الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث والثلاثون
حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَلَا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا.
قوله: وعن الزُّهْرِيّ، أي بالإسناد الذي قبله، وهو آدَمُ عن ابن أبي ذئب عنه، أي أن ابن أبي ذِئب حدث به عن الزُّهْرِيّ عن شيخين حدثاه به عن أبي هُرَيرة، وقد جمعهما المصنف في باب المشي إلى الجمعة عن آدم، فقال فيه: عن سَعيد وأبي سلمة، كلاهما عن أبي هُريرة. وأخرجه التّرمِذيّ عن الزُّهريّ عن أبي سَلَمة وحده، وأخرجه أيضًا عن الزُّهْريّ عن سَعيد وحده، والحق كما قال الدّارقُطنِيّ أنه عنده عنهما جميعًا. قال: وربما اقتصر على أحدهما.
وقوله: إذا سمعتم الإقامة، وفي الرواية السابقة "إذا أتيتم الصلاة" وهذه أخص من السابقة، لكن الظاهر أنه من مفهوم الموافقة؛ لأن المسرع إذا أقيمت الصلاة يترجى إدراك فضيلة التكبيرة الأولى ونحو ذلك، فقد نهى عن الإسراع، فغيره ممن جاء قبل الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع؛ لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها، فينهى عن الإسراع من باب أولى. وقد لحظ بعضهم فيه معنى غير هذا، فقال: الحكمة في التقييد بالإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها وقد انبهر، فيقرأ وهو في تلك الحالة، فلا يحصل له تمام الخشوع في الترتيل وغيره، بخلاف من جاء قبل ذلك، فإن الصلاة قد لا تقام حتى يستريح. وقضية هذا أنه لا يكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة، وهو مخالف لصريح قوله "إذا أتيتم
الصلاة" لأنه يتناول ما قبل الإقامة، وإنما قيد في الحديث الثاني بالإقامة؛ لأن ذلك هو الحامل في الغالب على الإسراع.
وقوله: وعليكم بالسكينة، كذا في رواية أبي ذَرٍّ، ولغيره "وعليكُمُ السَكِينَة" بغير باء، وكذا في رواية مُسْلم. وأعربها القُرْطُبيّ بالنصب على الإغراء، والنَّوَويّ بالرفع على أنها جملة موضع الحال، واستشكل بعضهم دخول الباء. قال لأنه متعد بنفسه، كقوله تعالى:{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] وفيه نظر، لثبوت زيادة الباء في الأحاديث "الصحيحة" كحديث "عليكم برخصة الله" وحديث "فعليه بالصوم فإن له وجاء" وحديث "فعليكَ بالمرأة" قاله لأبي طلحة في قصة صفية، وحديث "عليك بعيبتك" قالته عائشة لعمر، وحديث "عليكم بقيام الليل وحديث "عليك بخويصة نفسك" وغير ذلك. ثم إن الذي علل به هذا المعترض غير موف بمقصوده إذ لا يلزم من كونه يَتَعَدّى بنفسه امتناع تعديه بالباء، وإذا ثبت ذلك دل على أن فيه لغتين.
والحكمة في هذا الأمر تستفاد من زيادة وقعت في مُسْلم عن أبي هُرَيرة، فذكر نحو حديث الباب وقال في آخره "فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة" أي أنه في حكم صلاة فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده، واجتناب ما ينبغي للمصلي اجتنابه. وقوله: والوَقار، بفتح الواو، قال عِياض. والقُرْطُبيّ هو بمعنى السكينة، وذكر على سبيل التأكيد. وقال النَّوَوِيّ: الظاهر أن بينهما فرقًا. وأن السكينة الثاني في الحركات واجتناب العبث، والوقار في الهيئة كغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات، ونظم بعض أشياخنا هذا المعنى فقال:
وخفضُ صوتِ ثم غَضُّ البَصَرِ
…
هو الوقار عندهم في الأشهرِ
أما السكينة فبالتأني
…
وعدم الفعل لما لا يعني
وقوله: لا تسرعوا، فيه زيادة التأكيد، ويستفاد منه الرد على من أوّل قوله في حديث أبي قتادة السابق "لا تفعلوا" أي الاستعجال المفضي إلى عدم الوقار، وأما الإسراع الذي لا ينافي الوقار، كمن خاف فوت التكبيرة، فلا، وهو
محكي عن إسحاق بن راهَوَيه. قلت: وهو مذهب مالك، فإن الإسراع عنده جائز إذا لم تكن فيه هَرْوَلَة؛ لأن الهرولة تذهب السكينة والخشوع، وقد مرت رواية مسلم "فهو في صلاة". قال النّوَويّ: نبه على أنه لو لم يدرك من الصلاة شيئًا لكان محصلًا لمقصوده لكونه في صلاة، وعدم الإسراع أيضًا يستلزم كثرة الخطأ وهو معنى مقصود لذاته، ووردت فيه أحاديث، كحديث جابر عند مُسْلم "أن بكل خطوة درجة" وحديث أبي داود عن رجل من الأنصار مرفوعًا "إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لم يرفع قدمه اليُمنى إلا كتب الله له حسنة، ولم يضع قدمه اليُسرى إلا حط عنه سيئة، فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتى وقد صلوا بعضاً وبقي بعض فصلى ما أدرك، وأتم ما بقي كان كذلك، وإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك". وقلت: ما ذهبت إليه المالكية من التفصيل محصل لإدراك الصلاة والتزام الوقار.
وقوله: فما أدركتم فصلوا، الفاء جواب شرط محذوف، أي إذا بينت لكم ما هو أولى بكم فما أدركتم فصلوا، أو التقدير: إذا فعلتم الذي أمرتكم به من السكينة وترك الإسراع فما أدركتم فصلوا، أو استدل بهذا الحديث على حصول فضيلة الجماعة بإدراك جزء من الصلاة، لقوله:"فما أدركتم فَصَلّوا" ولم يفصل بين القليل والكثير. قال "في الفتح": وهذا قول الجمهور. وقيل: لا تدرك الجماعة بأقل من ركعة، للحديث السابق من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك" وهذا هو مذهب مالك، وقد مرَّ الكلام عليه في باب "من أدرك ركعة من العصر" وفي غيره، واستدل به أيضًا على استحباب الدخول مع الإِمام في أي حالة وجده عليها، وفيه حديث أصرح منه، أخرجه ابن أبي شَيْبَة عن رجل من الأنصار مرفوعًا "من وَجَدني راكعًا أو قائمًا أو ساجدًا فليكن على حالتي التي أنا عليها".
وقوله: فأتموا، هذا هو الصحيح في رواية الزُّهريّ، ورواه عنه ابن عُيَينة بلفظ "فاقضوا" وكذا رواه أحمد عن أبي هُريْرَة بلفظ "فاقضوا" وعند مسلم بلفظ "فأتموا" وحديث أبي قَتَادَةَ رواية الجمهور فيه "فأتموا" وعند ابن أبي شَيْبَة بلفظ
"فاقضوا" وعند مُسْلم من رواية ابن سِيْرين بلفظ "صل ما أدركت واقض ما سبقك" والحاصل أن أكثر الروايات بلفظ "فأتموا" وأقلها بلفظ "فاقضوا" وإنما تظهر فائدة ذلك إذا جعلنا بين الإتمام والقضاء مغايرة، لكن إذا كان مخرج الحديث واحدًا واختلف في لفظة منه، وأمكن رد الخلاف إلى معنى واحد، كان أولى.
قلت: ومن هنا اختلف العلماء في هذا الحديث على ثلاثة مذاهب: فقالت المالكية: إنه يقضي الأقوال، يعنون القراءة خاصة، ويبني في الأفعال، فحملوا رواية "فاقضوا" على الأقوال، ورواية "فأتموا" على الأفعال جمعًا بين الروايتين، فما أدركه مع الإِمام هو أول صلاته بالنسبة إلى الأفعال، فيبني عليها، وآخرها بالنسبة إلى الأقوال، فيقضيها. واستدلوا أيضًا بما رواه البيهقيّ عن قتادة أن عليَّ بن أبي طالب قال: ما أدركت مع الإِمام فهو أول صلاتك، واقض ما سبقك به الإِمام من القراءة.
وأخذت الشافعية برواية "فأتموا" وجعلوا ما أدرك مع الإِمام أول صلاته؛ لأن الإتمام لا يكون إلا للآخر؛ لأنه يستدعي سبق أول. وقد روى البَيْهَقِيّ عن عَلِيّ رضي الله تعالى عنه "ما أدركت فهو أول صلاتك" وبقول الشافعية قال إسحاق والأوَزْاعيّ وابن المُسَيِّبَ والحَسَن وعَطَاء ومَكْحُول، ورواية عن مالك وأحْمَد، وحملوا رواية "فاقضوا" على معنى الأداء أو الفراغ؛ لأن القضاء، وإن كان يطلق على الفائدة غالبًا، فإنه يطلق على الأداء وعلى الفراغ، كقوله {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] وإذا حمل قوله هنا "فاقضوا" على معنى الأداء أو الفراغ، لم يغاير قوله "فأتموا" فلا حجة فيه لمن تمسك برواية "فاقضوا" على أن ما أدركه المأموم هو آخر صلاته، حتى استحب له الجهر في الركعتين الأخيرتين، وقراءة السورة وترك القنوت، بل هو أولها وإن كان آخر صلاة إمامه، لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدمه، وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخرًا لما احتاج إلى إعادة التشهد، وأجاب ابن بطال عنه بأنه ما تشهد إلا لأجل السَلام،
لأن السلام يحتاج إلى سبق تشهد، واستدل ابن المنذر لذلك أيضًا على أنهم أجمعوا على أن تكبيرة الافتتاح لا تكون إلا في الركعة الأولى.
وأخذت الحَنَفية برواية "فاقضوا" وقالوا إن ما أدركه هو آخر صلاته، وأن يكون قاضيًا في الأقوال والأفعال، وهو قول سُفيان ومُجَاهِد وابن سِيْرين. قال ابن الجَوْزِيّ: الأشبه بمذهبنا ومذهب أبي حَنِيفَة أنه آخر صلاته، ورواه ابن القاسم عن مالك، وهو قول أشْهَبُ وابن الماجِشُون، واختاره ابن حَبيب، وأجاب القائلون بهذا عن رواية "فأتموا" بأن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإِمام، فحمل قوله فأتموا على أن من قضى ما فاته فقد أتم؛ لأن الصلاة تنقضي بما فات، فقضاؤه إتمام لما نقص، وتظهر ثمرة الخلاف فيمن أدرك أخيرة المغرب، فعلى ما ذهب إليه مالك يأتي بركعة بأم القرآن وسورة جهرًا لأنه قاضي القول، ويجلس؛ لأنه بان في الفعل، ثم بركعة بأم القرآن وسورة أيضًا جهرًا؛ لأنه قاضي القول، ويتشهد ويسلم. وعلى ما ذهب إليه الشافعيّ يأتي بركعة بأم القرآن وسورة جهراً ويجلس، ثم يأتي بركعة بأم القرآن فقط، هذا هو القياس. وهو قول المُزَنِي منهم، والمشهور في مذهبهم أنه يقضي مثل الذي فاته من قراءة السورة مع أم القرآن في الرباعية والثلاثية، إلا أنه لا تستحب له إعادة الجهر في الركعتين الباقيتين، وكأنَّ الحجة عندهم في ذلك قوله "ما أدركت مع الإِمام فهو أول صلاتك، واقض ما سبقك به من القراءة" وقد مرَّ أن البَيْهَقِيّ أخرجه.
وعلى ما ذهب إليه أبو حَنِيفَة يأتي بركعتين بأم القرآن وسورة جهرًا، ولا يجلس بينهما؛ لأنه قاضٍ فيهما قولًا وفعلًا واستدل به على أن من أدرك الإِمام راكعًا لم تحسب له تلك الركعة، للأمر بإتمام ما فاته؛ لأنه فاته الوقوف والقراءة فيه، وهو قول أبي هُرَيرة وجماعة، بل حكاه البُخَاريّ في القراءة خلف الإِمام عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإِمام، واختاره ابن خُزَيْمَةَ والضُّبَعيّ وغيرهما من محدِّثي الشافعية، وقواه الشيخ تقيّ الدين السُّبْكيّ من المتأخرين.
والجمهور على أنه تحسب له تلك الركعة بإدراك الركوع، وحجتهم حديث أبي بَكْرَة حيث ركع دون الصف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "زادك الله حرصًا" ولم يأمره