الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
متفق عليه: «مره فليراجعها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلق فيها (1)» ففي تعدد الحيض والطهر ثلاثة ألفاظ محفوظة متفق عليها من رواية ابنه سالم، ومولاه نافع، وعبد الله بن دينار وغيرهم، والذين زادوا قد حفظوا ما لم يحفظه هؤلاء، ولو قدر التعارض فالزائدون أكثر وأثبت في ابن عمر وأخص به فرواياتهم أولى؛ لأن نافعا مولاه أعلم الناس بحديثه، وسالم ابنه كذلك، وعبد الله بن دينار من أثبت الناس فيه، وأرواهم عنه، فكيف يقدم اختصار أبي الزبير ويونس بن جبير على هؤلاء (2).
قلت: ومما تقدم من كلام أبي داود وابن القيم يترجح القول الأول المتضمن تأخير الطلاق إلى طهر بعد الطهر الذي يلي حيضة الطلاق، لما ذكراه من وجوه الترجيح، والله أعلم.
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/ 130).
(2)
شرح ابن القيم لسنن أبي داود والمطبوع مع عون المعبود 6/ 244.
الفرع الثاني: حكمة تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني:
قال ابن القيم رحمه الله: وأما أصحاب القول الثاني - يعني الذين يرون تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني فاحتجوا بما تقدم من أمره صلى الله عليه وسلم بإمساكها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر وقد تقدم، قالوا: وحكمة ذلك من وجوه:
أحدها: أنه لو طلقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلقها، وهذا عكس مقصود الرجعة، فإن الله سبحانه إنما شرع الرجعة لإمساك المرأة وإيوائها، ولم شعث النكاح، وقطع سبب الفرقة، ولهذا سماه إمساكا، فأمره الشارع أن يمسكها في ذلك الطهر، وأن لا يطلق فيه حتى تحيض حيضة أخرى، ثم تطهر لتكون الرجعة للإمساك لا للطلاق.
قالوا: وقد أكد الشارع هذا المعنى حتى إنه أمر في بعض طرق هذا الحديث بأن يمسها في الطهر المتعقب لتلك الحيضة فإذا حاضت بعده
وطهرت، فإن شاء طلقها قبل أن يمسها فإنه قال:«مره فليراجعها، فإذا طهرت مسها حتى إذا طهرت أخرى فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها (1)» ذكره ابن عبد البر وقال: الرجعة لا تكاد تعلم صحتها إلا بالوطء؛ لأنه المبتغى من النكاح، ولا يحصل الوطء إلا في طهر، فإذا وطئها حرم طلاقها فيه حتى تحيض ثم تطهر، فاعتبرنا مظنة الوطء محله، ولم يجعله محلا للطلاق.
الثاني: أن الطلاق حرم في الحيض لتطويل العدة عليها، فلو طلقها عقب الرجعة من غير وطء لم تكن قد استفادت بالرجعة فائدة، فإن تلك الحيضة التي طلقت فيها لم تكن تحتسب عليها من العدة، وإنما تستقبل العدة من الطهر الذي يليها، أو من الحيضة الأخرى على الاختلاف في الأقراء، فإذا طلقها عقب تلك كانت في معنى من طلقت ثم راجعها ولم يمسها حتى طلقها فإنها تبنى على عدتها في أحد القولين؛ لأنها لم تنقطع بوطء، فالمعنى المقصود إعدامه من تطويل العدة موجود بعينه، هنا لم يزل بطلاقها عقب الحيضة، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع حكم الطلاق جملة بالوطء فاعتبر الطهر الذي هو موضع الوطء، فإذا وطئ حرم طلاقها حتى تحيض ثم تطهر.
ومنها: أنها ربما كانت حاملا، وهو لا يشعر، فإن الحامل قد ترى الدم بلا ريب، وهل حكمه حكم الحيض، أو دم فساد؟ على الخلاف فيه فأراد الشارع أن يستبرئها بعد تلك الحيضة بطهر تام، ثم بحيض تام، فحينئذ تعلم هل هي حامل أو حائل؟ فإنه ربما يمسكها إذا علم أنها حامل فيه، وربما تكف هي عن الرغبة في الطلاق إذا علمت أنها حامل، وربما يزول الشر الموجب للطلاق بظهور الحمل، فأراد الشارع تحقيق علمها بذلك نظرا للزوجين، ومراعاة لمصلحتها، وحسما لباب الندم، وهذا من أحسن محاسن الشريعة.
(1) صحيح البخاري الطلاق (5332)، صحيح مسلم الطلاق (1471)، سنن الترمذي الطلاق (1175)، سنن النسائي الطلاق (3396)، سنن أبو داود الطلاق (2185)، سنن ابن ماجه الطلاق (2019)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 102)، موطأ مالك الطلاق (1220)، سنن الدارمي الطلاق (2262).
وقيل: الحكمة فيه أنه عاقبه بأمره بتأخير الطلاق جزاء له على ما فعله من إيقاعه على الوجه المحرم.
ورد هذا بأن ابن عمر لم يكن يعلم التحريم.
وأجيب عنه: بأن هذا حكم شامل له ولغيره من الأمة، وكونه رضي الله عنه لم يكن عالما بالتحريم، يفيد نفي الإثم لا عدم ترتب هذه المصلحة على الطلاق المحرم في نفسه.
وقيل: حكمته أن الطهر الذي بعد تلك الحيضة هو من تحريم تلك الحيضة فهما كالقرء الواحد، فلو شرع الطلاق فيه لصار كموضع طلقتين في قرء واحد، وليس هذا بطلاق السنة.
وقيل: حكمته أنه نهى عن الطلاق في الطهر ليطول مقامه معها، ولعله تدعوه نفسه إلى وطئها وذهاب ما في نفسه من الكراهة لها، فيكون ذلك حرصا على ارتفاع الطلاق البغيض إلى الله المحبوب إلى الشيطان، وحضا على بقاء النكاح ودوام المودة والرحمة (1).
وقال النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم ما نصه: فإن قيل ففي حديث ابن عمر هذا أنه أمر بالرجعة، ثم بتأخير الطلاق إلى طهر بعد الطهر الذي يلي هذا الحيض فما فائدة التأخير؟ فالجواب من أربعة وجوه:
أحدها: لئلا تصير الرجعة لغرض الطلاق، فوجب أن يمسكها زمانا كان يحل له فيه الطلاق، وإنما أمسكها لتظهر فائدة الرجعة، وهذا جواب أصحابنا.
والثاني: عقوبة له وتوبة من معصية باستدراك جنايته.
(1) شرح ابن القيم لسنن أبي داود المطبوع مع عون المعبود 6/ 246.