الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتفكر في صلاته وتسبيحه منذ نعومة أظفاره) (1).
وما يميز المسلم هو استقلاله بتأمله وتفكره، فليس لأحد أن يقوم بالوصاية على المسلم في تفكره، فهو يملك ذلك متى أراد ويربى على ذلك من صغره، فقد أودع الله فيه آلات التفكر التي يستطيع من خلالها أن يطلق بصره وسمعه وقلبه في آيات الله ومخلوقاته، بخلاف أهل النحل والمذاهب الوضعية، حيث لا يملك معتنقوها حرية التأمل والتفكر، فالتأمل في البوذية مثلا يهدف إلى معرفة الحقائق، ويؤكد البوذيون ضرورة اتخاذ مرشد في هذا الطريق، ويقسمون التأمل إلى درجات معقدة لا يحصل المرء منها إلا اضطرابا وسوء فهم للحياة وما خلق لأجله (2).
(1) د. مالك البدري، التفكر من المشاهدة إلى الشهود، ص 59.
(2)
انظر: الموسوعة العربية العالمية، ج 5، ص 232.
المطلب الثاني: أهمية التفكر وحكمه:
التفكر من العبادات القلبية الجليلة (وهو من أفضل أعمال القلب وأنفعها له)(1).
كما أن التفكر أصل الطاعات ومبدؤها، قال ابن القيم رحمه الله: (فأصل كل طاعة إنما هي الفكر، وكذلك أصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكرة، فإن الشيطان يصادف أرض القلب خالية فارغة، فيبذر فيها حب الأفكار الردية، فيتولد منها الإرادات والعزم
(1) ابن القيم: مفتاح دار السعادة جـ 1، ص 183.
فيتولد منها العمل، فإذا صادف أرض القلب مشغولة ببذر الأفكار النافعة فيما خلق له وفيما أمر به وفيما هيء له وأعد له من النعيم المقيم أو العذاب الأليم لم يجد لبذره موضعا) (1) والتفكر أيضا يكشف الفرق بين الوهم والخيال، المانع لأكثر النفوس من انتهاز الفرص بعد إمكانها، وبين السبب المانع حقيقة، فيشتغل به دون الأول، فما قطع العبد عن كماله وفلاحه وسعادته العاجلة والآجلة قاطع أعظم من الوهم الغالب على النفس والخيال الذي هو مركبها، بل بحرها الذي لا تنفك سابحة فيه، وإنما يقطع هذا العارض بفكرة صحيحة، وعزم صادق، يميز به بين الوهم والحقيقة (2).
ولذلك فالتفكر سبيل المرء إلى العمل، وإدراك حقائق الأشياء، بل إن حياة المرء وسعادته تبع لأفكاره، قال السعدي رحمه الله:(واعلم أن حياتك تبع لأفكارك، فإن كانت أفكارا فيما يعود عليك نفعه في دين أو دنيا، فحياتك طيبة سعيدة وإلا فالأمر بالعكس)(3) ولذلك فإن إعمال الفكر فيما ينفع ويقرب إلى الله من أهم المطالب الدينية.
ولقد حثت آيات عديدة في القرآن العظيم على التفكر، ومدح الله عز وجل المتصفين بهذه الصفة في كتابه، في مواضع عديدة ختمت
(1) ابن القيم: مفتاح دار السعادة جـ 1، ص 183.
(2)
انظر: ابن القيم: مفتاح دار السعادة جـ 1، ص 181.
(3)
عبد الرحمن السعدي، الوسائل المفيدة للحياة السعيدة، ص 31.
بقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1).
قال النووي رحمه الله: (فيه أنه يستحب قراءتها عند الاستيقاظ في الليل مع النظر إلى السماء لما في ذلك من عظيم التدبر، وإذا تكرر نومه واستيقاظه وخروجه استحب تكريره قراءة هذه الآيات، كما ذكر في الحديث والله أعلم)(5) وقيل للأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن؟ قال: (يقرؤهن وهو يعقلهن)(6).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (النظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه التفكر والاعتبار مأمور به مندوب إليه)(7).
(1) سورة الرعد الآية 3
(2)
رواه مسلم كتاب الطهارة، باب السواك، ج2، ص 148، رقم الحديث 256. والآيات من سورة آل عمران: 190، 191.
(3)
سورة آل عمران الآية 190 (2){إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}
(4)
سورة آل عمران الآية 191 (3){الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
(5)
صحيح مسلم بشرح النووي، ج2، ص 148
(6)
انظر: ابن كثير تفسير القرآن العظيم، ج1، ص 478
(7)
ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج15، ص 343
فالتفكر في مخلوقات الله أمر مندوب إليه، قال السعدي رحمه الله:(التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين)(1) ولكن ليس كل أحد يعتبر ويتفكر، وليس كل من تفكر أدرك المعنى المقصود (2).
والتفكر في آلاء الله والسير المأمور به في القرآن الكريم هو: (سير القلوب والأبدان الذي يتولد عنه الاعتبار، وأما مجرد نظر العين وسماع الأذن، وسير البدن الخالي من التفكر والاعتبار فغير مفيد، ولا موصل إلى المطلوب)(3).
وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته وآياته الدالة على ربوبيته وألوهيته، وما له من صفات الكمال والجلال، فقال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (4){وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (5) ومدح عز وجل عباده الذين يذكرونه قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، قائلين:{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (6)
والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أعظم عباد الله تفكرا في آيات الله ومخلوقاته، ونبينا صلى الله عليه وسلم أكملهم في ذلك
(1) السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، سورة آل عمران، الآية 191
(2)
السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، سورة الأنعام، الآية 95
(3)
السعدي، تفسير الكريم الرحمن، تفسير سورة الأنعام، الآية 11، وسورة الحج، الآية 46
(4)
سورة يوسف الآية 105
(5)
سورة يوسف الآية 106
(6)
سورة آل عمران الآية 191
حيث كان يتفكر في آيات الله ومخلوقاته، ويدعو إلى ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:«تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله (1)» .
وكان الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من التابعين يمتثلون هذا، وينظرون في ملكوت الله نظر تفكر واعتبار، وقد وردت الآثار الكثيرة عن السلف في فضل التفكر، فقد سئلت أم الدرداء رضي الله عنها عن أفضل عبادة أبي الدرداء رضي الله عنه قالت (التفكر والاعتبار).
وقال الحسن رحمه الله: (تفكر ساعة خير من قيام ليلة)(2) وقال أيضا (أفضل العمل الورع والتفكر)(3) وقال عامر بن قيس رحمه الله: سمعت غير واحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر، وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: إن الفكرة نور يدخل قلبك، وربما تمثل هذا البيت:
إذا المرء كانت له فكرة
…
ففي كل شيء له عبرة
(1) رواه أبو نعيم في الحلية ج6، ص 67، وأورده البيهقي في الشعب ج1، ص 136، وأبو الشيخ الأصبهاني في كتاب العظمة، ج1 ص210 وذكره الألباني في صحيح الجامع ج1، ص 572 برقم 2976، " وقال عنه:(حسن).
(2)
كتاب الزهد للإمام أحمد ص202
(3)
البستي، روضة العقلاء، ونزهة الفضلاء ص 30
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: (إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة)، وقال الحسن رحمه الله:(التفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك)(1).
وقال وهب بن منبه رحمه الله: (ما طالت فكرة امرئ قط إلا فهم، ولا فهم امرؤ قط إلا علم، ولا علم امرؤ قط إلا عمل)، وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله:(الكلام بذكر الله عز وجل حسن، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة)(2).
وكان للسلف أحوال في التفكر، فمن ذلك ما جاء عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال لرجل من جلسائه:(لقد أرقت الليلة تفكرا، قال: فيم يا أمير المؤمنين؟ قال: في القبر وساكنه)(3).
وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير رحمه الله: (إني لأستلقي من الليل على فراشي فأتدبر القرآن، وأعرض عملي على عمل أهل الجنة، فإذا أعمالهم شديدة، {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (4){يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (5){أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} (6) فلا أراني فيهم، فأعرض نفسي على هذه الآية {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (7).
(1) انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء ج8، ص109، وأبا الشيخ الأصبهاني، كتاب العظمة، ج1، ص228
(2)
انظر أبا نعيم: حلية الأولياء ج5، ص314، وانظر: ابن كثير تفسير القرآن العظيم ج1، ص474
(3)
انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء، جـ5، ص 268
(4)
سورة الذاريات الآية 17
(5)
سورة الفرقان الآية 64
(6)
سورة الزمر الآية 9
(7)
سورة المدثر الآية 42
فأرى القوم مكذبين، وأمر بهذه الآية {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} (1) فأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخوتاه منهم) (2).
وقال يوسف بن أسباط رحمه الله: قال لي سفيان الثوري رحمه الله: (ناولني المطهرة لأتوضأ، فناولته إياها، فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده، ونمت، فاستيقظت وقد طلع الفجر فنظرت إليه فإذا المطهرة في يده على حالها فقلت: يا أبا عبد الله قد طلع الفجر، قال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة إلى هذه الساعة)(3) وكان شريح القاضي رحمه الله يقول لأصحابه: (اخرجوا بنا إلى السوق فننظر إلى الإبل كيف خلقت)(4).
والتفكر إن لم يثمر عملا لم يحصل منه المرء شيئا، كما أن التفكر لا يعني الصمت والعزلة عن الناس، فكم صامت لا يفكر، بل تتقلب به الوساوس والخيالات.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (ركعتان مقتصدتان في تفكر، خير من قيام ليلة والقلب ساه)(5) وعلى هذا
(1) سورة التوبة الآية 102
(2)
أبا نعيم، حلية الأولياء، ج2، ص198.
(3)
أبا نعيم، حلية الأولياء، ج 7، ص 53
(4)
انظر: أبا نعيم حلية الأولياء، ج4، ص133، وانظر: السيوطي، الدر المنثور، ج2، ص 195
(5)
انظر: الأصبهاني، كتاب العظمة، ج1، ص302 وابن كثير، تفسير القرآن العظيم ج1 ص474
يحمل قول الحسن رحمه الله المتقدم، فإن ساعة تفكر خير من قيام ليلة بلا تفكر، أما إذا كان قيام الليل مع التفكر فإنه أفضل بلا شك.
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: (ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله في رجل أكل فشبع وأكثر الصلاة والصيام، ورجل أقل الأكل فقلت نوافله، وكان أكثر فكرة أيهما أفضل؟ فذكر ما جاء في الفكر: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، قال: فرأيت هذا عنده أكثر يعني الفكر، وهذا يدل على تفضيل قراءة التفكر على السرعة وهو اختيار الشيخ تقي الدين، وهو المنصوص صريحا عن الصحابة والتابعين)(1).
قال أحمد بن أبي الحواري رحمه الله: (قلت لأبي صفوان أيما أحب إليك، أن يجوع الرجل فيجلس فيتفكر، أو يأكل فيقوم فيصلي؟ قال: يأكل يقوم فيصلي، ويتفكر في صلاته هو أحب إلي، فحدثت به أبا سليمان - يعني: الداراني - فقال: صدق، الفكرة في الصلاة أفضل من الفكرة في غير الصلاة، الفكرة في الصلاة عملان، وعملان أفضل من عمل)(2).
قال ابن العربي رحمه الله: (وأما طريقة من يبقى يوما وليلة أو شهرا متفكرا لا يفتر فطريقة بعيدة عن الصواب غير لائقة بالشرع)(3).
(1) انظر: الأصبهاني، كتاب العظمة ج1 ص229، وانظر: ابن رجب، القواعد، ج1، ص22
(2)
انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء ج8، ص 300
(3)
انظر: ابن العربي، أحكام القرآن ج2، ص 354
إن دين الله لا يؤخذ بالرأي أو الهوى، وما ضل من ضل من الطوائف والفرق إلا عندما ابتعدوا عن الكتاب والسنة، وابتدعوا من عند أنفسهم عبادات لم يأذن بها الله ورسوله.
ولذلك فإن التفكر الذي ينتفع به صاحبه هو الذي يبعث على التأسي بالكتاب والسنة، قال بكر بن خنيس: (قلت لسعيد بن المسيب رحمه الله وقد رأيت قوما يصلون ويتعبدون: يا أبا محمد ألا تتعبد مع هؤلاء القوم؟ فقال لي: يا ابن أخي إنها ليست بعبادة.
قلت له: فما التعبد يا أبا محمد؟ قال: التفكر في أمر الله، والورع عن محارم الله، وأداء فرائض الله تعالى) (1).
وقول هذا التابعي الجليل ليس تقليلا من شأن الصلاة، فهو الذي يقول عن نفسه: ما فاتتني الصلاة في جماعة أربعين سنة، ويقول: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد، وحج أربعين حجة (2).
ولكنه يعني التوازن في حياة المسلم، بين التفكر وأداء الفرائض ومعاملة الخلق. وجاء في رواية أخرى عن صالح بن محمد بن زائدة أنه رأى فتية يروحون بالهاجرة إلى المسجد، ولا يزالون يصلون حتى يصلى العصر، فقال لسعيد: هذه هي العبادة لو نقوى على ما يقوى
(1) انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء ج1، ص 162
(2)
انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء ج2، ص162، 164