الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشيخ عبد الله القرعاوي
مجدد الدعوة في الجنوب
1315 هـ - 1389هـ
الدكتور: محمد بن سعد الشويعر (1)
الحمد لله القائل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (2) والمؤدب لرسوله الكريم بقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (3) والصلاة والسلام على معلم البشرية وقدوة الدعاة إلى الله، الموجه لأمته بقوله:«ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه (4)» . وعلى آله وأصحابه حملة الرسالة في الآفاق، دعوة وجهادا وتعليما. . أما بعد:
فقد كنت زرت منطقة جازان منذ عشرين عاما، وبحكم عملي السابق في التعليم، فقد تنقلت في قرى المنطقة، وقد وجدت للشيخ عبد الله بن محمد القرعاوي رحمه الله المتوفى في جمادى الأولى من عام 1389هـ بالرياض، ذكرا على كل لسان، وحديثا شهيا في كل مجلس، وهذا ما شوقني لاقتناص بعض أخباره، والتتبع لمسيرته في العمل، دعوة إلى الله، وتعليما لأبناء المنطقة، وبذلا في سبيل ذلك بالنفس والجهد والمال،
(1) وردت ترجمة للكاتب في العدد (9) من مجلة البحوث الإسلامية ص (289).
(2)
سورة النحل الآية 125
(3)
سورة آل عمران الآية 159
(4)
سنن أبو داود كتاب الجهاد (2478)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 206).
وأمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر، بأساليب متميزة، وتواضع جم، مع الاهتمام باجتثاث جذور متفشية في المجتمع، نتيجة الجهل، تعطي صورة قاتمة للبيئة التي تستشري فيها.
وقد ساعده على هذا - بعد توفيق الله له - وجود قلوب متفتحة، وأفئدة متعطشة إلى العلم، ونفوس صافية وحريصة على حسن المأخذ.
فالتقى السالب بالموجب، كما يقال في المجال الصناعي، ذلك أن قاسما يجمع بين الحالين: حال الباذل، وهو الشيخ عبد الله. وحال الآخذ، وهم الطلاب الذين توافدوا من أنحاء متعددة.
ذلك القاسم المشترك: هو الإخلاص، والصدق في النية.
وقد نتج عن ذلك مصلحة كبيرة، وفائدة فاقت جميع التوقعات، رغم ما اعترض جهود وأعمال الشيخ رحمه الله من عقبات، كادت توقف المسيرة: صغيرة وكبيرة، فردية وأكبر من الفردية.
وقد أشار الشيخ محمد بن عثمان القاضي في كتابه (روضة الناظرين) إلى شيء من ذلك، عندما ترجم لحياة الشيخ عبد الله القرعاوي (1).
فالشيخ رحمه الله قد وجد أرضا خصبة، قابلة للعطاء والإفادة، فكان غيثا ساقه الله بعد محل، وكان كالوابل الصيب، الذي تتحرك به البذور الكامنة، وكان واحدا كالألف، كما قال أبو بكر في رسالة لأبي عبيدة وهو في الشام، عندما طلب المدد بعد تكاثر الروم عليه، فبعث إليه بخالد بن الوليد، وقال: إنه واحد كالألف، وإنه سيف من سيوف الله، وبعضهم ينسب ذلك القول لعمر عندما بعث القعقاع بن عمرو مددا للمثنى بن حارثة.
(1) انظر (ص43 - 44 من الجزء 2) من هذا الكتاب.
وعلى العموم فالشيخ القرعاوي أدى دورا لا يقوم به إلا أعداد كبيرة من الرجال، وأعانه الله بالصبر والاحتساب، وعمل جهدا في فترة زمنية قصيرة لا ينفذه إلا المهتمون بالتخطيط، والقادرون بالسبل المادية والاجتماعية، على توفير ما يغطي تلك المسيرة، بناء للمساجد والمدارس، وتنقلا في المناطق للتعلم والدعوة، وعلاقات اجتماعية بأبناء المنطقة على اختلاف مستوياتهم تأليفا للقلوب، وترغيبا للصغار، وحرصا على إزالة الجهل، وما يتنافى مع حقيقة التوحيد، لدى الذكور والإناث. .
كل هذا لا يتم إلا بتوفيق الله والإخلاص في النية، حيث صاحبه بذل مستمر من نفس الشيخ وماله وراحته.
لقد كان الحديث الذي كنت أتلقفه من أبناء المنطقة في ربوع جازان، ثم في منطقة عسير: أبها وما حولها، قد وقر في نفسي منه، أن الشيخ القرعاوي قد ترك أثرا بارزا في كل قرية، مما جعل الكل يتذكر مواقفه، ويروي جانبا من سيرته، ويختلف ما علق بذهن هذا عما يروي ذاك، مما يعطي جانبا مهما في التأثر والأثر، وطابعا عن الدروب التي حرص على إنتاجها في الولوج إلى قلوب الناس، والأسلوب الذي تقرب به إلى الأفئدة. مع الحلم ونكران الذات، والقدرة على التحمل والصبر في سبيل الهدف الذي قام من أجله، وهو تعليم أبناء المنطقة؛ لأن بالتعليم يتم إنكار ما هو سائد لديهم من أمور تخالف جوهر الدين وصفاء العقيدة.
وقد أصل هذا المفهوم عزم أكيد باجتثاث ذلك، ونية صادقة بتصفية النفوس من الأدران إذ كان الهدف الأساسي هو طلب الأجر والمثوبة عند الله، ومن كان هدفه ما عند الله هان عليه كل ما يبذل في سبيله، وقد ترسخ هذا في قلوب طلابه، فساروا معه بخطى حثيثة، وهمة متوقدة. ولما كنت أسمع قصصا وحكايات تنبئ عن مكانة الشيخ عبد الله رحمه الله في
قلوب الناس هناك مع أنه قد مضى على وفاته أثناء مروره بالمنطقة عدة سنوات، سواء لدى المتعلمين منهم أو العامة، وسواء منهم من درس عليه، أو لم يدرس عليه، فالكل يتحدث عن مكانته، والكل يترحم عليه، والكل يروي وقائع مشوقة، ونماذج تدعو للتتبع والاستطلاع.
ورغم أنني لم أسمع قبل ذلك الوقت عن الشيخ إلا النزر اليسير، ولم يسبق لي أن قابلته، إلا أن ما استفاض على ألسنة الناس هناك، وما كان يتصدر أحاديثهم، يجعل الإنسان يتشوق إلى المزيد، ويجعل أسئلة كثيرة تطرح، عل بعضها يجد صدى، ينتج عنه رصد لحياة هذا الشيخ الذي أحيا الله به السنة في تلك المناطق، وأوجد الله به حماسة في الدعوة بدأت من سامطة، ثم أخذت في الامتداد، كما يمتد أثر الحجر عندما يلقى في الماء.
وكان من ضمن ما طرح من أسئلة: ألم يؤلف الشيخ كتبا؟ ألم يكتب عنه أحد من تلاميذه؟. . ولكن الجواب كان بالنفي في الحالين، رغم أنه - يرحمه الله - يعتبر مدرسة أيقظت جيلا، وكالغمامة التي أنبت الله بها الكلأ والعشب.
إلا أن جوابا من بعضهم جعل بارقة من أمل، فقد نقل أن الشيخ كتب عن نفسه، وعن أثره في المنطقة الجنوبية في مجلة المنهل عام 1367هـ وأن ابنه محمدا، قد استحث أكثر من مائة وعشرين طالب علم في المنطقة ممن تتلمذ على الشيخ، بالكتابة عن شيخهم، ورصد الجوانب التي يعرفها كل شخص؛ لأنها اليوم متوفرة في الذاكرة، وعالقة في الأذهان، وغدا تنسى بموت من عرفها، كما نسي الكثير من تاريخ هذه البلاد، ومواقف الرجال فيها، إذ لم يرصد المطلوب، ويوثق بالكتابة والمصدر كما يقال:
العلم صيد والكتابة قيده
…
قيد صيودك بالحبال الموثقة
وأيقنت مع تلك الحماسة والاهتمام أن ذلك سيحدث له أثر، وأن سيرة هذا الرجل الذاتية وأعماله، لا بد من حفظها - إن شاء الله - وإن طال الزمن؛ لأنه لا يضيع حق وراءه مطالب، ومكانة الشيخ حق على تلاميذه، وعارفي فضله، وطلبة العلم بعدهم، يطالب بهذا؛ لأنه ترك أثرا لا ينسى في منطقة لا يربطه بأهلها سبب أو نسب، اللهم إلا وشيجة هي أقوى من النسب والمصالح المختلفة: تلك هي رابطة العقيدة، وأمانة تبليغ العلم الذي أمر الله بتبليغه قال تعالى:{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1).
فمسئولية هذا الدين عظيمة، ورسالته ثقيلة، يجب الاهتمام بها وتأديتها على الوجه الذي أمر الله به، ألم يقل سبحانه:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (2).
وبتوفيق من الله، فقد ظهرت بعد تلك الفترة جهود ومساهمات في إبراز مكانة هذا الشيخ، تجلى بعضها ولا زال في الأفق أمور نرجو تحققها، ما دام بعض تلاميذه وخواصهم على قيد الحياة، وبما يقدم مدعوما بالوقائع والوثائق يكتمل العقد، ويوفي الشيخ ما يستحقه من الدراسة والتحليل لكل جانب من أعماله، حيث يحتاج إلى وقفات ودراسات.
ويبقى للأول فضل السبق برصده واهتمامه، وللاحق فضل الإجادة والإضافة. . كما قال الجاحظ؛ إذ كل تأليف لا بد له من تكميل، ولكل من الذين كتبوا حتى الآن عن الشيخ القرعاوي، جوانب يتميز بها من حيث الإضافة أو الاطلاع والمعاصرة، على ما لم يتح لغيره.
(1) سورة الأنفال الآية 63
(2)
سورة الزخرف الآية 44