الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عباس الى ما قبل ثلث الليل، وهو مذهب اسحاق والليث، وبه قال الشافعيّ في الجديد، وفي القديم تقديمها. قال النوويّ: وهو الأصح.
قلت: ومشهور مذهب مالك امتداد مختار العشاء الى الثلث الأول. وقيل: إلى النصف. وقيل: إلى طلوع الفجر. وقوله: "كانوا أو كان النبيّ"، الخ، الشك من الراوي عن جابر، والمعنى فيهما متلازم، لأن أيهما كان يدخل فيه الآخر، ان أراد أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صلى فالصحابة كانوا معه في ذلك، وإن أراد الصحابة، فالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إمامهم، أي: كان شأنه التعجيل دائمًا، لا كما كان يصنع في العشاء من تعجيلها أو تأخيرها، وخبر كانوا محذوف يدل عليه قوله:"يصليها"، أي: كانوا يصلون.
وقال ابن بطال: فيه حذفان، حذف خبر كانوا، وهو جائز، كحذف خبر المبتدأ في قوله:{وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} ، أي: فعدتهن مثل ذلك. والحذف الثاني حذف الجملة بعد أو، تقديره: أوْ لم يكونوا مجتمعين. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون تقديره: والصبح كانوا مجتمعين مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحده يصليها بغلس، والتقدير الأول أوْلَى، لوجود ما يدل عليه. وقال ابن التين: يصح أن يكون: "كانوا" هنا تامة غير ناقصة، بمعنى الحضور والوقوع، فيكون المحذوف ما بعد "أو" خاصة. وقوله:"بغلس"، يتعلق بأي اللفظين كان هو الواقع، والمعنى في ذلك متلازم، كما مرَّ. والغَلَس، بفتح اللام، ظلمة آخر الليل.
رجاله ستة:
وفيه ذكر الحجاج.
الأول: محمد بن بشار، وقد مرَّ في الحادي عشر من العلم، ومرَّ محمد بن جعفر في الخامس والعشرين من الإيمان، ومرَّ شعبة في الثالث فيه، ومرَّ سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف في السابع والأربعين من الوضوء، ومرَّ جابر بن عبد الله في الرابع من بدء الوحي.
السادس من السند: محمد بن عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب،
الهاشميّ، أبو عبد الله المدني، أمه رملة بنت عقيل بن أبي طالب. قال أبو زُرعة والنَّسائيّ وابن خِراش: ثقة، وقال أبو حاتم أيضًا: ثقة، وذكره ابن حبّان في "الثقات". روى عن عمة أبيه زينب بنت علي، وابن عباس وجابر. وروى عنه سعد بن ابراهيم وأبو الجحاف داود بن عوف، وعبد الله بن ميمون وغيرهم.
والحجّاج المذكور في الحديث هو الحجاج بن يوسف بن أبي عقيل الثقفى، الأمير الشهير، نشأ بالطائف، وكان أبوه من شيعة بني أُمية، وحضر مع مروان حروبه، ونشأ ابنه مؤدب كتاب، ثم لحق بعبد الملك بن مروان، وحضر معه قتل مصعب بن الزبير، ثم انتدب لقتال عبد الله بن الزبير. وقال جماعة: انه دس على ابن عمر من سمه في زج رمح، وقد وقع بعض ذلك في "صحيح البخاري"، وولاه عبد الملك الحرمين مدة، ثم استقدمه وولاه الكوفة، وجمع له العراقَيْن، فسار بالناس سيرة جائرة، واستمر في الولاية نحوًا من عشرين سنة.
وكان فصيحًا بليغًا فقيهًا، وكان يزعم أن طاعة الخليفة فرض على الناس في كل ما يرومه، ويجادل على ذلك. وخرج عليه ابن الأشعث ومعه أكثر الفقهاء والقراء من أهل البصرة، فحاربه حتى قتله، وتتبع من كان معه، فعرضهم على السيف، فمن أقر له أنه كفر بخروجه عليه أطلقه، ومن امتنع قتله صبرًا، حتى قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم. وسبب تولية عبد الملك له ما روى ابن عبد ربه، أن الحجاج وأباه كانا يعلِّمان الصبيان بالطائف، ثم لحق الحجاج برَوح بن زنباع الجُذاميّ، وزير عبد الملك بن مروان، فكان في عديد شرطته، الى أن رأى عبد الملك انحلال عسكره، وأنّ الناس لا يرحلون برحيله، ولا ينزلون بنزوله، فشكا ذلك الى روح بن زنباع، فقال له: ان في شُرطتي رجلًا لو قلده أمير المؤمنين أمرَ عسكره، لأرحل الناس برحيله، وأنزلهم بنزوله، يقال له الحجاج بن يوسف. قال: إنا قد قلّدناه ذلك، فكان لا يقدر أحد أن يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان روح بن زنباع، فوقف عليهم يومًا وقد أرحل الناس وهم على الطعام يأكلون، فقال لهم: ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير المؤمنين؟ فقالوا له: انزل يا بن
اللَّخناء فكُل معنا، فقال لهم: هيهات، ذهب ذلك، ثم أمر بهم فجُلدوا بالسياط، وطوّفهم في العسكر، وأمر بفساطيط روح فأحرقت بالنار، فدخل روح على عبد الملك باكيًا، وقال: يا أمير المؤمنين، إن الحَجّاج الذي كان في شُرطتي ضرب غلماني، وأحرق فساطيطي. قال: عليّ به، فلما دخل عليه قال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: أنا ما فعلت. قال: ومن فعل؟ قال: أنت فعلت، إنما يدي يدك، وسوطي سوطك، وما على أمير المؤمنين أن يخلف لروح عوض الفسطاط فسطاطين، وعوض الغلام غلامين، ولا يكسرني فيما قدمني له، فأخلف لروح ما ذهب له، وتقدم الحجاج في منزلته، وكان ذلك أول ما عرف من كفايته.
وكان للحجاج في القتل وسفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها. وقد أخرج الترمذي من طريق هشام بن حسان: أحصينا من قتله الحجاج صبرًا فبلغ مئة ألف وعشرين ألفًا، ويقال: إن سبب ولوعه بالدماء ما أخرجه المسعوديّ من أن أُم الحجاج الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفيّ، كانت تحت الحارث بن كَلَدة الثقفيّ الطائفيّ، حكيم العرب، فدخل عليها مرة في السَحَر، فوجدها تتخلل، فبعث إليها بطلاقها، فقالت: لِمَ بعثت إليّ بطلاقي؟ هل لشيءٍ رابك مني؟ قال: نعم، دخلت عليك في السحر وأنت تتخللين، فإن كنت بادرت الغداء، فأنتِ شرهة، وإن كنت بتِّ والطعام بين أسنانك فأنت قذرة. فقالت: كل ذلك لم يكن، لكني تخللت من شظايا السواك. فتزوجها بعده يوسف بن أبي عقيل الثَّقفيّ فولدت له الحجاج مشوهًا لا دُبر له، فنقب عن دبره، وأبى أن يقبل ثدي أمه وغيرها، فأعياهم أمره.
ويقال: إن الشيطان تصور لهم في صورة الحارث بن كلدة المقدم ذِكْره، فقال: ما خبركم؟ قالوا: ولد ولدٌ ليوسف من الفارعة، وقد أبى أن يقبل ثدي أمه، فقال: اذبحوا جديًا أسود، وأولغوه دمه، فإذا كان في اليوم الثاني، فافعلوا به كذلك، فإذا كان في اليوم الثالث، فاذبحوا له تيسًا أسود وأولغوه دمه، ثم اذبحوا له أسود سالخًا وأولغوه دمه، واطلوا به وجهه، فإنه يقبل الثدي في اليوم الرابع،
ففعلوا به ذلك، فكان لا يصبر عن سفك الدماء لما كان منه في أول الأمر.
وكان الحجاج يخبر عن نفسه أن أكبر لذّاته سفك الدماء، وارتكاب أمور لا يقدم عليها غيره. ويقال: إن زياد بن أبيه أراد أن يتشبه بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في ضبط الأمور والحزم والصرامة وإقامة السياسات، إلا أنه أسرف وتجاوز الحد. وأراد الحجاج أن يتشبه بزياد فأهلك ودمر. وخطب يومًا فقال في أثناء كلامه: أيها الناس، إن الصبر عن محارم الله، أهون من الصبر على عذاب الله، فقام إليه رجل فقال: ويحك يا حجاج ما أصفق وجهك وأقل حياءك، فأمر به فحبس، فلما نزل عن المنبر دعا به فقال له: لقد اجترأت عليّ، فقال له: أتجترىء على الله فلا ننكره، ونجترىء عليك فتنكره؟ فخلى سبيله.
قال شاذان: كان مفلسًا من دينه. وقال طاووس: عجبت لمن يسميه مؤمنًا. وكفّره جماعة منهم: سعيد بن جُبير ومجاهد والنخعي والشعبي وغيرهم. وقالت له أسماء بنت أبي بكر: أنت المُبير الذي أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال مالك بن دينار: سمعت الحجاج يخطب، فلم يزل بيانه وتخليصه بالحجج حتى ظننت أنه مظلوم. وروى ابن أبي الدنيا عن زيد بن أسلم بإسناد صحيح أن المِسْوَرَ بن مَخْرَمة أغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحبّ إليَّ من الدنيا وما فيها، عبد الرحمن بن عوف في الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا، وعبد الملك والحجاج يجران أمعاءهما في النار. ولم يكن للحجاج حينئذ ذكر، ولا كان عبد الملك ولي الخلافة بعدُ، لأن المسور مات في اليوم الذي جاء نعي يزيد بن معاوية من الشام، وذلك في ربيع الأول سنة أربع وستين من الهجرة.
وقال القاسم بن مخيمرة: كان الحجاج ينقض عرى الإِسلام عروة عروة. قال النسائيّ عن أبيه: ليس بثقة ولا مأمون. وقال الحاكم: أبو أحمد ليس بأهل أن يُروى عنه، ومما يحكى عنه من الموبقات قوله لأهل السجن: اخسؤوا فيها
ولا تكلمون. ولم يقصد الشيخان الرواية عن الحجاج، كما لم يقصد البخاريّ الرواية عن الحسن بن عمارة، فإما أن يتركا، واما أن يذكرا، وإلا فما الفرق بينهما؟ وفي الصحيح عن سلام بن مسكين، قال: بلغني أن الحجاج قال لأنس: حدثني عن أشد عقوبة عاقب بها النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثه بحديث العرنيين. وقال أبو عمرو بن العلاء: لما مات الحجاج قال الحسن: اللهم أنت أمتَّه، فأَمِتْ سُنَّتَه، أتانا أُخَيفش أُعيمش قصير البنان، والله ما عرق له عذار في سبيل الله قط، فمدّ كفًّا كبره، وقال: بايعوني وإلا ضربت أعناقكم.
ورُوي عن أشعث الحَدّانيّ، وكان يقرأ للحجاج في رمضان، قال: رأيته في منامي بحالة سيئة، فقلت: يا أبا محمد، ما صنعت؟ قال: ما قتلت أحدًا بقتلة، إلا قتلت بها. قلت: ثم مه؟ قال: ثم أمر به إلى النار. قلت: ثم مه؟ قال: أرجو ما يرجو أهل لا إله إلا الله، فبلغ ذلك ابن سيرين، فقال: إني لأرجو له، فبلغ قول ابن سيرين الحسن، فقال: أما والله ليخلفن الله رجاءَه فيه. وقد روى الحديث عن سَمُرة بن جندب وأنس وعبد الملك بن مروان وأبي بُردة. وروى عنه سعيد بن أبي عروبة ومالك بن دينار وحُميد الطويل وثابت البنانيّ والأعمش وأيوب السختيانيّ وغيرهم. وحكى أبو أحمد العسكريّ أن الناس غبروا يقرأون في مصحف عثمان بن عفان، رضي الله عنه، نيفًا وأربعين سنة، إلى أيام عبد الملك بن مروان، ثم كثر التصحيف، وانتشر بالعراق، ففزع الحجّاج بن يوسف إلى كتّابه، وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات، فيقال: إن نصر بن عاصم قام بذلك، فوضع النقط أفرادًا وأزواجًا، وخالف بين أماكنها، فغَبَر الناس بذلك زمانًا لا يكتبون إلا منقوطًا، فكان مع استعمال النقط أيضًا يقع التصحيف، فأحدثوا الإعجام، فكانوا يتبعون النقط، فإذا أغفل الاستقصاء عن الكلمة فلم توف حقوقها، اعترى التصحيف، فالتمسوا حيلة، فلم يقدروا فيها إلا على الأخذ من أفواه الرجال بالتلقين، وكان ينشد في مرضه هذين البيتين:
يارب قد حلف الأعداء واجتهدوا
…
أيمانهم أنني من ساكني النارِ
أيحلفون على عمياء ويحهم
…
ما ظنهم بعظيم العفو غَفَّارِ