الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس والثلاثون
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلاً إِلَى اللَّيْلِ، فَعَمِلُوا إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ، فَاسْتَأْجَرَ آخَرِينَ. فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ، وَلَكُمُ الَّذِى شَرَطْتُ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، قَالُوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا. فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا، فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ".
قوله: "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل"، في السياق، حذف تقديره: مثل المسلمين مع نبيِّهم، ومثل اليهود والنصارى مع أنبيائهم، كمثل رجل استأجر. فالمثل مضروب للأمة مع نبيهم، والممثل به الأُجراء مع من استأجرهم. وقوله:"استأجر قومًا يعملون له عملًا إلى الليل"، هذا مغاير لحديث ابن عمر، لأن فيه أنه استأجرهم على أن يعملوا إلى نصف النهار. والظاهر أنهما حديثان سيقا في قضيتين، وقد حاول بعضهم الجمع بينهما فتعسف.
وقال ابن رشد ما حاصله: إن حديث ابن عمر ذكر مثالًا لأهل الأعذار، لقوله "فعجزوا" فأشار إلى أن من عجز عن استيفاء العمل من غير أن يكون له صنيع في ذلك أن الأجر يحصل له تامًا بفضل الله تعالى. قال: وذكر حديث أبي موسى مثالًا لمن أخَّر بغير عذر، وإلى ذلك الإشارة بقولهم:"لا حاجة لنا إلى أجرك"، فأشار إلى أن مَن أخَّر عامدًا لا يحصل له ما حصل لأهل الأعذار، ولكن وقع في رواية سالم عند المصنف في التوحيد ما يوافق رواية أبي موسى. ورجحها الخطابيّ فيحتمل أن تكون القضيتان جميعًا كانتا عند ابن عمر،
فحدث بهما في وقتين، وجمع بينهما ابن التين باحتمال أن يكونوا غضبوا أولًا، فقالوا ما قالوا، طلبًا للزيادة، فلما لم يُعطوا قدرًا زائدًا تركوا، فقالوا: لك ما عملنا باطل، وفيه مع بُعده مخالفة لصريح ما وقع في رواية الزُّهريّ هنا وفي التوحيد، ففيها قالوا: ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن كنا أكثر عملًا، ففيه التصريح بأنهم أُعطوا ذلك إلا أن يُحمَلَ قولهم:"أعطيتنا": أمرت لنا، أو وعدتنا، ولا يلزم من ذلك أنهم أخذوه، ولا يخفى أن الجمع بكونهما قضيتين أوضح.
وظاهر المثل الذي في حديث أبي موسى أن الله تعالى قال لليهود: آمنوا بي وبرسلي إلى يوم القيامة، فآمنوا بموسى إلى أن بعث عيسى، فكفروا به. وذلك قدر نصف المدة التي من بعث موسى إلى قيام الساعة. فقولهم: لا حاجة لنا إلى أجرك إشارة إلى أنهم كفروا وتولوا، واستغنى الله عنهم. وهذا من إطلاق القول وإرادة لازمه، لأن لازمه تَرْك العمل المعبر به عن ترك الإيمان.
وقولهم: "وما عملنا باطل"، في الرواية الآتية في الإجارة إشارة إلى احباط عملهم بكفرهم بعيسى، إذ لا ينفعهم الإيمان بموسى وحده بعد بعثة عيسى، وكذلك القول في النصارى، إلا أن فيه إشارة إلى أن مدتهم كانت قدر نصف المدة، فاقتصروا على نحو الربع من جميع النهار. وقوله:"ولكم الذي شرطت"، زاد في رواية الإسماعيليّ:"ولكم الذي شرطت لهؤلاء من الأَجر"، يعني الذين قبلهم، وفي رواية الإجارة زيادة:"فإن ما بقي من النهار شيء يسير"، أي: بالنسبة لما مضى منه، والمراد ما بقي من الدنيا، وفيه إشارة الى قصر المدة التي بقيت من الدنيا، وسيأتي بعض الكلام على ذلك قريبًا إن شاء الله تعالى.
وقوله: "واستكملوا أجر الفريقين، أي: بإيمانهم بالأنبياء الثلاثة، وفي رواية الإجارة زيادة: "فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من النور"، وفي رواية الإسماعيليّ: "فذلك مثل المسلمين قَبِلوا هُدى الله تعالى وما جاء به رسوله، ومثل اليهود والنصارى تركوا ما أمرهم الله به"، قال المهلب: أورد البخاريّ
حديث ابن عمر وحديث أبي موسى في هذه الترجمة، ليدل على أنه قد يستحق بعمل البعض أجر الكل، مثل الذي أعطى من العصر الى الليل أجر النهار كله، فهو نظير من يعطى أجر الصلاة كلها، ولو لم يدرك إلا ركعة، وبهذا تظهر مطابقة الحديثين للترجمة، وتكملة ما ذكر هي أن يقال: إن فضل الله الذي أقام به عمل ربع النهار مقام عمل النهار كله، هو الذي اقتضى أن يقوم إدراك الركعة الواحدة من الصلاة الرباعية، التي هي العصر، مقام إدراك الأربع في الوقت، فاشتركا فى كون كل منهما ربع العمل، وحصل بهذا التقرير جواب من استشكل وقوع الجميع أداءً، مع أن الأكثر إنما وقع خارج الوقت، فيقال: في هذا ما أجيب به أهل الكتاب: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} ، وكلام المهلب واضح لا استبعاد فيه.
وقال ابن المنير: يستنبط من هذا الحديث أن وقت العمل ممتد الى غروب الشمس، وأقرب الأعمال المشهورة بهذا الوقت صلاة العصر، فهو من قبيل الإشارة لا من صريح العبارة، فإن الحديث مثال، وليس المراد العمل الخاص بهذا الوقت، بل هو شامل لسائر الأعمال من الطاعات في بقية الإمهال إلى قيام الساعة.
وقال إمام الحرمين: إن الأحكام لا تؤخذ من الأحاديث التي تأتي لضرب الأمثال، واستُدل بالحديث على أن بقاء هذه الأئمة يزيد على الألف، لأنه يقتضي أن مدة اليهود نظير مدتي النصارى والمسلمين، وقد اتفق أهل النقل على أن مدة اليهود الى بعثة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كانت أكثر من ألفي سنة، ومدة النصارى من ذلك ست مئة، وقيل أقل من ذلك، فتكون مدة المسلمين أكثر من ألف قطعًا، وقد أخرج الطبري في "تاريخه"، عن ابن عباس:"الدنيا جمعة من جُمَعِ الآخرة، سبعة آلاف سنة"، وقد مضى ستة آلاف سنة، ومئة سنة، وأورد الطبريّ أيضًا عن كعب الأحبار:"الدنيا ستة آلاف سنة"، وعن وهب بن منبّه مثله، وزاد أن الذي مضى منها خمسة آلاف وست مئة سنة، وزيفهما وحق لهما ذلك، ورجح ما جاء عن ابن عباس، وقد تبين عدم صحة ما نسب اليه بالمشاهدة.