الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الشوكاني (ت 1250هـ): (وقد اختلف أهل العلم في هذا الاستثناء هل يرجع إلى الجملتين قبله؟ وهي جملة عدم قبول الشهادة، وجملة الحكم عليه بالفسق، أم إلى الجملة الأخيرة، وهذا الاختلاف بعد اتفاقهم على أنه لا يعود إلى جملة الجلد بل يجلد التائب كالمصر)(1).
(1) فتح القدير للشوكاني (4/ 9).
المبحث الثاني: أثر التوبة على عقوبة رد الشهادة
اتفق العلماء على قبول شهادة القاذف، إذا شهد بعد التوبة، وقبل إقامة الحد عليه، واتفقوا على رد شهادته إذا شهد بعد إقامة الحد، وقبل التوبة. واختلفوا في قبول شهادته إذا شهد قبل إقامة الحد عليه، وقبل التوبة. وإذا شهد بعد إقامة الحد عليه، وبعد التوبة، وتفصيل ذلك في مسألتين:
المسألة الأولى: شهادة القاذف بعد الحد والتوبة
.
المسألة الثانية: شهادة القاذف قبل الحد والتوبة.
المسألة الأولى: شهادة القاذف بعد الحد والتوبة
اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف إذا شهد بعد إقامة الحد عليه، وبعد التوبة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن شهادة المحدود في القذف لا تقبل، سواء تاب أم لم يتب.
وهذا مذهب الحنفية (1)، وقول سعيد بن جبير (ت 95 هـ)، وسعيد بن المسيب (ت 94 هـ)، وشريح (ت 78 هـ)، وسفيان
(1) المبسوط للسرخسي (16/ 125)، وفتح القدير لابن الهمام (7/ 400).
الثوري (ت 161هـ)، والحسن البصري (ت 110هـ)، وإبراهيم النخعي (ت 96 هـ)، والأوزاعي (ت 157 هـ).
القول الثاني: أن شهادة القاذف المحدود تقبل إذا تاب إلا في القذف فلا تقبل. وهذا المشهور في مذهب المالكية (1).
القول الثالث: أن شهادة القاذف المحدود تقبل إذا تاب. وهذا مذهب الشافعية (2)، والحنابلة (3)، والظاهرية (4)، وقول عند المالكية.
وهو مروي عن عمر بن الخطاب (ت 23 هـ)، وعبد الله بن مسعود (ت 32 هـ)، وابن عباس (ت 68 هـ)، وأبي الدرداء (ت 32 هـ)(5) رضي الله عنهم، وهو قول عطاء (ت 114 هـ)، وطاوس
(1) كفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي بهامشه (4/ 124) والقوانين الفقهية لابن جزي ص (264).
(2)
المهذب (2/ 428)، ونهاية المحتاج (8/ 308).
(3)
كشاف القناع (6/ 425، 426).
(4)
المحلى لابن حزم (9/ 431).
(5)
الاستذكار (22/ 35 - 39) والمحلى (9/ 431، 432) والمغني لابن قدامة (14/ 189) وفتح الباري (5/ 256).
(ت 106 هـ)، والشعبي (ت 104 هـ)، وعكرمة (ت 105هـ)، ومجاهد (ت 104هـ)، والقاسم بن محمد (ت 107 هـ)، وسالم (ت 106 هـ) والزهري
(ت 124 هـ)، وسليمان بن يسار (ت 170 هـ)، وأبي ثور (ت 240 هـ)، وأبي عبيد (ت 224 هـ)، والليث بن
سعد (ت 175هـ)، وإسحاق بن راهويه (ت 238 هـ)، وبه قضى عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ) وكتب به إلى البلدان، واختاره ابن جرير الطبري (ت 310 هـ)(1)، وشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ)(2)، وابن القيم (ت 751 هـ)(3)، والشوكاني (ت 1250 هـ)(4)، وغيرهم.
الأدلة:
أدلة القول الأول: استدل أصحاب القول الأول بالكتاب، والسنة، والمعقول.
(1) تفسير ابن جرير الطبري (17/ 108)
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام (15/ 354).
(3)
إعلام الموقعين (1/ 125 - 127).
(4)
فتح القدير للشوكاني (4/ 9).
أولا: الكتاب: استدلوا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1).
وجه الاستدلال:
دلت هذه الآية على أن شهادة القاذف لا تقبل، سواء تاب، أم لم يتب، لأن لفظ (الأبد) يدل على الدوام والاستمرار طيلة عمره. فالمحدود في القذف، لا يخرج بالتوبة من كونه محدودا في قذف، فيبقى الحكم برد شهادته مؤبدا (2). وقبول شهادته يخالف هذه الأبدية التي حكم الله بها بقوله:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (3) ونوقش هذا الاستدلال من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن المراد بقوله تعالى: أبدا ما دام مصرا على قذفه، لأن أبد كل شيء على ما يليق به، كما إذا قيل: لا تقبل شهادة الكافر أبدا، فإن المعنى ما دام كافرا. فإذا تاب القاذف عن القذف فلا ترد شهادته، لأن التأبيد في الآية مشروط بعدم التوبة، ومستثنى بالتوبة (4).
(1) سورة النور الآية 4
(2)
المبسوط للسرخسي (16/ 126).
(3)
سورة النور الآية 4
(4)
الحاوي للماوردي (17/ 28).
الوجه الثاني: أن سبب رد شهادة القاذف هو ما كان متصفا به من الفسق بسبب القذف، فإذا زال الفسق بالتوبة قبلت شهادته، لزوال المانع (1).
الوجه الثالث: أن هذه الآية نزلت في أصحاب الإفك الذين قذفوا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد أقام عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حد القذف. ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شهادتهم، ولا المسلمون بعده؛ لأنهم تابوا.
فإذا قبلت شهادة الذين قذفوا أم المؤمنين التي برأها الله بكلامه الذي أنزله من فوق سبع سماوات، فشهادة غيرهم ممن قذف غيرها أولى بالقبول (2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ): (وقوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (3) فهذا نص في أن هؤلاء القذفة لا تقبل لهم شهادة أبدا، واحدا كانوا أو عددا؛ لأن الآية نزلت في أهل الإفك باتفاق أهل العلم والحديث والفقه والتفسير، وكان الذين قذفوا عددا. . . ودلت أيضا على أن شهادته بعد التوبة مقبولة، كما هو مذهب الجمهور، فإنه كان من جملتهم مسطح بن أثاثة (ت 34 هـ)، وحسان ابن ثابت (ت 54 هـ)، كما في الصحيح عن عائشة (ت 85 هـ)،
(1) الحاوي للماوردي (17/ 27).
(2)
مجموع فتاوى ابن تيمية (15/ 353، 354).
(3)
سورة النور الآية 4
وكان منهم حمنة بنت جحش وغيرها، فمعلوم أنه لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم ولا المسلمون بعده شهادة أحد منهم؛ لأنهم كلهم تابوا لما نزل القرآن براءتها، ومن لم يتب حينئذ فإنه كافر مكذب بالقرآن، وهؤلاء ما زالوا مسلمين، وقد نهى الله عن قطع صلتهم، ولو ردت شهادتهم بعد التوبة لاستفاض ذلك كما استفاض رد عمر (ت 23 هـ) رضي الله عنه شهادة أبي بكرة (ت 52 هـ) رضي الله عنه، وقصة عائشة (ت 58 هـ) رضي الله عنها كانت أعظم من قصة المغيرة (ت 50 هـ) رضي الله عنه (1).
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (15/ 353، 354).
ثانيا: السنة: استدلوا بالسنة بما يلي:
1 -
ما رواه الترمذي (ت 297 هـ) بسنده عن عائشة (ت 58 هـ) رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجوز في الإسلام شهادة زور، ولا خائن، ولا خائنة، ولا مجلود حدا. . . (1)» الحديث.
وجه الاستدلال:
دل هذا الحديث بعمومه على بطلان شهادة القاذف المحدود؛ لأنه
(1) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الشهادات، باب ما جاء فيمن لا تجوز شهادته (44/ 473)، حديث (2298)، وأخرجه الدارقطني في سننه، كتاب الأقضية والأحكام (4/ 244) حديث (145).
مجلود حدا. قال الجصاص (ت370 هـ) مبينا وجه الاستدلال بالحديث: فأبطل عليه الصلاة والسلام شهادة المحدود، وظاهره يقتضي بطلان شهادة سائر المحدودين في حد القذف أو غيره، إلا أن الدلالة قد قامت على جواز قبول شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب مما حد فيه، ولم تقم الدلالة في المحدود في القذف، فهو على عموم لفظه تاب أو لم يتب (1).
ونوقش هذا الدليل من وجهين:
الوجه الأول: من جهة السند، فهذا الحديث ضعيف؛ لأنه من رواية يزيد بن زياد الدمشقي، وهو ضعيف، لا يحتج به (2).
قال الترمذي (ت 297 هـ) بعد ذكره لهذا الحديث: " فهذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن زياد الدمشقي، ويزيد يضعف في الحديث، ولا يعرف هذا الحديث من حديث الزهري إلا
(1) أحكام القرآن للجصاص (2/ 280).
(2)
سنن الترمذي (4/ 473)، سنن الدارقطني (4/ 244) سنن البيهقي (10/ 155).
من حديثه " (1). وقال الدارقطني (ت 385 هـ) عنه: " يزيد هذا ضعيف لا يحتج به " (2). وقال البيهقي (ت 458 هـ) بعد ذكره لهذا الحديث: ". . . يزيد بن أبي زياد، ويقال: ابن زياد الشامي، هذا ضعيف " (3). وقال أيضا:". . . لا يصح في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء يعتمد عليه "(4). وقال ابن حجر (ت 852 هـ): ". . . واحتجوا - الحنفية - في رد شهادة المحدود بأحاديث قال الحفاظ: لا يصح منها شيء "(5).
الوجه الثاني من جهة الدلالة:
فإن هذا الحديث لا يدل على أن القاذف إذا تاب لا تقبل شهادته، وإنما يدل على أن المجلود حدا لا تقبل شهادته، وهذا محمول على من لم يتب، فإن شهادته مردودة؛ لفسقه، وأما إذا تاب فإن شهادته مقبولة؛ لزوال المانع، وهو الفسق، وهذا عام في كل الحدود، وبه يحصل الجمع بين الأدلة. فقد دلت الأدلة على قبول شهادة المجلود حدا إذا تاب مما حد منه، سواء أكان الحد حد قذف، أم غيره. وسيأتي بسطها في أدلة
(1) سنن الترمذي (4/ 473).
(2)
سنن الدارقطني (4/ 244).
(3)
السنن الكبرى للبيهقي (10/ 155).
(4)
السنن الكبرى للبيهقي (10/ 155).
(5)
فتح الباري (5/ 257).
الجمهور (1).
2 -
ما روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) رضي الله عنهما، في قصة هلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال سعد بن عبادة رضي الله عنه:" أيجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين. . . ".
وجه الاستدلال: دل هذا الحديث على بطلان شهادة المجلود حد القذف تاب أم لم يتب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن بطلان شهادة القاذف معلق على وقوع الحد عليه (2).
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:
أ- أن هذا الحديث بهذا اللفظ ضعيف، والضعيف لا تقوم به
(1) ص (297 - 310) من هذا البحث.
(2)
أحكام القرآن للجصاص (3/ 273).
حجة، فهو من طريق عباد بن منصور (ت 52 هـ) عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعباد بن منصور ضعيف ويدلس عن عكرمة. قال ابن حجر في التقريب:" عباد بن منصور الناجي صدوق رمي بالقدر، وكان يدلس، تغير في آخرة. . . "(1) وقال النسائي (ت 303 هـ): ضعيف (2) وقال يحيى بن معين (ت 233 هـ): ليس بشيء ضعيف (3) وقال ابن أبي حاتم (ت 327 هـ): في روايته عن عكرمة وأيوب ضعف (4) وقال مهنا عن أحمد (ت 441 هـ): كانت أحاديثه منكرة، وكان قدريا، وكان يدلس (5) وقال البخاري (ت 256 هـ): ربما دلس عن عباد عن عكرمة (6) ب- أن هذا اللفظ الذي نسبه الجصاص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من كلام سعد بن عبادة (ت 14هـ) رضي الله عنه كما في رواية الواحدي (ت 468 هـ) في سبب النزول (7)، أو من كلام الأنصار كما روى ذلك ابن جرير (ت 310 هـ) في تفسيره (8) إذ هذا
(1) التقريب لابن حجر (221) رقم الترجمة (3142).
(2)
الضعفاء والمتروكين للنسائي ص (174).
(3)
الجرح والتعديل (6/ 86).
(4)
الجرح والتعديل (6/ 86).
(5)
تهذيب التهذيب (5/ 105).
(6)
التاريخ الكبير للبخاري (6/ 39).
(7)
أسباب النزول للواحدي ص (317).
(8)
تفسير ابن جرير الطبري (17/ 111).
اللفظ ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول صحابي خالف ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحتج به (1).
ج- أن هذا الحديث لو صح فإنه لا يدل على رد شهادة من أقيم عليه حد القذف بعد التوبة، فليس فيه أن القاذف إذا تاب لم تقبل شهادته، وهو محل النزاع. أما إذا جلد القاذف ولم يتب فلا خلاف في رد شهادته.
د- أن ذلك القول ليس فيه حجة؛ لأنه ظن من الأنصار ولم يصح، فما ضرب هلال، ولا سقطت شهادته (2).
3 -
ما رواه الحجاج بن أرطاة (ت 145هـ) عن عمرو بن شعيب (ت 118هـ) عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في فرية (3)» .
وجه الاستدلال:
دل هذا الحديث بعمومه على أن المحدود في القذف لا تقبل شهادته مطلقا، تاب أم لم يتب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن
(1) المحلى لابن حزم (9/ 432).
(2)
المحلى لابن حزم (9/ 432).
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب البيوع والأقضية، باب من قال: لا تجوز شهادته إذا تاب (6/ 172).
المسلمين عدول، ثم استثنى منهم المحدود في القذف، ولم يفرق بين تائب أو غيره، فدل ذلك على أن حكم التائب وغيره سواء.
ويناقش هذا الاستدلال بما يلي:
1 -
أن هذا الحديث بهذا السند ضعيف؛ لأنه من رواية الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب، والحجاج مدلس إلا إذا صرح بالسماع، وفي هذا الحديث لم يصرح بالسماع وإنما عنعن، فلا يحتج بحديثه هذا.
قال أبو حاتم عنه: صدوق يدلس عن الضعفاء، يكتب حديثه، وأما إذا قال: حدثنا فهو صالح لا يرتاب في صدقه وحفظه إذا بين السماع (1) وقال ابن خزيمة (ت 311 هـ): لا أحتج به إلا فيما قال: حدثنا أو سمعت (2).
وقال أبو زرعة (ت 264 هـ): صدوق يدلس (3) وقال ابن معين: ليس بالقوي، يدلس عن عمرو بن شعيب (4) وقال ابن حجر: صدوق كثير الخطأ والتدليس (5).
4 -
ما ورد عن عمر بن الخطاب (ت 23 هـ) رضي الله عنه
(1) تهذيب التهذيب (2/ 196 - 198).
(2)
تهذيب التهذيب (2/ 196 - 198).
(3)
تهذيب التهذيب (2/ 196 - 198).
(4)
تهذيب التهذيب (2/ 196 - 198).
(5)
التقريب لابن حجر ص (152).
في كتابه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ومما فيه: ". . . والمسلمون عدول، بعضهم على بعض، إلا مجلودا في حد، أو مجربا في شهادة زور. . . ".
وجه الاستدلال بالأثر:
دل هذا الأثر على أن شهادة المجلود في حد القذف لا تقبل، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخبر أن المسلمين عدول ثم استثنى منهم المجلود في الحد من غير تفريق بين من تاب ومن لم يتب، وظاهر الأثر يدل على رد شهادة كل من أقيم عليه حد من الحدود، سواء أكان القذف أم غيره، لكن الأدلة قامت على قبول شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب مما حد فيه، ولم تقم على من تاب من القذف، فبقي على عموم لفظه في القاذف تاب أو لم يتب (1).
ونوقش هذا الاستدلال: أن هذا الأثر محمول على من لم يتب، فإن شهادته مردودة؛ لفسقه، وأما إذا تاب فإن شهادته مقبولة؛ لزوال
(1) أحكام القرآن للجصاص (2/ 280) بتصرف.
المانع وهو الفسق، وقد قامت الأدلة على قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب، ومن ذلك ما ورد أن عمر رضي الله عنه لما جلد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة رضي الله عنه استتابهم، فرجع اثنان فقبل شهادتهما، وأبى أبو بكرة رضي الله عنه أن يرجع فرد شهادته.
وفي رواية أخرى قال لأبي بكرة: تب تقبل شهادتك، أو إن تبت قبلت شهادتك.
قال البيهقي بعد ذكره للأثر السابق: " وهذا إنما أراد به قبل أن يتوب، فقد روينا عنه أنه قال لأبي بكرة رضي الله عنه: تب تقبل شهادتك، وهذا هو المراد بما عسى أن يصح فيه من الأخبار، كما هو المراد بسائر من ردت شهادته معه والله أعلم "(1).
5 -
ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " شهادة القاذف لا تجوز وإن تاب"(2).
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:
أ- أن هذا الأثر ضعيف، والضعيف لا يحتج به (3) قال ابن حجر:
(1) السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الشهادات، باب من قال: لا تقبل شهادته (10/ 156).
(2)
المحلى (9/ 431).
(3)
المحلى (9/ 431)، وفتح الباري (5/ 257).
". . . وهو منقطع، ولم يصب من قال: إن سنده قوي "(1).
ب- أن الأظهر عن ابن عباس رضي الله عنهما خلاف ذلك (2).
6 -
ما روي عن قيس بن عاصم (ت 20 هـ) رضي الله عنه قال: كان أبو بكرة إذا أتاه رجل يشهده قال له: أشهد غيري، فإن المسلمين قد فسقوني (3) ونوقش هذا الاستدلال:
أ- بأن هذا الأثر لم يصح فلم يفسق المسلمون أبا بكرة، بل تلقوا روايته بالقبول بالإجماع (4) قال ابن حزم (ت 456 هـ):" وأما الرواية عن أبي بكرة أن المسلمين فسقوني، فمعاذ الله أن يصح، ما سمعنا أن مسلما فسق أبا بكرة، ولا امتنع من قبول شهادته على النبي صلى الله عليه وسلم في أحكام الدين "(5).
وقال ابن القيم: " وقد أجمع المسلمون على قبول رواية أبي بكرة
(1) فتح الباري (5/ 257).
(2)
المحلى (9/ 431).
(3)
المحلى (9/ 431).
(4)
المحلى (9/ 431)، وإعلام الموقعين (1/ 127)، وفتح الباري (5/ 257).
(5)
المحلى (9/ 431).
رضي الله عنه " (1).
ب- أن هذا الأثر إذا صح، فهو محمول على عدم قبول شهادة من لم يتب من القذف دون روايته؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجاز شهادة من تاب من الذين شهدوا على المغيرة، وأبطل شهادة من لم يتب، وهو أبو بكرة رضي الله عنه، لأنه أقام على قوله في المغيرة رضي الله عنه، فلم يقبل عمر رضي الله عنه شهادته، وكان أفضل القوم، فقد عاد مثل النصل من العبادة (2).
قال ابن قدامة: " إن عمر لم يقبل شهادة أبي بكرة، وقال له: تب أقبل شهادتك. وروايته مقبولة، ولا نعلم خلافا في قبول رواية أبي بكرة مع رد عمر شهادته "(3) فهذا الأثر إذا صح لا يدل على رد شهادة المحدود في القذف إذا تاب، وهو محل النزاع، وإنما يدل على أن المحدود في القذف إذا أصر على قوله ولم يتب، لا تقبل شهادته، وهو محل اتفاق.
واستدلوا من المعقول بما يأتي:
7 -
أن رد شهادة القاذف من تمام حد القاذف، وأصل الحد لا يسقط
(1) إعلام الموقعين (1/ 127).
(2)
الاستذكار لابن عبد البر (22/ 39 و 40 و41).
(3)
المغني لابن قدامة (14/ 191).
بالتوبة، فما هو متم له لا يسقط كذلك، فالحد منصوص عليه في قوله تعالى:{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) وقوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (2) معطوف على الجلد، والعطف للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه، فإذا كان المعطوف عليه حدا كان المعطوف من تمام الحد (3).
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:
أ - أن رد الشهادة ليس من تمام الحد، فالحد تم باستيفاء عدده، ورد الشهادة عقوبة أخرى غير الجلد، وجبت بسبب القذف، فالحد ورد الشهادة حكمان للقذف متغايران (4).
فالحد منصوص عليه بقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (5) ورد الشهادة بقوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (6) وهو معطوف على الجلد، والمعطوف غير المعطوف عليه، لأن العطف يقتضي المغايرة.
ب - أن الله سبحانه وتعالى علق على القذف ثلاثة أحكام: الحد، ورد الشهادة، والتفسيق. ورد الشهادة سببه الفسق، فإذا زال بالتوبة زال رد الشهادة؛ لزوال علته (7).
قال الفخر الرازي: " إن قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (8)
(1) سورة النور الآية 4
(2)
سورة النور الآية 4
(3)
المبسوط للسرخسي (16/ 106 - 127)، وفتح القدير (7/ 402).
(4)
إعلام الموقعين (1/ 128) بتصرف.
(5)
سورة النور الآية 4
(6)
سورة النور الآية 4
(7)
أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1336 - 1337).
(8)
سورة النور الآية 4
عقيب قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (1) يدل على أن العلة في عدم قبول تلك الشهادة كونه فاسقا؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، لا سيما إذا كان الوصف مناسبا، وكونه فاسقا يناسب أن لا يكون مقبول الشهادة. إذا ثبت أن العلة لرد الشهادة ليست إلا كونه فاسقا، ودل الاستثناء على زوال الفسق، فقد زالت العلة، فوجب أن يزول الحكم لزوال العلة (2).
8 -
أن ما تعلق بالقذف من حقوق الآدميين لم يسقط بالتوبة كالجلد، والشهادة من حقوق الآدميين فلا تسقط بالتوبة (3).
ونوقش هذا الاستدلال: بأن الشهادة من الحقوق المشتركة بين حقوق الله وحقوق الآدميين (4)، وحق الله فيها غالب، لقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (5) والحكم للغالب.
9 -
أن قبول الشهادة ولاية قد زالت بالقذف، وجعلت العقوبة فيها في محل الجناية، وهو اللسان؛ تغليظا لأمرها (6)، وذلك مشروع، كحد السرقة (7)
(1) سورة النور الآية 4
(2)
التفسير الكبير للفخر الرازي (23/ 163).
(3)
الحاوي للماوردي (17/ 25).
(4)
الحاوي للماوردي (17/ 28).
(5)
سورة الطلاق الآية 2
(6)
أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1337)، والمبسوط للسرخسي (16/ 127).
(7)
المبسوط للسرخسي (16/ 127).
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:
أ- أن كون العقوبة في محل الجناية غير لازم، فالعقوبة تكون في محل الجناية، كحد السرقة، وتكون في غير محل الجناية، كحد الشارب والزاني، فإن العقوبة فيهما في غير محل الجناية (1).
ب- أن جعل عقوبة اللسان بسبب الفسق الذي هو محل التهمة فإذا زال الفسق بالتوبة فلا وجه للعقوبة بعدها (2).
أدلة القول الثاني:
أولا: أدلة القول الثاني على قبول شهادة القاذف في غير القذف بعد الحد والتوبة: استدل أصحاب القول الثاني على ذلك بما استدل به أصحاب القول الثالث (3).
ثانيا: أدلة القول الثاني على عدم قبول شهادة القاذف في القذف: قالوا: إن شهادة القاذف المحدود لا تقبل في القذف وإن تاب؛ لأنه متهم في الرغبة، على أن يكون غيره مثله في المعرة، لتهون عليه المصيبة (4)، فإن العادة فيمن فعل قبيحا أنه يجب أن يكون له
(1) إعلام الموقعين (1/ 128).
(2)
إعلام الموقعين (1/ 128).
(3)
انظر ص (297 - 310) من هذا البحث.
(4)
حاشية الدسوقي (4/ 173)، كفاية الطالب وحاشية العدوي بهامشها (4/ 124).
نظراء (1)، والمتهم لا تقبل شهادته فيما اتهم به.
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:
أ- أن عموم الأدلة من الكتاب والسنة يدل على عدم التفريق بين ما حد فيه وما لم يحد فيه، فإن الأدلة تدل على أن من فعل ما يفسق به ثم تاب، فإن التوبة تزيل عنه الفسق، ويصير عدلا، والعدل مقبول الشهادة.
ومن أصرح الأدلة في هذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2){إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) فدلت هذه الآية بعمومها على قبول شهادة القاذف إذا تاب من غير تفريق بين ما حد فيه وغيره؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين الأحكام المترتبة على القذف، ومنها رد الشهادة، ثم استثنى بعد الذين تابوا، والاستثناء عائد على جميع ما تقدمه سوى الحد، فإن المسلمين مجمعون على أنه لا يسقط عن القاذف بالتوبة. فيكون رد شهادة القاذف يزول بالتوبة؛ لأنه داخل في الاستثناء، وتعود إليه أهلية الشهادة التي فقدها بسبب القذف، من غير فرق بين ما حد فيه وما لم يحد فيه، لأن الآية لم تفرق بينهما، والأصل في دلالة الكتاب والسنة، أن تحمل على ما اقتضته من عموم أو خصوص، حتى
(1) المغني لابن قدامة (14/ 187).
(2)
سورة النور الآية 4
(3)
سورة النور الآية 5
يرد ما يغير ذلك.
ب- أن التفريق في قبول شهادة القاذف في غير القذف وردها في القذف لا دليل عليه، فالقاذف إما أن يكون عدلا، فيقبل في كل شيء كسائر العدول، أو غير عدل، فلا يقبل في شيء (1) كسائر المجروحين.
(1) المحلى لابن حزم (9/ 432).
أدلة القول الثالث:
استدل أصحاب القول الثالث بالكتاب والسنة والمعقول.
أولا: الكتاب:
أ- استدلوا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1){إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2).
وجه الاستدلال: دلت هذه الآية على أن القاذف إذا تاب تقبل شهادته، لأن قوله تعالى: إلا الذين تابوا استثناء، والاستثناء إذا تعقب جملا معطوفا بعضها على بعض، ينصرف إلى جميع ما تقدم إلا ما قام الدليل عليه، وقد قام الدليل وهو الإجماع على أن الاستثناء لا ينصرف إلى الجلد، فيبقى ما عداه، وهو الفسق، ورد
(1) سورة النور الآية 4
(2)
سورة النور الآية 5
الشهادة على هذا الأصل (1).
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:
أ- بأن الاستثناء الوارد على جمل معطوف بعضها على بعض، يقصر على ما يليه، ولا يرجع إلى ما تقدمه (2) إلا بدليل، فالاستثناء الوارد في قوله تعالى: إلا الذين تابوا يقصر على الجملة التي تليه، وهي قوله تعالى:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3) فيرتفع بالتوبة عن القاذف وصف الفسق، ولا تقبل شهادته (4).
قال الجصاص: ". . . والدليل على أن الاستثناء مقصور الحكم على ما يليه، من زوال سمة الفسق به دون جواز الشهادة، أن حكم الاستثناء في اللغة، رجوعه إلى ما يليه، ولا يرجع إلى ما تقدمه إلا بدلالة، والدليل عليه قوله تعالى:{إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} (5){إِلَّا امْرَأَتَهُ} (6) فكانت المرأة مستثناة من المنجين؛ لأنها تليهم. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (7) في معنى الاستثناء، وهو راجع إلى الربائب دون أمهات النساء، لأنه
(1) أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1339)، وأحكام القرآن للجصاص (3/ 374).
(2)
تيسير التحرير (1/ 302).
(3)
سورة النور الآية 4
(4)
فتح القدير للشوكاني (4/ 9)، وأحكام القرآن للجصاص (3/ 374).
(5)
سورة الحجر الآية 59
(6)
سورة الحجر الآية 60
(7)
سورة النساء الآية 23
يليهن، فثبت بما وصفنا صحة ما ذكرنا، من الاقتصار بحكم الاستثناء على ما يليه دون ما تقدمه (1).
ب- أن قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (2) كل واحدة منهما أمر، وقوله تعالى:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3) خبر، والاستثناء داخل عليه، فوجب أن يكون موقوفا عليه دون الرجوع إلى الأمر، وذلك لأن الواو في قوله:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) للاستقبال، إذ غير جائز أن يكون للجميع؛ لأنه غير جائز أن ينتظم لفظ واحد الأمر والخبر (5).
ج- أن الإجماع انعقد على أن التوبة لا تسقط الجلد، وأن الاستثناء لا يرجع إليه، فوجب أن يكون بطلان الشهادة مثله؛ لأنهما جميعا أمران قد تعلقا بالقذف، فمن حيث لم يرجع الاستثناء إلى الحد وجب أن لا يرجع إلى الشهادة، وأما الفسق فهو خبر ليس بأمر فافترقا (6).
وأجيب عن هذه المناقشات بما يلي:
1 -
الإجابة عن المناقشة الأولى أن واو العطف لا تقتضي
(1) أحكام القرآن للجصاص (3/ 374).
(2)
سورة النور الآية 4
(3)
سورة النور الآية 4
(4)
سورة النور الآية 4
(5)
أحكام القرآن للجصاص (3/ 376).
(6)
أحكام القرآن للجصاص (3/ 378).
الترتيب، وإنما هي لمطلق الجمع. فقوله تعالى:{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) صار الجميع كأنه ذكر معا، لا تقدم لبعضها على بعض، فلما دخل عليها الاستثناء لم يكن رجوع الاستثناء إلى بعضها أولى من بعض؛ إذ لم يكن لبعضها على بعض تقدم في المعنى البتة، فوجب رجوعه إلى الكل (2) وهذا الاستثناء موجود في كتاب الله في أكثر من آية.
قال ابن العربي: " وقال أبو حنيفة: إن الاستثناء يرجع إلى أقرب مذكور. والصحيح رجوعه إلى الجميع لغة، وشريعة، ألا ترى قوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3){إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) وهذه الآية أختها ونظيرها في المقصود (5)
(1) سورة النور الآية 4
(2)
التفسير الكبير للفخر الرازي (23/ 162).
(3)
سورة المائدة الآية 33
(4)
سورة المائدة الآية 34
(5)
أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1339، 1340).
وقال الشوكاني: وقول الجمهور هو الحق، لأن تخصص التقييد بالجملة الأخيرة دون ما قبلها، مع كون الكلام واحدا في واقعة شرعية من متكلم واحد، خلاف ما تقتضيه لغة العرب، وأولوية الجملة الأخيرة بالقيد المتصل بها، أظهر من تقييده ما قبلها، ولهذا كان مجمعا عليه، وكونه أظهر لا ينافي كونه فيما قبلها ظاهرا (1).
2 -
الإجابة عن المناقشة الثانية:
أ- أن الجمل الثلاث. بمجموعهن جزاء الشرط، فكأنه قيل: من قذف المحصنات فاجلدوهم وردوا شهادتهم وفسقوهم، أي فاجمعوا لهم الجلد والرد والفسق، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين، ولا مردودين ولا مفسقين (2).
ب- أن الجلد ورد الشهادة حكمان، والفسق تسمية، وعود الاستثناء بالتوبة إلى الحكم أولى من عوده إلى الاسم، لأن التوبة تغير الأحكام ولا تغير الأسماء (3).
ج- أن الجلد ورد الشهادة حكمان والفسق علة، والاستثناء يرجع إلى الحكم دون العلة (4)
(1) فتح القدير للشوكاني (4/ 9).
(2)
التفسير الكبير للفخر الرازي (23/ 162).
(3)
الحاوي للماوردي (17/ 27).
(4)
الحاوي للماوردي (17/ 26).
د- أن القول بأن الواو للاستقبال لا للعطف، وأن المعنى انقطع عند قوله تعالى:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (1) وأن قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2){إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (3) مستأنف، فيكون الاستثناء من الفسق خاصة دون الشهادة، يجعل الآية لم تأت بمزيد فائدة؛ لأنه معلوم أن التوبة تزيل الفسق بغير هذه الآية، فلا يكون رده إلى الفسق مفيدا، ورده إلى الشهادة يفيد جوازها بالتوبة، إذ يجوز أن تكون الشهادة مردودة مع وجود التوبة، فأما بقاء سمة الفسق مع وجود التوبة فغير جائز في سمع ولا عقل؛ لأن سمة الفسق ذم وعقوبة، وغير جائز أن يستحق التائب الذم، وليس كذلك بطلان الشهادة، فالأعمى والعبد غير جائزي الشهادة، لا على وجه الذم والتعنيف، فكان رجوع الاستثناء إلى الشهادة أولى من رجوعه إلى الفسق؛ لإثبات فائدة الآية (4).
الإجابة عن المناقشة الثالثة:
أ- أن الاستثناء في اللغة إذا تعقب جملا معطوفا بعضها على بعض، عاد إلى جميعها ولم تختص ببعضها، كقولهم: زينب طالق وسالم حر إن شاء الله، يعود الاستثناء إليهما، ولا يختص بأقربهما، فلا تطلق زينب كما لم يعتق سالم (5) ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل، فالاستثناء في الآية لم يعد إلى الجلد، لدليل خصه وهو أنه حق آدمي،
(1) سورة النور الآية 4
(2)
سورة النور الآية 4
(3)
سورة النور الآية 5
(4)
أحكام القرآن للجصاص (3/ 277)، وإعلام الموقعين (1/ 124 - 125).
(5)
الحاوي للماوردي (17/ 26)، والمغني (14/ 191).
فبقي ما عداه على حكم أصله (1).
ب- أن الفسق علة في رد الشهادة، وارتفاع العلة موجب لرفع حكمها، وليس الفسق علة في وجوب الحد، فلذلك ارتفع رد الشهادة، ولم يرتفع وجوب الحد (2).
ج- أن ترك العمل به في حق البعض، لا يوجب ترك العمل به في الباقي (3).
2 -
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} (4).
وجه الاستدلال: دلت الآية على أن التوبة توجب القبول والعفو، ومن قبلت توبته وعفي عن سيئته، فهو مقبول الشهادة (5).
ولذلك قال الشعبي (ت 104هـ): " يقبل الله توبته، ولا تقبلوا شهادته "(6).
3 -
قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (7) وقوله تعالى:
(1) الحاوي للماوردي (17/ 26).
(2)
الحاوي للماوردي (17/ 26).
(3)
التفسير الكبير للرازي (23/ 162).
(4)
سورة الشورى الآية 25
(5)
الحاوي للماوردي (17/ 27).
(6)
المصنف لعبد الرزاق (8/ 363)، والسنن الكبرى للبيهقي (10/ 153).
(7)
سورة الطلاق الآية 2
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (1).
وجه الاستدلال: دلت الآيتان بعمومهما على قبول شهادة القاذف إذا تاب؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نشهد العدل من رجالنا، والتائب من القذف عدل من رجالنا، فيدخل في عموم الآيتين.
4 -
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (2).
وجه الاستدلال: دلت الآية على قبول شهادة التائب من القذف؛ لأن التائب يحبه الله، ومن أحبه الله فهو عدل (3)، والعدل مقبول الشهادة.
ثانيا: السنة:
استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه من السنة بقوله عليه الصلاة والسلام: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (4)» .
وجه الاستدلال بالحديث:
دل هذا الحديث بعمومه على قبول شهادة القاذف إذا تاب؛ لأن
(1) سورة البقرة الآية 282
(2)
سورة البقرة الآية 222
(3)
الذخيرة للقرافي (10/ 217).
(4)
السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الشهادات، باب شهادة القاذف (10/ 154) وقال عنه البيهقي: روي من أوجه ضعيفة بهذا اللفظ.
الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ومن لا ذنب له مقبول الشهادة، فكذلك التائب من القذف يجب أن يكون مقبول الشهادة.
قال ابن القيم: " قالوا: ولا عهد لنا في الشريعة بذنب واحد أصلا يتاب منه، ويبقى أثره المترتب عليه من رد الشهادة، وهل هذا إلا خلاف المعهود منها، وخلاف قوله صلى الله عليه وسلم:«التائب من الذنب كمن لا ذنب له (1)» وعند هذا يقال: توبته من القذف تنزل منزلة من لم يقذف، فيجب قبول شهادته (2) ونوقش: بأنه حديث ضعيف، والضعيف لا يحتج به (3).
ثالثا: استدلوا بالمعقول بما يلي:
1 -
أن الموجب لرد شهادة القاذف، إما أن يكون نفس القذف، أو إقامة الحد، أو سمة الفسق. فأما القذف فلا يكون موجبا لرد الشهادة؛ لأنه خبر يحتمل الصدق والكذب، فباعتبار الصدق لا يكون موجبا لرد الشهادة، وكذلك باعتبار الكذب، فلا تأثير للكذب في رد الشهادة على التأبيد. ولا يجوز أن يكون إقامة الحد موجبا لرد الشهادة؛ لأنه من فعل الغير، ولأن حد القذف كغيره من الحدود، وإقامة سائر
(1) السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الشهادات، باب شهادة القاذف (10/ 154) وقال عنه البيهقي: روي من أوجه ضعيفة بهذا اللفظ.
(2)
إعلام الموقعين (1/ 126).
(3)
السنن الكبرى للبيهقي (10/ 154).
الحدود لا توجب رد الشهادة على التأبيد، ولأن الحد يقام من وجه تطهيرا للمحدود فلا يصلح أن يكون سببا لرد الشهادة على التأبيد، فإذا بطل الوجهان صح أن الموجب لرد الشهادة سمة الفسق، وقد ارتفع بالتوبة، بدليل قبول خبره في الديانات (1)، فتقبل شهادته لزوال العلة الموجبة لردها (2).
2 -
أن القذف افتراء من القاذف على عبد من عباد الله، فلا يكون أعظم من الافتراء على الله تعالى، وهو الكفر، وذلك لا يوجب رد الشهادة على التأبيد، فإن الكافر إذا أسلم تقبل شهادته، فكذلك ما دونه وهو القذف لا يوجب رد الشهادة على التأبيد، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته من باب أولى (3).
ونوقش هذا الاستدلال:
بأن عقوبات الدنيا غير موضوعة على مقادير الإجرام، فإن القاذف بالكفر لا يجب عليه الحد، والقاذف بالزنا يجب عليه الحد، فغلظ أمر القذف من هذا الوجه بما لم يغلظ به أمر الكفر في أحكام الدنيا، وإن كانت عقوبة الكفر في الآخرة أعظم (4).
(1) المبسوط للسرخسي (16/ 125، 126).
(2)
إعلام الموقعين (1/ 125).
(3)
المبسوط للسرخسي (16/ 126).
(4)
أحكام القرآن للجصاص (3/ 279).
3 -
أن الشهادة إذا ردت بسبب الفسق قبلت بزواله، والقاذف ردت شهادته بسبب الفسق؛ لأن القذف كبيرة من الكبائر، يفسق من ارتكبها، وبالتوبة زال عنه الفسق، فيجب أن تقبل شهادته قياسا على جميع ما يفسق به (1).
قال ابن القيم: (قالوا: وأعظم موانع الشهادة الكفر، والسحر، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، والزنا، ولو تاب من هذه الأشياء قبلت شهادته اتفاقا، فالتائب من القذف أولى بالقبول)(2).
4 -
أن القذف نسبة الغير إلى الزنا، فلا يكون أقوى من مباشرة فعل الزنا، وذلك لا يوجب رد الشهادة على التأبيد، فإن الزاني إذا تاب قبلت شهادته، فكذلك ما دونه وهو القذف لا يوجب رد الشهادة على التأبيد، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته (3).
5 -
أن شهادة القاذف إذا تاب قبل الحد مقبولة بالإجماع (4)، ومن قبلت شهادته بالتوبة قبل الحد، قبلت بعد الحد؛ قياسا على سائر الحدود (5).
6 -
أن القاذف محدود في قذف، فوجب أن تقبل شهادته بعد
(1) الحاوي للماوردي (17/ 27) بتصرف.
(2)
إعلام الموقعين (1/ 125).
(3)
المبسوط للسرخسي (16/ 126)، والحاوي للماوردي (17/ 27).
(4)
بدائع الصنائع (6/ 271)، وإعلام الموقعين (1/ 122).
(5)
الحاوي للماوردي (17/ 27).
التوبة، قياسا على الذمي إذا حد في قذف ثم أسلم (1).
ونوقش هذا الاستدلال: بأن الذمي إذا أقيم عليه حد القذف سقطت شهادته وتم بها حده؛ لأنه كان من أهل الشهادة، ثم بالإسلام استفاد شهادة لم تكن موجودة عند إقامة الحد، وهذه الشهادة لم تصر مردودة، وبها فارق المسلم المحدود في القذف، فإنه لم يستفد عدالة لم تكن موجودة من قبل، وعدالته مجروحة بإقامة الحد عليه فلا تقبل شهادته بحال (2).
7 -
أن القاذف لما تاب عاد إلى العدالة في قبول روايته، فوجب أن يعود إليها في قبول شهادته (3).
ونوقش هذا الاستدلال: بأن هناك فرقا بين الشهادة والرواية، فالشهادة يطلب فيها مزيد تثبت، ويشترط فيها العدد والحرية وغير ذلك، بخلاف الرواية (4).
إجماع الصحابة:
استدل أصحاب القول الثالث بإجماع الصحابة رضي الله عنهم وهو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما جلد الذين شهدوا على
(1) الحاوي للماوردي (17/ 27).
(2)
المبسوط للسرخسي (16/ 128)، وأحكام القرآن للجصاص (3/ 278).
(3)
الحاوي للماوردي (17/ 27).
(4)
فتح الباري (5/ 256).
المغيرة رضي الله عنه بالزنا قال لهم: توبوا تقبل شهادتكم، فتاب منهم اثنان، فقبل شهادتهما، وأبى أبو بكرة رضي الله عنه فلم يقبل شهادته.
وهو بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم، فإن القضية شاعت وانتشرت في العراق، والحجاز، وغيرها من الأقطار، وهم في ذلك الوقت كثير، ولم يخالف منهم أحد فكان إجماعا.
قال الماوردي: " ويدل عليه إجماع الصحابة، وهو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما جلد أبا بكرة رضي الله عنه في شهادته على المغيرة رضي الله عنه بالزنا، قال له: تب أقبل شهادتك، فقال: لا أتوب، وكان هذا القول منه بمشهد من الصحابة؛ لأنها قصة اجتمعوا لها فما أنكر قوله أحد منهم، فدل على إجماعهم "(1).
وقال ابن قدامة: " ولنا. . . إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه يروى عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول لأبي بكرة رضي الله عنه: تب أقبل شهادتك، ولم ينكر ذلك منكر، فكان إجماعا "(2).
(1) الحاوي للماوردي (17/ 27).
(2)
المغني لابن قدامة (14/ 189).
وقال ابن القيم: " وقد قبل شهادته- يعني القاذف- بعد التوبة عمر وابن عباس رضي الله عنهما، ولا يعلم لهما في الصحابة مخالف "(1).
ونوقش هذا الاستدلال: بأنه قد ورد الخلاف عن بعض الصحابة، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:"شهادة القاذف لا تجوز وإن تاب"، (2) وبما أن الخلاف ورد عن بعض الصحابة فلا إجماع.
وأجيب: بأن هذا الأثر لم يثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند يعتمد عليه (3)، والأظهر عنه رضي الله عنه قبول شهادة القاذف إذا تاب (4) وبما أنه لم يثبت فلا يقدح بصحة الإجماع.
الترجيح: على ضوء ما سبق، من ذكر أقوال العلماء، وأدلتهم، وما ورد عليها من مناقشات، يتبين رجحان القول الثالث، وهو أن شهادة القاذف المحدود تقبل إذا تاب، وذلك لقوة أدلتهم، فقد سلم بعضها من ورود المناقشات عليها، وما ورد على البعض الآخر، فقد أجيب عنه بما يدفعه.
(1) إعلام الموقعين (1/ 125).
(2)
سبق تخريجه ص (290) من هذا البحث
(3)
المحلى لابن حزم (9/ 431)، وفتح الباري (5/ 257).
(4)
المحلى لابن حزم (9/ 431).