الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعن هذه الأم ودورها في رعايته، وأثرها في تكوين شخصيته كما يقول الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا
…
على ما كان عوده أبوه
يقول الشيخ موسى السهلي في كتابه عن الشيخ القرعاوي ودعوته في الجنوب: ولد الشيخ القرعاوي، وخرج إلى هذه الدنيا يتيم الأب، وكفلته أمه حيث كانت امرأة صالحة، تحرص على مجالس الذكر، وحضور صلاة الجماعة في المساجد، في الأماكن المخصصة للنساء، فحرصت على تنشئته تنشئة صالحة بالدين والخلق، وقد شب وترعرع في حجرها، بإشراف أعمامه، وأشهرهم عبد العزيز بن حمد القرعاوي من وجهاء مدينة عنيزة (1).
لكنني أستنتج أن ولادته في الخبوب التي جنوب بريدة حيث الإقامة والمزرعة التي غرسها جده، وأن الانتقال لعنيزة عند أعمامه تم بعد ذلك وهذا الترجيح مبني على:
- أن جده ترك عنيزة لظروف معينة قلع الشجر والنخل من مزرعته ثم باع الأرض والبئر.
- أننا لم نجد نصا يدل على انتقال أبيه أو أمه لعنيزة قبل ولادته.
- أن الناحية الشرعية تلزم المحادة بالبقاء حيث توفي الزوج ولا تخرج إلا للضرورة، ولعلها لم تنتقل لعنيزة إلا بعد الولادة وخروجها من العدة.
(1) انظر كتابه (الشيخ القرعاوي ودعوته)(ص15).
اشتغاله بالتجارة:
شأن الشيخ القرعاوي، شأن أضرابه من الشباب في زمانه، في
البحث عن مسارب الرزق؛ لعدم القدرة على التفرغ لطلب العلم، وما ذلك إلا لمشقة الحياة، وقلة الموارد التي تريح الإنسان، وتجعله قادرا على تهيئة النفس، وتفريغ الذهن بطلب العلم، ناهيك بالجهد الذي يبذله الإنسان في هذا السبيل في مثل بيئة المترجم له؛ إذ لا موارد تغطي حاجة السكان، ولا استقرار في التجارة ولا أمان في السبل، إلا بعد أن هيأ الله للبلاد الملك المظفر عبد العزيز آل سعود، وبذل جهدا كبيرا في توحيد البلاد واستقرارها، ولم يستتب الأمن إلا بعد سنوات طويلة من السعي والمواصلة - فرحمه الله - وجعل في عقبه خير خلف لخير سلف، وكما يقال: رأس المال جبان لا يتحرك وينمو إلا في جو آمن.
ولذا كانت سبل التجارة محفوفة بالمخاطر، وشاقة مع قلة مواردها، ولكنها الحاجة التي دعت لذلك، ومع اهتمام الشيخ القرعاوي بطلب العلم، إلا أنه بدأ كما يبدأ أترابه في زمنه، بالبحث عن لقمة العيش، وما تحوج إليه من تحمل، فامتطى من الأمور ما يصقل شخصيته، ويعطيه دروسا في الحياة، تتفتح عنها مواهبه، ويكتسب بها خبرة وقدرة على الصبر والثبات، أمام معضلات الأمور كما قال الأول:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى
…
فما انقادت الآمال إلا لصابر
ومن هذا المسلك نرى الشيخ محمد القاضي يرى أن القرعاوي اشتغل في عام 1328هـ مع عمه بالتجارة في التغريب للشام، فسافر معه في جلب الإبل والملابس، وعاد إلى عنيزة، فصار يوالي نشاطه التربوي والتأديبي، وفتح دكانا للبيع والشراء، وكان صدوقا في المعاملة، وفي الصباح والليل يلازم مشايخه (1).
(1) روضة الناظرين (2: 41).
ثم يقول: وقبيل وفاته وصل إلى عنيزة، وعزم على أن يفلح ملكهم الواقع بالخبوب بالبصر - الفيضية - وكلم أناسا للاستدانة إلى أجل، وهذا مما يدلنا على فراغ يده، ونزاهته مما لفق الأعداء عليه من تهم، ولكن حمد المحمد الصالحي نصحه قائلا: يا شيخ ما بقي بالعمر مثل ما مضى، ولم يزل به حتى ثنى عزمه، فرجع إلى الرياض، وألم به المرض الذي كان يعتاده وأقعده على الفراش (1).
وهذا يدل على أنه دخل التجربة في التجارة، ولما يبلغ الحلم، إذ عمره ثلاثة عشر عاما، وهي تجربة لم تستمر ولم تكن مثمرة، حتى تغريه بالاستمرار فيها، حيث صرفه عنها شغفه بالعلم كما يقول الشيخ عبد الله بن بسام في كتابه:(علماء نجد) نشأ المترجم له في مدينة عنيزة وصار يتعاطى التجارة من حداثته، وعمه يوجهه ويرشده، وكانت تجارتهما في الإبل، ثم صار له ميل إلى طلب العلم (2).
وقد أكد هذا الجانب، وأعطاه توضيحا أكثر، تلميذه الشيخ موسى السهلي، ولعله أخذ ذلك مشافهة من الشيخ القرعاوي بحكم ملازمته الطويلة له، فقال: منذ أيام الصبا بدت على عبد الله القرعاوي ملامح النجابة والذكاء، وقد رأى عمه عبد العزيز أن يعرض عليه بعد مشورة والدته القيام بعمل التجارة، حيث اشترى له بضاعة باسمه وسافر به ومعه بضاعته إلى بلاد الشام لمزاولة التجارة وتدريبه على البيع والشراء، وقد تكرر سفره بصحبة عمه حتى تمرس على الحركة والبيع والشراء، وعرف كثيرا من خبرات عمه، إلى أن أصبح يزاول التجارة بمفرده، وبقي على هذا الحال مدة حتى حسن وضعه وتزوج، وبعد ذلك أوقف التجارة وانصرف
(1) روضة الناظرين (2: 45).
(2)
انظر علماء نجد خلال ستة قرون (2: 631).
لمزاولة الفلاحة، إلا أنه لم يجد في الفلاحة ما يغطي حاجته، فاضطر لفتح دكان يسانده بجانب الزراعة، ومع ذلك لم يستفد كثيرا؛ لأن ما يحصل عليه من كسب الدكان ينفقه في الزراعة، فضاق ذرعا بالزراعة، وتوقف عنها، ثم رغب في العودة مرة أخرى لمزاولة التجارة من جديد، فطلب الإذن من والدته لحرصه على برها، فأذنت له، وعاد لممارسة البيع والشراء، وبدأ يأخذ بضاعة ويذهب بها إلى الجهات المجاورة كعادته سابقا، واستمر الحال كذلك حتى ترك التجارة، وانصرف إلى طلب العلم (1).
ومن هذا يلاحظ أن التجارة، والرغبة في امتهانها قد تغلغلت محبتها في قلبه، وقد رأى فيها مطيته للمهمة التي تهيأت نفسه لها؛ لأن التجارة مدخل من المداخل التي تأنس بها الأفئدة، وتتقارب القلوب من حيث حسن التعامل، والمساعدة بالبذل للمحتاج، والإحسان إلى الضعيف والصغير، حيث سمى الاقتصاديون المال عصب الحياة.
ومن هنا ندرك أن امتهان الشيخ القرعاوي للتجارة، أسلوب من أساليب الذكاء، يستطيع به التقرب إلى الناس، والإحسان إليهم، حتى يقبلوا الدعوة، وهذه من المداخل التي يحاول بها المبشرون التغلغل للقلوب، لكنه رحمه الله سلك طريقا أمكن في أسر القلوب من طرائقهم، وأدعى لقبول الدعوة من أساليبهم، إنها طريقة الإسلام، ومنهجه بالبذل والعطاء في النفس والمال، طمعا لما عند الله من أجر مدخر. . ونراه يقول في رسالته التي نشرت في المنهل: وفي اليوم العشرين من صفر عام 1358هـ توجهت لجازان، وأخذت منه بضاعة، وتوجهت لسامطة، ثم تجولت
(1) انظر كتابه (عبد الله القرعاوي ودعوته في الجنوب)(ص15).