الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وربما سرى هذا التساهل في توثيق الأحاديث النبوية إلى بعض كتابنا من كتابات المستشرقين، فإنهم كثيرا ما يستشهدون بأحاديث من كتاب أدبي؛ كالأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، لا سيما عندما يوجهون الطعن والنقد إلى علماء الحديث أو علماء المسلمين عامة (1).
(1) انظر منهج النقد في علوم الحديث للدكتور نور الدين عتر ص 481.
أسباب عدم توثيق العلماء القدامى للأحاديث:
وقد يحتج بعض الباحثين بأن العلماء الأوائل في القرون الستة الأولى لم يوثقوا الأحاديث التي يستشهدون بها، لا في كتب الفقه، ولا في التفسير، ولا في غيرها، فلم نلزم نحن ذلك؟ ولماذا يعاب علينا هذا الأمر ولا يعابون؟! مع أننا أقل منهم شأنا وعلما، وما المانع في أن نسير سيرهم، ونحذو حذوهم؟.
وأجيب عن الشطر الأول من السؤال بأنه لم يكن هناك حاجة ماسة إلى التوثيق، كما هي الآن؛ لأن اطلاع السابقين على مصادر السنة كان اطلاعا واسعا، وصلتهم بمصادر الحديث الشريف كانت وثيقة، فعندما يستشهدون بحديث ما، سرعان ما يذكرون موضعه في كتب السنة، بل وفي جزء من أجزاء تلك الكتب، أو يعرفون على الأقل مظانه في المصنفات الحديثية، وهم على علم ودراية بترتيب تلك المصنفات وطريقة تأليفها، لذلك يسهل عليهم الاستفادة منها، والوصول إلى موضوع الحديث بيسر وسهولة (1).
وهناك سبب آخر في إغفال المتقدمين تخريج الحديث وتوثيقه ذكره الحافظ المناوي (2). نقلا عن الحافظ العراقي، وهو:" أن لا يغفل الناس النظر في كل علم في مظنته ".
(1) أصول التخريج ودراسة الأسانيد ص 13 بتصرف.
(2)
فيض القدير للمناوي 1/ 21، وأصول التخريج ودراسة الأسانيد ص 13 بتصرف.
وهذه الأسباب التي دعت المتقدمين إلى ذلك لم تعد موجودة اليوم، فإن كثيرا من الدارسين لعلوم الشريعة، بل ولعلم الحديث خاصة، يصعب عليهم معرفة موضع حديث قرءوه، وفي أي كتاب أو أي باب يوجد، فكيف بغيرهم؟.
وإن كان من الأسباب السابقة حث الطلبة على الرجوع إلى المصادر الأصلية، وعدم هجرها وإغفالها من طلبة التخصصات الأخرى، فإن في الإحالة إليها اليوم حثا للطلبة والقراء على الرجوع إليها، وترك هذه الإحالة سيؤدي قطعا إلى هجر تلك الكتب، لفتور الهمم، ولجهل الكثير بطريقة تبويب تلك المصنفات، مما يزهدهم في الجوع إليها.
والجواب عن الشطر الثاني: أننا لم نعب على السابقين من الفقهاء - مثلا - عدم إحالتهم إلى معجم لغوي حينما يعرفون كلمة في اللغة، بينما لا نكتفي الآن من فقيه معاصر أن يفعل ذلك دون أن يسندها إلى كتاب في اللغة. وذلك لتوفر المصادر - الآن - وكثرتها وانتشارها، وسهولة الحصول عليها، بالاقتناء أو الاستعارة، أو بطرق الاتصالات الحديثة كالفاكس وغيره، فهذه الإمكانات لم تكن موجودة سابقا. كذلك نعيب الآن أن يحيل كاتب علمي حديثا على غير كتب السنة، بينما قبل هذا الفعل من عالم متقدم.
أضيف إلى ذلك أن طرق كتابة البحوث العلمية وتوثيقها أصبحت تدرس الآن في الجامعات والمعاهد، كما أجمع أرباب العلوم على ضرورة التزامها في البحوث العلمية، بينما لم يكن ذلك في السابق.
أهمية بيان مرتبة الحديث:
هناك أمر ينبعي أن يتنبه له طلبة العلم، وهو أن كتب الأدب والتاريخ
والمناقب مرتع خصب للأحاديث الضعيفة والواهية، بل والموضوعة، والتي لا أصل لها. فيخشى على من ينقل الأحاديث منها أن يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم:«من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (1)» .
كما أن الأحاديث الواردة في كتب الفقه، والتفسير، والعقائد، والسيرة، والشمائل، ليست كلها على درجة واحدة من القبول، ففيها أيضا الضعيف، والواهي، بل الموضوع، إلى جانب الأحاديث الصحيحة والحسنة - لا سيما في كتب التفسير والشمائل - لذا ينبغي عدم الركون إليها، وعدم الاكتفاء بورود الحديث فيها.
ولا أعني بذلك أن كتب السنة خالية من تلك الأنواع، فهي موجودة في كتب المسانيد، والمصنفات، والمعاجم، وكتب الزهد والرقائق، والفضائل وغيرها، غير أنها موجودة في كتب السنة الأصلية بأسانيدها، بحيث يتاح الحكم عليها بعد دراسة رجال الإسناد، بينما هي في أغلب تلك الكتب مجردة عن الأسانيد.
ويظن بعض المحدثين أنه عندما يوثق حديثه بقوله: رواه الطبراني، أو رواه أحمد في المسند - وسواء أذكر الجزء والصفحة أم لا - قد أدى مهمته، وبرئت ذمته. وقد يظن بعض القراء أن إحالة المؤلف إلى تلك الكتب يدل على قبول ذلك الحديث عند أهله، وما نشأ ذلك الوهم والظن إلا من عدم معرفتهم أن وجود الحديث في كتاب محدث - مهما تعل
(1) أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص في كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل 4/ 207. وتمام الحديث:(بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي معتمدا فليتبوأ مقعده من النار). وأخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل، 5/ 39 رقم الحديث 2669. ورواه الدارمي في المقدمة، باب البلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليم السنن 1/ 136. والإمام أحمد في مسنده 2/ 159 - 202 - 14.
رتبته - لا يدل بحال من الأحوال على صحته عند ذلك المحدث، اللهم إلا الكتب التي اشترط مصنفوها الصحة.
وخشية من الوقوع في هذا الوهم، نبه أحد الكاتبين في أصول كتابة البحوث العلمية وتحقيق التراث، على أهمية بيان درجة الحديث حين الاستشهاد به، وخطر الاكتفاء بذكر مصدره فقال:(1).
" إن العبرة ليست في ذكر مصادر الحديث وتركها على رسلها، فليست هذه الغاية التي نرمي إليها. وإنما يجب أن تتجة الغاية إلى تبيان درجة الحديث من الصحة والسقم، حسب الأصول والقواعد المتبعة في علم مصطلح الحديث، ولا سيما في الكتب التاريخية، والأدبية، والعقائد، التي تكثر فيها الأحاديث الضعيفة والواهية والموضوعة، والتي لم يعتن مؤلفوها ببيان درجة صحتها أو سقمها، وقد أدى انتشار مثل هذه الكتب بين الناس إلى أن أصبح كثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة يدور على ألسنة الكثرة الكاثرة من الخطباء، والمدرسين، والمؤلفين. ويتلقاها عنهم أغلب الناس، فيعملون بها وبما يستفاد منها، فأصبحت تكون خطرا عظيما على أفكار الناس وعقائدهم وسلوكهم. . ".
ومصداقا لذلك فقد سمعت خطبة في أحد مساجد الشارقة، في شهر ربيع الأول من عام 1413هـ، أورد فيها الخطيب - وهو أستاذ فاضل - حديثا ذكر أنه قرأه في كتاب صبح الأعشى للقلقشندي فأعجبه، فأراد أن يعم هذا النفع إخوانه المصلين. ونص الحديث: عن جابر رضي الله عنه قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على العضباء فقال: يا أيها الناس كأن
(1) ضبط النص والتعليق عليه 25، للدكتور بشار عواد معروف.
الموت في هذه الدنيا على غيرنا قد وجب، وكأن الحق فيها على غيرنا قد كتب، وكأن ما نشيع به من الموتى عن قريب إلينا راجعون، نبوئهم أجداثهم، ونأكل تراثهم، كأنا مخلدون بعدهم، قد أمنا كل جائحة، فطوبى لمن وسعته السنة ولم يخالفها إلى بدعة، ورضي من العيش بالكفاف وقنع بذلك».
وهذا الحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نص أئمة الحديث على ذلك في كتب الموضوعات (1).
وربما غر ذلك الشيخ الفاضل حلاوة ألفاظ الحديث، وصلاحه موعظة للناس، ووجوده في كتاب عميم النفع، ولم يدر أن كون الكتاب بهذه الصفة لا يلزم منه أن يكون كل ما فيه - لا سيما ما كان خارجا عن اختصاص مؤلفه - مقبولا وصحيحا. وأمثلة استشهاد الخطباء بالأحاديث الموضوعة أكثر من أن تحصى.
وينبغي أيضا أن يميز بين الأحاديث التي تساق للاحتجاج ولاستنباط الأحكام منها، وبناء القواعد عليها، وبين ما يورد للاستئناس، أو للتعاضد والتقوية، أو ما يذكر في فضائل الأعمال والترغيب والترهيب. فبينما لا يجوز في الأولى الاحتجاج بغير المقبول من الأحاديث، يجوز في الأخرى إيراد ما سوى الموضوع وشديد الضعف. وكل هذا لا يعرف إلا بعد معرفة درجة الحديث.
ونحن لا نكلف كل باحث غير متخصص في علوم الحديث البحث عن أحوال رجال الحديث، ثم الإدلاء برأيه وحكمه في قبول الحديث أو رده، ففي هذا خطر على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر ترك الحديث بغير حكم. بل نطلب من هذا الباحث أن ينقل لنا أقوال المحدثين في بيان
(1) انظر تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة 2/ 340.