بيّن ذلك يحيى بن آدم عن سفيان عن عَوْن عن أبيه قال: رأيت بلالًا أذّن فاتبع فاه هاهنا وهاهنا، والتفت يمينًا وشمالًا". قال سفيان كان حجاج، يعني ابن أرطأة، يذكر لنا عون أنه قال "فاستدار في أذانه، فلما لقينا عونًا لم يذكر فيه الاستدارة"، أخرجه الطّبَرانيّ وأبو الشَّيْح، وأخرجه البَيْهَقيّ، لكنه لم يسم حجاجًا، ولم ينفرد به حَجَّاج، بل وافقه إدريس الأَوْدِي ومحمد العَرْزَميّ عن عَوْن، لكن الثلاثة ضُعَفاء، وقد خالفهم من هو أمثل منهم، قيس بن الربيع، فقد رواه أبو داود عنه عن عَوْن فقال في
حديثه "ولم يَسْتَدِر" ويمكن الجمع بأن من أثبت الاستدارة عني استدارة الرأس، ومن نفاها عني استدارة الجسد كله، ومشى ابن بَطال ومن تبعه على ظاهره، فاستدل به على جواز الاستدارة بالبدن كله، وما مشى عليه هو مذهب مالك، فإن الدوران عنده حالة الأذان جائز أو مندوب لإسماع الناس، وقيل عند الحَيْعَلة.
وقال ابن دَقيق العيد: فيه دليل على استدارة المؤذنين للإسماع عند التلفظ بالحيعلتين، واختلف هل يستدير ببدنه كله، وهو المشهور عند المالكية، أو بوجهه فقط وقدماه قارّتان مستقبلَ القبلة؟ واختلف أيضًا هل يستدير في الحيعلتين الأوليين مرة، وفي الثانيتين مرة، أو يقول حي على الصلاة عن يمينه، حي على الفلاح عن شماله، وكذا في الأخرى؟ قال "في الفتح": ورجح الثاني لأنه يكون لكل جهة نصيب منهما، والأول أقرب إلى لفظ الحديث.
وقال صاحب التوضيح من الشافعية: الالتفات في الحَيْعَلَتين سُنّة، ليعم الناس بإسماعه، وخص بذلك لأنه دعاء، وعند الحنابلة يلتفت يمينًا لحي على الصلاة، وشمالًا لحي على الفلاح، ولا يزيل قدميه سواء كان على منارة أو غيرها، أو على الأرض على المشهور. وفي "المغني" عن أحمد: ولا يدور إلا إذا كان على منارة، يقصد إسماع أهل الجهتين.
ثم قال: ويُذكرُ عن بلالٍ أنَّهُ جعلَ أُصْبَعَيهِ في أُذنيهِ.
يشير بذلك إلى ما مرَّ في رواية عبد الرَّزَّاق عن سفيان عند التِّرمذِيّ، وقد رواه مُؤَمِّلْ أيضًا عن سفيان عند أبي عَوانَةَ، وله شواهد أصحها ما رواه أبو داود وابن حِبّان، أن عبد الله الهَوْزيّ قال: قلت لبلال: كيف كانت نفقة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فذكر الحديث، وفيه قال بلال "فجعلت أصبعي في أذني، فأذنت" ولابن ماجه والحاكم من حديث سعد القرظ "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالًا أن يجعل أصبعيه في أذنيه" وفي إسناده ضعف، وبه قال الحسن وأحمد وإسحاق وأبو حنيفة ومحمد بن سيرين، أي قالوا بندبه. وقال مالك: ذلك واسع. قال العلماء: في ذلك فائدتان؛
إحداهما أن يكون أرفع لصوته، وفيه حديث ضعيف أخرجه أبو الشيخ عن سعد القَرَظ عن بلال، "أنه عليه الصلاة والسلام أمره أن يجعل أصْبَعَيه في أذنيه".
ثانيتهما أنه علامة للمؤذن، يعرف من رآه على بعد أو كان به صمم أنه يؤذن. ومن ثم قال بعضهم: يجعل يده فوق أذنيه فحسب، وهو مَرْويٌّ عن أبي حنيفة.
وقال التّرمذيّ: استحب أهل العلم أن يدخل المؤذن أصبعيه في أذنيه في الأذان، قال: واستحبه الأوزاعي في الإقامة أيضًا، وصرح الرَّوْيانيّ بأنه لا يستحب في الإقامة لفقد المعنى الذي علل به، ولم يبين في الحديث تعيين الأصبع التي يستحب وضعها. وجزم النووي بانها المُسَبحة، وإطلاق الأصبع مجاز عن الأنملة، على حد قوله تعالى:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19] ولو كان في إحدى يديه علة جعل الأصبع الأخرى في صِماخه. وهذا التعليق أخرجه ابن ماجه، ووصله عبد الرَّزَّاق وغيره عن سُفيان، وبلال قد مرَّ في التاسع والثلاثين من العلم.
ثم قال: وكانَ ابنُ عُمَرَ لا يجعلُ أصْبَعَيهِ في أُذُنيهِ.
ذكر هذا التعليق بصيغة التصحيح، فكأنّ ميله إليه، وهذا التعليق أخرجه عبد الرَّزَّاق وابن أبي شَيْبَة من طريق نُسَير، وابن عمر مرَّ أول كتاب الإيمان قبل ذكر حديث منه.
ثم قال: وقالَ إبراهيمُ: لا بأس أنْ يؤذِّن على غير وُضوءِ.
يعني ثم يخرج فيتوضأ ثم يرجع فيقيم. وهذا وصله سَعيد بن مَنْصور وابن أبي شَيْبَة عن جرير، وإبراهيم النَّخَعِيُّ قدر في الخامس والعشرين من الإيمان.
ثم قال: وقال عَطَاء: الوضوء حق وسنّةٌ.
تمامه وسنة مسنونة ألا يؤذّن المُؤذِّن إلا متوضأً هو من الصلاة، وهو فاتحة الصلاة، ولابن أبي شَيْبَة والبَيْهقيّ عن أبي هُريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤذِّن
إلا متوضىء" وفي إسناده ضعف، والصحيح أنه مُرْسَل عن الزُّهريّ وعند ابن أبي شَيْبَة أمر مُجاهد مؤذِّنه أنه لا يؤذن حتى يتوضأ، وهذا التعليق وصله عبد الرَّزّاق عن جَرير، وعَطَاء هو ابن أبي رَبَاح وقد مرَّ في التاسع والثلاثين من العلم.
ثم قال: وقالتْ عائشةُ رضي الله تعالى عنها "كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يذكرُ الله على كلِّ أحيانهِ".
وفي إيراد البخاري له هنا إشارة إلى اختيار قول النَّخَعِي، وهو قول مالك والكوفيين؛ لأن الأذن ليس من جملة الأركان، فلا يشترط فيه ما يشترط في الصلاة والطهارة، ولا من استقبال القبلة، كما لا يستحب فيه الخشوع الذي ينافيه الالتفات، وجعل الأُصْبَعَ في الأذن، فعند مالك وأبي حَنيفة وأَحْمد: يكره أذان الْمُحْدِث حدثًا أكبر، وإقامته. والكراهة في الإقامة أشد، ولا يكره أذان المحدث حدثًا أصغر، وتكره إقامته لما فيه من الفصل بين الإقامة والصلاة بالاشتغال بأعمال الوضوء. وقال الكَرْخيّ من الحنفية: لا تكره الإقامة على غير وضوء وقال محمد بن الحَسَنُ: إذا أَذّن الجُنُبُ أحب إلى أن يعيد الأذان، وإن لم يعد أجزأه.
وقال صالح "الهداية": الأشبه بالحق أن يعاد أذان الجنب، ولا تعاد الإقامة، لأن تكرر الأذان مشروع في الجملة. وقال عَطَاء والأوْزَاعيّ وبعض الشافعية: تشترط فيهما الطهارة، وفائدة شدة الكراهة في الإقامة، مع تقرر من أن المكروه لا ثواب في فعله ولا عقاب، وإنما يثاب على تركه هي أن ما اشتدت كراهته يكون الثواب في تركة أكثر من الثواب في ترك ما لم تشتد كراهة فعله، أو أن المعاتبة على ما اشتدت كراهته، آكد من المعاتبة على ما دونه. وقال الشافعيّ في "الأم": يكره الأذان بغير وضوء، ويجزىء إن فعل، وللجنب أشد كراهة، لغلظ الجنابة، والإقامة أغلظ من الأذان في الحدث والجنابة لقربها من الصلاة وبهذا تعرف مناسبة ذكره لهذه الآثار في هذه الترجمة، ولاختلاف نظر العلماء فيها أوردها بلفظ الاستفهام، ولم يجزم بالحكم. وهذا التعليق وصله مسلم، وقال التّرمذيّ حسن غريب، ومرت عائشة في الثاني من بدء الوحي.