الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد وفق الشنقيطي بين ما ذهب إليه جمهور العلماء، وبين ما روي عن ابن عباس، وأسامة بن زيد وغيرهما، بأن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«لا ربا إلا في النسيئة (1)» ، إنما هو جواز الفضل في جنسين مختلفين، واختار هذا الوجه البيهقي في السنن الكبرى.
وقال ابن حجر في فتح الباري: وقال الطبري: معنى حديث أسامة - لا ربا إلا في النسيئة - إذا اختلفت أنواع البيع والفضل فيه يدا بيد ربا، جمعا بينه وبين حديث أبي سعيد الخدري (2).
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596)، سنن النسائي البيوع (4580)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 209)، سنن الدارمي البيوع (2580).
(2)
فتح الباري 4/ 382.
4 -
صرع الجن للإنسان:
ذهب عامة المعتزلة وأبو بكر الرازي الجصاص من الحنفية، وفخر الدين الرازي، والقفال من الشافعية، والقاضي أبو يعلى من الحنابلة، إلى إنكار صرع الجن للإنسان، وقالوا: إن الجن مخلوق ليس له سلطان على الإنس، بل هو عالم مستقل بذاته (1)، وفسروا قوله تعالى:{لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (2).
(1) وافقهم في ذلك محمد رشيد رضا تفسير المنار، ومحمود شلتوت وبعض المعاصرين.
(2)
سورة البقرة الآية 275
بأن هذا ورد وفق ما كان يتداوله العرب في الجاهلية.
ومما قاله الزمخشري في تفسير الآية: وتخبط الشيطان من زعمات العرب، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، والخبط الضرب على غير استواء، فورد على ما كانوا يعتقدون، والمس الجنون، ورجل ممسوس، وهذا أيضا من زعماتهم، وأن الجني يمسه فيختلط عقله، وكذلك جن الرجل معناه ضربته الجن، وفي رؤيتهم للجن قصص وأخبار وعجائب (1).
وقالوا إن ما جاء في الآية، إنما كان وفقا لما يتداوله العرب، وليس بتقرير وتأكيد لهذه الدعوى، ويشبه هذا ما جاء في قوله تعالى:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (2).
فرؤوس الشياطين لم يشاهدها الناس، ولكنهم يتصورونها بصورة بشعة منفرة.
وقالوا: إن الروايات الواردة في صرع الجن للإنسان لم يصح منها شيء، وهذه المسألة من مسائل العقيدة، ولا يصح الجزم فيها بناء على الأدلة الظنية.
وقالوا أيضا: إن هذه الآية شبيهة بقوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (3).
(1) تفسير الكشاف 1/ 399.
(2)
سورة الصافات الآية 65
(3)
سورة ص الآية 41
فالراجح عند أهل العلم أن مس الشيطان لأيوب عليه السلام إنما كان بطريق الوسوسة. ولم يكن ذلك المس من باب صرع الجن (1).
ومما قاله القاضي أبو السعود في تفسيره: " وقيام المصروع وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان، فيصرع ويخبط، والخبط: الضرب بغير استواء، كخبط العشواء، وفي قوله: (من المس) قال: أي الجنون، وهذا أيضا من زعماتهم، أن الجني يمسه فيختلط عقله، فلذلك يقال: جن الرجل " وفعل الرازي الجصاص في تفسيره مثل ذلك (2).
وهناك كتيب صغير عنوانه: (بيني وبين الشيخ حامد الفقي) حمل فيه مؤلفه أحمد شاكر بشدة على حامد الفقي؛ لأنه نقل أقوال أهل العلم في عدم صحة صرع الجن للإنسان، ونقل قول الشافعي:
(1) تفسير الألوسي 23/ 206.
(2)
أحكام القرآن للجصاص 1/ 47، 48.
" من ادعى أنه يرى الجن، ويستعين بهم، فإنا نرد شهادته، ونتهمه بالكذب "(1).
وذكر العلماء أن من ادعت الحمل من الجن، وظهر حملها، فلا يصدق قولها، ويقام الحد عليها.
وقد مال صاحب المنار إلى هذا المذهب، ونقل عن ابن عطية قوله في تفسير الآية: إن المراد من الآية تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع، كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة: قد جن. ثم قال: وهذا هو المتبادر، ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه، وقالوا إن من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود.
ثم قال: والمتبادر إلى جميع الأفهام ما قاله ابن عطية؛ لأنه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الأعمال، ولا قرينة تدل على أن المراد به البعث، وهذه الروايات لا يسلم منها شيء من قول في سنده، وهي لم تنزل مع القرآن، ولا جاء المرفوع منها مفسرا للآية (2).
ثم ختم كلامه بأنه قد يكون المراد من الجن الأجسام الحية الخفية، التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة، وتسمى الميكروبات (3).
(1) بيني وبين الشيخ حامد الفقي / أحمد شاكر.
(2)
تفسير المنار 3/ 80.
(3)
تفسير المنار 3/ 81.
وأقول إن ما نقله محمد رشيد رضا عن ابن عطية، حتى وإن سلمنا بأنه هو الراجح، فإنه لا يتعارض مع رأي جمهور العلماء الذين ذكروا بأن هذا القيام يكون القيامة؛ لأنه لا يمنع أن يكون حال هؤلاء المرابين في تخبطهم في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا على هذا الحال، وعند قيامهم يوم القيامة كذلك، يكونون على نفس تلك الحال والصفة.
وكذلك ما نقله عن ابن عطية، فإنه لا يتعارض مع القائلين بصرع الجن للإنسان.
أما قوله: بأن المراد بالجن الميكروب، فهذا قول واضح التهافت، ومن المآخذ المعدودة على صاحب تفسير المنار، والتي تأثر فيها بصاحبه محمد عبده.
أما جمهور العلماء، فقد ذهبوا إلى إمكانية صرع الجن للإنسان، والتلبس به، والتكلم على لسانه.
ومما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة (1):
" فمن كذب. بما هو موجود من الجن والشياطين والسحر، وما يأتون به على اختلاف أنواعه، كدعاء الكواكب، وتخريج القوى الفعالة السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية، وما ينزل من الشياطين
(1) مجموع الفتاوى 24/ 280.
على كل أفاك أثيم، فالشياطين التي تنزل عليهم، ويسمونها روحانية الكواكب، وأنكروا دخول الجن في أبدان الإنس، وحضورها بما يستحضرون به من العزائم والأقسام، وأمثال ذلك كما هو موجود، فقد كذب بما لم يحط به علما ".
وقال في موضع آخر: " إن من الناس من رآهم، وفيهم من رأى من رآهم، وثبت ذلك عنده بالخبر واليقين، ومن الناس من كلمهم وكلموه، ومن الناس من يأمرهم وينهاهم ويتصرف فيهم، وهذا يكون للصالحين وغير الصالحين، ولو ذكرت ما جرى لي ولأصحابي معهم لطال الخطاب، وكذلك ما جرى لغيرنا، لكن الاعتماد على الأجوبة العلمية يكون على ما يشترك الناس في علمه، ولا يكون بما يختص بعلمه المجيب، إلا أن يكون الجواب لمن يصدقه فيما يخبر به "(1).
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن قوما يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي، فقال: يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه (2).
وقال ابن القيم في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد:
(1) مجموع الفتاوى 4/ 232.
(2)
مجموع الفتاوى 24/ 276 لقط المرجان للسيوطي ص 134.
الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة.
والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه (1).
وقد كتب الشيخ عبد العزيز بن باز رسالتين الأولى: في مسألة دخول الجني في بدن الإنسان، وجواز مخاطبة الجن للإنس، والثانية: في العلاج عن طريق السحر والكهانة (2).
وقد فرق الشيخ أبو بكر الجزائري بين الشيطان الذي ليس له سلطان على الإنسان إلا بالوسوسة، وبين الجني الذي يصرع الإنسان، ويتلبس به فيصرعه، وينطق الجني على لسانه (3).
وقد استدل الجمهور بأدلة عديدة من الكتاب والسنة والآثار.
وقد تعقب القاسمي ما ذكره صاحب الكشاف في تفسيره، ونقل ما كتبه الإمام ناصر الدين أحمد بن المنير الإسكندري، فقال (4): معنى
(1) زاد المعاد 4/ 66.
(2)
رسالتان، عبد العزيز بن باز، دار السلام- الرياض ط 1 سنة 1411 هـ.
(3)
الدفاع عن الغزالي 23 - 33 (راسم للدعاية) ط 1 سنة 1410هـ.
(4)
كتاب الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال1/ 399 (مطبوع على هامش الكشاف).
قول الكشاف: من زعمات العرب، أي كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها، وهذا القول على الحقيقة من تخبط الشيطان بالقدرية، ومن زعماتهم المردودة بقواطع الشرع.
ثم قال: واعتقاد السلف، وأهل السنة، أن هذه أمور على حقائقها واقعة، كما أخبر الشرع عنها، وإنما القدرية خصماء العلانية، فلا جرم أنهم ينكرون كثيرا مما يزعمونه مخالفا لقواعدهم. ومن ذلك: السحر، وخبطة الشيطان، ومعظم أحوال الجن (1).
وصرح القرطبي بأن هذه الآية دليل على فساد من أنكر الصرع من جهة الجن (2).
وأقول: إن القضية ما زالت محل خلاف، ليس بين المسلمين فقط ولكنه حتى عند النصارى واليهود، وغيرهم من الأمم.
وقد قامت بعض الدراسات الميدانية في جامعة الملك سعود.
(1) تفسير القاسمي 3/ 701 ما بعدها.
(2)
تفسير القرطبي 3/ 355.