الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وضعف أدلة المخالفين لهم، فقد ورد عليها من الاعتراضات، والمناقشات، ما جعلها لا تقوى على معارضة أدلة القول الثالث. وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل عند مناقشة أدلة جميع الأقوال. والله أعلم بالصواب.
المسألة الثانية: شهادة القاذف قبل الحد والتوبة
اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف إذا شهد قبل إقامة الحد عليه وقبل التوبة على قولين:
القول الأول: أن شهادة القاذف مقبولة ما لم يحد. وهذا مذهب الحنفية (1)، والمالكية (2).
القول الثاني: أن شهادة القاذف قبل الحد مردودة ما لم يتب، فإذا تاب قبلت، وهذا مذهب الشافعية (3)، والحنابلة (4)، وقول الليث ابن سعد، وعبد الملك بن الماجشون، من المالكية (5).
(1) المبسوط للسرخسي (16/ 128) وبدائع الصنائع (6/ 271).
(2)
حاشية الدسوقي (4/ 173)، وكفاية الطالب الرباني (4/ 124) والاستذكار (24/ 44، 45).
(3)
الحاوي للماوردي (17/ 25).
(4)
كشاف القناع (6/ 425، 426).
(5)
الاستذكار (22/ 45).
الأدلة: أدلة القول الأول:
1 -
وجه الاستدلال: دلت الآية على جواز شهادة القاذف قبل إقامة الحد عليه؛ لأن (ثم) في قوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (2) للتراخي في حقيقة اللغة، فاقتضى ذلك أن القاذف متى أتى بأربعة شهداء متراخيا عن حال القذف أن يكون غير فاسق، وإنما يحكم بفسقه متراخيا عن حال القذف في حال العجز عن إقامة الشهود، فمن حكم بفسقه بنفس القذف، فقد خالف حكم الآية (3).
ويناقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن الآية تدل على أن شهادة القاذف ترد بشرطين:
الأول: القذف، والثاني: عدم إقامة الشهود، وهما متحققان في القاذف قبل إقامة الحد عليه.
فالأول: متحقق بنفس القذف، والثاني: متحقق حتى يأتي
(1) سورة النور الآية 4
(2)
سورة النور الآية 4
(3)
أحكام القرآن للجصاص (3/ 271، 272).
بالشهود؛ لأن القاذف قبل ذلك في حكم العاجز عن إقامة الشهود؛ لأن الأصل عدم الشهود، فيبقى على هذا الأصل ولا ينتقل عنه إلا بإقامة الشهود.
الوجه الثاني: أن الآية دلت على أن القذف يتعلق به ثلاثة أحكام: الجلد، والشهادة، والفسق، والجلد يتعلق بنفس القذف لا غير، فكذلك رد الشهادة؛ لأنها عقوبة للقاذف بسبب القذف كالجلد (1).
2 -
ما رواه الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا محدودا في فرية (2)»
وجه الاستدلال: دل الحديث على أن القاذف مقبول الشهادة حتى يحد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن المسلمين عدول بعضهم على بعض، ثم استثنى منهم المحدود في القذف، فدل ذلك على أن القاذف قبل الحد، باق على حكم الأصل وهو قبول الشهادة.
ونوقش: أن الحديث بهذا السند ضعيف، والضعيف لا يحتج به، وقد سبق الكلام عليه مفصلا (3)
(1) الحاوي للماودي (17/ 25) وإعلام الموقعين (1/ 128).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب البيوع والأقضية، باب من قال: لا تجوز شهادته إذا تاب (6/ 172).
(3)
انظر: ص (288) من هذا البحث.
3 -
ما ورد أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: "الآن يجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين".
وجه الاستدلال: دل هذا الأثر على أن شهادة القاذف لا تبطل قبل إقامة الحد عليه؛ لأن بطلان الشهادة علق على إقامة الحد، وإذا لم يوجد المعلق عليه، لم يوجد المعلق.
ونوقش: سبق مناقشة هذا الأثر (1).
4 -
أن رد شهادة القاذف من تمام حد القذف، وتكملته، فهو كالصفة، والتتممة للحد، فلا يتقدم عليه (2).
ونوقش: بأن رد الشهادة ليس من تمام الحد، فإن الحد تم باستيفاء عدده، وسبب الحد نفس القذف، ورد الشهادة حكم آخر غير الحد، أوجبه الفسق بالقذف، فالقذف أوجب ثبوت الفسق، الذي كان سببا في رد الشهادة وحصول الحد، وهما حكمان متغايران (3).
5 -
أن إقامة الحد على القاذف، ينقص حاله عند الناس، وتقل
(1) انظر: ص (285) من هذا البحث
(2)
المبسوط (16/ 126)، وإعلام الموقعين (1/ 128).
(3)
إعلام الموقعين (1/ 128).
حرمته فترد شهادته، وهو قبل إقامة الحد قائم الحرمة، غير منتهكها (1) فتقبل شهادته.
ويناقش هذا الدليل بما يلي:
أ - بأن دعوى قيام حرمة القاذف بعد القذف وقبل الحد غير مسلم بها، بل إن حرمة القاذف انتهكت وسقطت عدالته بسبب ارتكابه كبيرة من الكبائر، وهي القذف، فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف، أو بقيام البينة أو يتوب.
ب- أن القول بأن حال القاذف بعد القذف وقبل الحد أكمل من حاله بعد الحد، دعوى غير مسلم بها، بل إن حال القاذف قبل الحد أسوأ من حاله بعد الحد؛ لأن الحدود كفارات لأهلها (2)، فرد شهادته قبل الحد أولى من ردها بعد الحد؛ لأنه بالحد حصل له تكفير وتطهير. وفي ذلك يقول الإمام الشافعي:" هو قبل أن يحد شر منه بعد أن يحد، لأن الحدود كفارات لأهلها، فكيف تردونها في أحسن حالاته، وتقبلونها في شر حالاته "(3) ج - أن جلد القاذف تطهير وتكفير له؛ لقوله صلى الله عليه
(1) إعلام الموقعين (1/ 128).
(2)
الاستذكار (12/ 45)، والحاوي للماوردي (17/ 25).
(3)
الأم للشافعي (8/ 413).
وسلم: «. . . ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارة له. . . (1)» ، فلم يجز أن يكون تكفير ذنبه موجبا لتغليظ حكمه (2).
6 -
أن القاذف قبل الحد لم يحكم بكذبه، فتقبل شهادته، وبعد الحد يصير محكوما بكذبه، والمتهم بالكذب لا شهادة له، فالمحكوم عليه بالكذب أولى (3).
ونوقش: بأن القاذف محكوم عليه بالكذب قبل الحد إذا عجز عن الإتيان بالشهود، يقول الله تعالى:{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (4)، وهذا في حكم الشرع، وظاهر الأمر، لا في علم الله تعالى، فإن الله سبحانه وتعالى رتب الحدود على حكمه الذي شرع في الدنيا، لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه، فإنما يبنى على ذلك حكم الآخرة (5).
7 -
أن القاذف قبل الجلد على أصل عدالته، وربما أقام البينة بما قال، أو اعترف له مقذوفه، فلا وجه لإسقاط عدالته، ورد
(1) هذا جزء من حديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها (3/ 1333).
(2)
الحاوي للماودي (17/ 25).
(3)
المبسوط للسرخسي (16/ 128).
(4)
سورة النور الآية 13
(5)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 203).
شهادته قبل إقامة الحد عليه (1).
فحالة القاذف قبل الحد مترددة بين الكذب السالب للعدالة، وبن الصدق المصحح لها، فلا، يسقط يقين حاله. بمحتمل مقاله (2).
فلهذا تقبل شهادته حتى يقام عليه الحد؛ لأنه إذا أقيم عليه الحد تبين كذبه؛ لعجزه عن إثبات ما قال.
ونوقش: بأن القاذف يفسق وتسقط عدالته بالقذف؛ لأن القذف من الكبائر، فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف بما قذف به، أو بقيام البينة (3).
أدلة القول الثاني:
أولا: أدلة القول الثاني على رد شهادة القاذف قبل الحد والتوبة:
1 -
(1) الاستذكار لابن عبد البر (22/ 44، 45).
(2)
أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1340).
(3)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 182).
(4)
سورة النور الآية 4
وجه الاستدلال: دلت هذه الآية على أن القذف يتعلق به ثلاثة أحكام " وهي: الجلد ثمانون جلدة، ورد الشهادة، والفسق المسقط للعدالة. وأن الجلد متعلق بالقذف لا غير، وإذا تعلق الجلد بالقذف، وجب أن يكون ما ضم إليه وقرن به وهو رد الشهادة والتفسيق متعلقا به كالجلد (1).
ونوقش:
بأن شهادة القاذف لو كانت تبطل بنفس القذف، لما كان تركه إقامة البينة على الزنا مبطلا لشهادته؛ لأنها قد بطلت قبل ذلك (2).
وأجيب:
بأن بطلان شهادة القاذف معلق بشرطين لا بد من تحققهما جميعا
أحدهما: الرمي بالزنا
والآخر: عدم الإتيان بالشهود الذين يحقق هم قذفه
وهذان الشرطان متحققان بعد القذف حتى يأتي بأربعة شهداء.
2 -
أن رد شهادة القاذف يتعلق بفعله لا بفعل غيره، والقذف من فعله، والجلد من فعل غيره، فيجب أن يتعلق رد الشهادة بالقذف لا بالجلد (3).
(1) الحاوي للماوردي (17/ 25).
(2)
أحكام القرآن للجصاص (3/ 272).
(3)
الحاوي للماوردي (17/ 25).
3 -
أن من فعل جريمة من الجرائم الموجبة للحدود يفسق بفعله للجريمة، لا بالحد المترتب على فعل الجريمة، فالسارق فسق بالسرقة دون القطع، والزاني بالزنا دون الحد، فكذلك يجب أن يكون القاذف مثلهما، فيكون فسقه بالقذف لا بالحد، كسائر الحدود (1) وإذا كان فسقه بالقذف، يجب أن يكون رد شهادته به، لا بالجلد.
4 -
أن الحكم برد شهادة القاذف يتم بعجزه عن إثبات ما قذف به، لا بإقامة الحد عليه؛ لأن الحد تطهير له، فلا يتعلق به رد شهادة كالكفارة (2).
ونوقش:
بأن الحكم على القاذف لا يتم إلا بالجلد، أما قبل ذلك فلا يحكم عليه بالقذف؛ لأنه لو أقر المقذوف. مما قذف به، أو ثبت القذف بالشهود، لسقط عن القاذف الجلد، وخرج عن كونه قاذفا (3)، وذلك يمنع تفسيقه، وإذا امتنع تفسيقه لم ترد شهادته.
وأجيب:
أن القول بعدم تحقق القذف إلا بعد كمال الجلد لا يصح؛ لأن
(1) الحاوي للماوري (17/ 25).
(2)
المنتقى للباجي (5/ 207).
(3)
المنتقى للباجي (5/ 207).
الجلد حكم القذف الذي تعذر تحقيقه، فلا يستوفى قبل تحقق القذف، وكيف يجوز إقامة حد قبل تحقق سببه، ويصير محققا بعده، هذا لا يصح (1).
5 -
أن رد شهادة القاذف يجب أن يثبت بوجود القذف الذي لم يمكنه تحقيقه كالجلد؛ لأن القذف هو الذنب الذي يستحق به العقوبة، وتثبت به المعصية الموجبة للجلد، وما أوجب الجلد أوجب رد الشهادة، لأن الجلد ورد الشهادة حكمان للقذف، فيثبتان جميعا به، وتخلف استيفاء أحدهما لا يمنع ثبوت الآخر (2).
6 -
أن القاذف ثبت فسقه بنفس القذف، لما فيه من هتك ستر العفة على المسلم، ولهذا لزمه الحد به، والحد لا يجب إلا بارتكاب جريمة موجبة للفسق (3)، والفاسق لا يكون أهلا للشهادة.
ثانيا: أدلة القول الثاني على قبول شهادة القاذف بعد التوبة وقبل الحد:
استدل أصحاب هذا القول بما استدلوا به على قبول شهادة القاذف بعد الحد والتوبة؛ لأن أصحاب هذا القول يرون أن شهادة القاذف ترد بسبب القذف؛ لأن القاذف يفسق بالقذف، وتقبل بعد
(1) المغني لابن قدامة (14/ 19).
(2)
المغني لابن قدامة (14/ 190، 191).
(3)
المبسوط للسرخسي (16/ 126).