الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني عشر
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ حَدَّثَنَي شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِى وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
قوله: "عن محمد بن المنكدر"، قال الترمذي: تفرد به شُعيب عن مُحمد بن المُنكدر، فهو غريب مع صحته، وقد توبع ابن المُنكدر عليه عن جابر، أخرجه الطَّبرانيّ في "الأوسط"، عن أبي الزبير، عن جابر نحوه، وفي زوائد الإسماعيليّ:"أخبرني ابن المُنكدر، وقوله: "من قال حين يسمع النداء"، أي: الأذان، واللام للعهد، ويحتمل أن يكون التقدير: من قال حين يسمع نداء المؤذن، وظاهره أنه يقول الذكر المذكور حال سماع الأذان، ولا يتقيد بفراغه، لكن يحتمل أن يكون المراد من النداء تمامه، إذ المطلق يحمل على الكامل، ويؤيده حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم بلفظ: "قولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، ثم سلوا الله لي الوسيلة"، ففي هذا أن ذلك يقال عند فراغ الأذان، واستدل به ابن بزيزة على عدم وجوب ذلك الظاهر إيراده، لكن لفظ الأمر في رواية مسلم المتقدمة، قد يتمسك به من يدعي الوجوب، وبه قال الحنفية وابن وهب من المالكية، وخالف الطَّحاويّ أصحابه، فوافق الجمهور.
وقوله: "ربّ هذه الدعوة"، أي: بفتح الدال، زاد البيهقيّ: اللهمَّ إنِّي أسألك بحق هذه الدعوة التامة، والمراد بها دعوة التوحيد، كقوله تعالى:{دَعْوَةُ الْحَقِّ} ، وقيل لدعوة التوحيد تامة لأن الشركة نقص، أو التامة التي لا يدخلها
تغيير ولا تبديل، بل هي باقية إلى يوم القيامة، وقيل: لأنها هي التي تستحق صفة التمام، وما سواها فمعرّض للفساد. وقيل: وصفت بالتامة لأن فيها أتم القول، وهو لا إله إلا الله. وقال الطيبيّ: من أوله إلى قوله محمد رسول الله، هي الدعوة التامة، والصلاة القائمة في قوله تعالى:{وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} ، هي الحيعلة، ويحتمل أن يراد بالصلاة الدعاء، وبالقائمة الدائمة، مِن أقام على الشيء إذا داوم عليه، وعلى هذا فالصلاة القائمة بيان للدعوة التامة. ويحتمل أن يكون المراد بالصلاة المعهودة المدعو إليها حينئذ، وهذا أظهر.
وقوله: "والوسيلة هي ما يُتقرب به إلى الكبير"، يقال: توسلت، أي: تقربت. وتطلق على المنزلة العلية. ووقع ذلك في حديث عبد الله بن عمرو وعند مسلم بلفظ: "فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون هو
…
"، إلخ، ونحوه عند البزار عن أبي هريرة، ويمكن ردها إلى الأول، بأن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله، فتكون كالقربة التي يتوسل بها.
وقوله: "والفضيلة"، أي: المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى، أو تفسيرًا للوسيلة. وقوله:"مقامًا محمودًا"، أي: يحمد القائم فيه، وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، واختلف في فاعل الحمد من قوله:"مقامًا محمودًا"، فالأكثر على أن المراد به أهل الموقف، وقيل: النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أي أنه هو يحمد عاقبة ذلك المقام، لتهجده في الليل، والأول أرجح لما ثبت في حديث عبد الله بن عمر الآتي في الزكاة بلفظ:"مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم"، ويجوز أن يحمل على ما هو أعم من ذلك، أي: مقامًا يحمده القائم فيه، وكل من عرفه، واستحسن هذا أبو حَيّان وأيّده بأنه نكرة، فدل على أنه ليس المراد مقامًا مخصوصًا، ونصب مقامًا على الظرفية، أي: ابعثه يوم القيامة، فأقمه مقامًا محمودًا، أو ضَمّن ابعثه، معنى أقمه، أو على أنه مفعول به، ومعنى ابعثه أعطه، ويجوز أن يكون حالًا، أي: ابعثه ذا مقام محمود.
قال النّوويّ: ثبتت الرواية بالتنكير، وكأنه حكاه للفظ القرآن، وقال الطَّيبيّ: إنما نكره لأنه أفخم وأجزل، كأنه قيل: مقامًا، أي: مقام محمود بكل لسان، وقد ورد معرفًا عند النسائي وصحيح ابن خزيمة وابن حِبّان وفي الطَّحاويّ والطبرانيّ في "الدعاء" والبيهقيّ.
وقوله: "الذي وعدته"، زاد البيهقي:"إنك لا تخلف الميعاد"، وقال الطِّيبيّ: المراد بذلك قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وأطلق عليه الوعد لأن عسى من الله واقع، لما صح عن ابن عُيينة وغيره، والموصول إما بدل أو عطف بيان أو خبر مبتدأ محذوف، وليس صفة للنكرة. وفي رواية تعريف المقام المحمود الماضية يصح وصفه بالموصول، قال ابن الجَوْزيّ: الأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، وقيل: إجلاسه على العرش، فقد روى الطَّبريّ عن ابن نجِيح، عن مُجاهد: المقام المحمود: الشفاعة
وروي عن ليث، عن مجاهد في قوله تعالى:{مَقَامًا مَحْمُودًا} يجلسه معه على عرشه، ثم أسنده وقال: الأول أَوْلي، على أن الثاني ليس بمدفوع، لا من جهة النقل ولا من جهة النظر. وقال ابن عَطِيّة: هو كذلك إذا حمل على ما يليق به، وبالغ الواحِديّ في رد هذا القول، وقال أبو داود، صاحب السنن: من أنكره فهو متهم، وقيل: هو إجلاسه على الكرسيّ، فقد أخرج الطَّبريّ، عن ابن مسعود عند الثَّعلبيّ، وعن ابن عباس عند أبي الشيخ، وعن عبد الله بن سَلام:"أنَّ محمدًا يوم القيامة على كُرسيّ الرب بين يدي الربّ"، ويحمل هذا وما جاء عن مجاهد، على أن الإضافة فيه إضافة تشريف، وحديث ابن مسعود، وأخرجه أحمد والنَّسائيّ والحاكم، وعلى تقدير صحة الإجلاس لا ينافي الأول، لاحتمال أن يكون الإجلاس هي المنزلة المعبر عنها بالوسيلة أو الفضيلة.
وفي صحيح ابن حبان عن كعب بن مالك مرفوعًا: "يَبعث الله الناسَ فيكسونيّ حُلّة خضراء، فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود"، ويظهر أن المراد بالقول المذكور هو الثناء الذي يقدمه بين يدي الشفاعة، ويظهر
أن المقام المحمود هو مجموع ما يحصل له في تلك الحالة، ويشعر قوله في آخر الحديث:"حلت له شفاعتي" بأن الأمر المطلوب له الشفاعة، وقيل: المقام المحمود هو إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة. قاله الماوردي. قال القرطبيّ: هذا لا يغاير القول الأول. وقيل: المقام هو ما أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سَعِيد بن أبي هِلال، أحد صغار التابعين، أنه بلغه أن المقام المحمود أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكون يوم القيامة بين الجبار وجبريل، فيغبطه بمقامه ذلك أهل الجمع، ويمكن رد الأقوال كلها إلى الشفاعة العامة، فإن إعطاءه لواء الحمد، وثناءه على ربه، وكلامه بين يديه، وجلوسه على كرسيه، وقيامه أقرب من جبريل، كل ذلك صفات للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضي بين الخلق. وأما شفاعة إخراج المذنبين من النار، فمن توابع ذلك.
وقوله: "حلّت له شفاعتي"، أي: استحقت ووجبت أو نزلت عليه، يقال: حلّ يحُل بالضم، إذا نزل، واللام بمعنى على، ويؤيده رواية مسلم:"حلت عليه". وعند الطحاويّ، عن ابن مسعود:"وجبت له"، ولا يجوز أن تكون حلّت من الحِل؛ لأنها لم تكن قبل ذلك محرمة، واستشكل بعضهم جعل الشفاعة ثوابًا لقائل ذلك مع ما ثبت من أن الشفاعة للمذنبين، وأجيب بأن له عليه الصلاة والسلام شفاعات أخرى، كإدخال الجنة بغير حساب، وكرفع الدرجات إلى ما أذكره قريبًا إن شاء الله تعالى، فيعطى كل أحد ما يناسبه.
ونقل عِياض عن بعض شيوخه أنه كان يرى اختصاص ذلك بمن قاله مخلصًا مستحضرًا إجلال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، لا من قصد بذلك مجرد الثواب، ونحو ذلك، وهو تحكم غير مرضي، ولو كان أخرج الغافل اللاهي لكان أشبه، وقد عبد العلماء له نحو إحدى عشرة شفاعة.
الأولى: وهي خاصة به عليه الصلاة والسلام في الإراحة من هول الموقف، وقد وردت في حديث الشفاعة الكبرى.
والثانية: شفاعته في إدخال قوم الجنة بغير حساب، ويأتي حديثها في الرِّقَاق.
والثالثة: في إدخال قوم حوسبوا فاستحقوا العذاب، أن لا يعذبوا.
والرابعة: في إخراج من أدخل النار من العصاة، ويأتي دليلهما في الرقاق أيضًا.
والخامسة: في رفع الدرجات. وأشار النّوويّ إلى أن هذه من خصائصه، ولم يذكر لذلك مستندًا.
والسادسة: التخفيف عن أبي طالب كما يأتي في الرِّقاق وغيرها، وهذه من خصائصه قطعًا.
والسابعة: شفاعته لأهل المدينة، لحديث سعد، رفعه:"لا يثبت على لأوائها أحد إلا كنت له شهيدًا أو شفيعًا"، أخرجه مسلم، ولحديث أبي هُريرة، أخرجه التِّرمذي مرفوعًا:"من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل، فإني أشفع لمن مات بها"، قيل: إن هذه غير واردة لأن متعلقها لا يخرج عن واحدة من الخمس الأُوَل، ولو عد مثل هذا لعد حديث عبد الملك بن عباد:"سمعت النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: أول من أشفع له أهل المدينة، ثم أهل مكة، ثم أهل الطائف"، أخرجه البزَّار والطَّبرانيّ عن ابن عمر، رفعه:"أول من أشفع له أهل بيتي، ثم الأقرب، فالأقرب، ثم سائر العرب، ثم الأعاجم"، قاله في "الفتح". قلت: ما قاله من الحديثين غير وارد على اختصاص أهل المدينة بشفاعة خاصة؛ لأن الحديثين ليس فيهما اختصاص بشفاعة، كما ورد في المدينة، وإنما فيهما ترتيب الشفاعة.
وذكر القزوينيّ ثامنة وهي شفاعته لجماعة من الصلحاء في التجاوز عن تقصيرهم، ولم يذكر لها مستندًا، ويمكن اندراجها في الخامسة.
والتاسعة: شفاعته لأهل الكبائر من أمته، وهذه مندرجة في الثالثة أو الرابعة.