الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: صفة توبة القاذف
اختلف العلماء في صفة توبة القاذف التي تزيل عنه الفسق على خمسة أقوال:
القول الأول: أن توبة القاذف إكذاب نفسه، فيقول: كذبت فيما قلت. وهذا مذهب الحنفية (1) وقول في مذهب الشافعية، وهو منصوص الإمام الشافعي (2) ومذهب الحنابلة (3) وهو مروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (4) رضي الله عنه، وقول عطاء، وسعيد ابن المسيب، والشعبي، والزهري، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وأبي عبيد (5).
القول الثاني: أن توبة القاذف تكون بأن يحسن حاله، ويصلح عمله، ويستغفر الله من ذلك، ويعزم على أن لا يعود إلى مثله، وإن لم يكذب نفسه. وهذا مذهب المالكية (6) واختيار ابن جرير الطبري (7).
(1) حاشية ابن عابدين (4/ 479) وأحكام القرآن للجصاص (2/ 277).
(2)
الحاوي للماوردي (17/ 28) والمهذب (2/ 423)، وروضة الطالبين (11/ 248).
(3)
معونة أولي النهي (9/ 375)، والإنصاف (12/ 59، 60).
(4)
الاستذكار لابن عبد البر (22/ 39).
(5)
الاستذكار لابن عبد البر (22/ 41، 42).
(6)
القوانين الفقهية ص (264)، والذخيرة للقرافي (10/ 221)، والمنتقى للباجي (5/ 207).
(7)
تفسير ابن جرير الطبري (17/ 108، 109).
القول الثالث: أن توبة القاذف، تكون بقوله: قذفي باطل، وأنا نادم عليه، ولا أعود إلى مثله، ولا يقول: إني كنت كاذبا. وهذا مذهب الشافعية (1).
القول الرابع: أن القذف إن كان سبا، فالتوبة منه إكذاب نفسه، وإن كان شهادة فالتوبة منه أن يقول: القذف حرام وباطل، ولا يقول: إني كنت كاذبا. وهذا وجه في مذهب الشافعية (2) وقول القاضي أبي يعلى من الحنابلة.
فأصحاب هذا القول يفرقون بين القذف على سبيل السب والإيذاء، والقذف على صورة الشهادة إذا لم يتم عدد الشهود (3) القول الخامس: أن القاذف من علم من نفسه الصدق فيما قذف به، فتوبته الاستغفار، والإقرار ببطلان ما قاله وتحريمه، وأنه لا
(1) المهذب (2/ 423)، ونهاية المحتاج (8/ 308)، والحاوي للماوردي (17/ 28).
(2)
الحاوي للماوردي (17/ 31، 32، 33)، وروضة الطالبين (11/ 248، 249).
(3)
روضة الطالبين (11/ 248، 249)، والحاوي للماوردي (17/ 31، 32، 33).
يعود إلى مثله. وإن لم يعلم صدق نفسه، فتوبته إكذاب نفسه، سواء أكان القذف بشهادة أم سب. وهذا اختيار ابن قدامة (1).
الأدلة: أدلة القول الأول:
1 -
ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قول الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2)«توبته إكذاب نفسه (3)» فدل هذا الحديث بنصه على أن توبة القاذف إكذاب نفسه.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا الحديث لم يثبت رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حجر عنه: " لم أره مرفوعا"(4).
الوجه الثاني: أنه على فرض صحة رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه بهذا السند ضعيف؛ لأن فيه انقطاعا بين سعيد ابن المسيب وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن سعيدا لم يثبت
(1) المغني لابن قدامة (14/ 191).
(2)
سورة النور الآية 5
(3)
ذكره صاحب كنز العمال (2/ 474) وقال: أن ابن مردويه أخرجه.
(4)
تلخيص الحبير (4/ 204) وقد بحثت عنه في مظانه فلم أقف عليه مرفوعا
سماعه من عمر رضي الله عنه (1).
2 -
أن عرض المقذوف تلوث بكلام القاذف، وهذه معصية تعلق بها حق آدمي، فيجب عليه أن يتوب منها، ومن توبته أن يعلن كذبه بكلامه؛ لأن في ذلك رد اعتبار للمقذوف، وإزالة للتلوث الذي لحق بعرض المقذوف، فتكون توبة القاذف بإكذاب نفسه (2).
3 -
أن القاذف قذف بلسانه، فتوبته أن يكذب نفسه بلسانه، كالمرتد الذي كفره بلسانه، لا تقبل توبته حتى ينطق بالشهادتين بلسانه (3).
4 -
أن القاذف حكم بكذبه وفسقه في الظاهر، فلو لم يكذب نفسه، لكان مصرا على الكذب الذي فسق في الظاهر من أجله، فلهذا لا بد في توبته من أن يكذب نفسه، ليزول الوصف الذي فسق من أجله (4).
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن القاذف قد يكون صادقا في قذفه، فتكذيبه
(1) تهذيب التهذيب (4/ 87).
(2)
المغني لابن قدامة (14/ 191)، ونهاية المحتاج (8/ 308).
(3)
الاستذكار لابن عبد البر (22/ 38)، والحاوي للماوردي (17/ 28)، ونهاية المحتاج (8/ 308).
(4)
الذخيرة للقرافي (10/ 220).
لنفسه كذب، والكذب معصية، فكيف تشترط المعصية في التوبة، وهي ضدها، وتجعل المعاصي سبب صلاح العبد، وقبول شهادته، ورفعته؟ (1).
الوجه الثاني: أن القاذف إن كان كاذبا في قذفه فهو فاسق، وإن كان صادقا فهو عاص؛ لأن تعيير الزاني بزناه معصية، فكيف ينفعه تكذيبه لنفسه، مع كونه عاصيا بكل حال؟ (2).
وأجيب عن هاتين المناقشتين بما يلي:
أولا: الإجابة عن الوجه الأول:
أ- أن تكذيب الصادق نفسه، يرجع إلى أنه كاذب في حكم الله تعالى، وإن كان في نفس الأمر صادقا؛ لأن الله سبحانه وتعالى سمى القاذف الذي لم يأت بأربعة شهداء كاذبا على الإطلاق (3)، بقوله تعالى:{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (4).
ب- أن الكذب إذا كان يتحقق به مصلحة ولا يترتب عليه مفسدة جائز، ككذب الرجل مع امرأته، أو للإصلاح بين الناس
(1) الذخيرة للقرافي (10/ 220).
(2)
الذخيرة للقرافي (10/ 220).
(3)
المغني لابن قدامة (14/ 192)
(4)
سورة النور الآية 13
ونحوه، وفاعل الجائز لا يعد عاصيا، ولا فاسقا، وتكذيب القاذف نفسه فيه مصلحة الستر على المقذوف، وتقليل الأذية، والفضيحة عند الناس، وقبول شهادة القاذف، وعوده إلى الولايات التي تشترط فيها العدالة (1).
فإذا أكذب القاذف نفسه مع كونه صادقا في قذفه فكذبه مباح، ولا يعد فاسقا، ولا عاصيا؛ لأنه يحقق مصلحة، ولا يترتب عليه مفسدة.
ثانيا: الإجابة عن الوجه الثاني:
أن القاذف إن كان كاذبا في قذفه، أو صادقا، ولم يأت بأربعة شهداء، فقد لوث عرض المقذوف بلسانه، وهذا معصية تعلق بها حق آدمي، ويجب عليه أن يتوب منها، ومن توبته أن يعلن كذبه بلسانه؛ لأن في ذلك رد اعتبار للمقذوف، وإزالة للتلويث الذي لحق بعرض المقذوف، وبهذا ينفعه تكذيبه لنفسه. بل يتعين عليه؛ ليعلن براءة عرض المقذوف، وتتحقق به توبته.
أدلة القول الثاني:
1 -
استدلوا بعموم الآيات والأحاديث الواردة في التوبة، فإنها
(1) الذخيرة للقرافي (10/ 220، 221).
مطلقة غير مقيدة، بأن التائب من الذنب لا بد أن يكذب نفسه (1).
ومنها قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) وقوله تعالى {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (3){يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (4){إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (5).
ويناقش:
بأن عموم الآيات والأحاديث الواردة في التوبة محمول على حقوق الله، وأما حقوق الآدميين فلا يكفي فيها مجرد التوبة؛ لأنها لا يخرج منها إلا بالأداء، أو الإبراء، سواء أكانت خالصة له، أم فيها حق الله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض، أو مال، فليستحله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم (6)»
(1) فتح القدير للشوكاني (4/ 9)
(2)
سورة النور الآية 5
(3)
سورة الفرقان الآية 68
(4)
سورة الفرقان الآية 69
(5)
سورة الفرقان الآية 70
(6)
صحيح البخاري، كتاب الرقائق، باب القصاص يوم القيامة (7/ 197).
والقذف حق آدمي، أو حقه فيه غالب، فلذلك لا بد أن يظهر القاذف مع توبته نقيض ما حصل منه، وهو الاعتراف بالكذب، جبرا لقلب المقذوف، وإزالة للعار الذي لحق بعرضه بسبب القذف.
2 -
أن الله - تعالى ذكره- جعل توبة كل ذي ذنب من أهل الإيمان تركه، وعدم العودة إليه، والندم على ما سلف منه، واستغفار ربه منه، وهذا فيما كان بين العبد وبين ربه، دون ما كان من حقوق عباده، ومظالمهم فيما بينهم.
والقاذف إذا أقيم عليه الحد، أو عفي عنه، لم يبق عليه إلا توبته من جرمه الذي بينه وبين ربه، فسبيل توبته منه، سبيل توبته من سائر إجرامه (1).
ويناقش:
بأن القاذف إذا أقيم عليه الحد، أو عفي عنه، يبقى بعد ذلك حق للمقذوف؛ لأن القاذف لوث عرض المقذوف، وأكسبه العار، فلا تتحقق توبته إلا أن يعلن كذبه؛ ليزيل ما لحق بعرض المقذوف، ويرد إليه اعتباره.
أدلة القول الثالث:
1 -
قالوا: إن القذف معصية قولية، فيشترط في التوبة منها
(1) تفسير ابن جرير الطبري (17/ 108، 109).
القول، كالتوبة من الردة، فيقول القاذف: قذفي باطل، وإني نادم على ما فعلت، ولا أعود إليه. أو يقول: ما كنت محقا في قذفي، وقد تبت منه، ونحو ذلك؛ ليندفع عار القذف الذي لحق بالمقذوف بسبب القذف، ولا يكلف أن يقول: كنت كاذبا؛ لجواز أن يكون صادقا في قذفه، فيصير بتكذيبه نفسه عاصيا، كما كان بقذفه عاصيا (1).
ونوقش هذا الدليل من وجهين:
الوجه الأول: أن قوله: قذفي باطل، أو ما كنت محقا في قذفي صريح في إكذاب نفسه (2).
وأجيب:
أ- بأن المحذور إلزام القاذف بالتصريح بكذبه لا بالتعريض به، وهذا فيه تعريض لا تصريح، فإنه لو قيل لمن قال شيئا: هذا باطل. لم يحصل له به كبير مشقة، ولو قيل له: كذبت حصل له غاية الحنق (3).
ب - أن البطلان لا ينافي مطلق الصدق، لأنه قد يحصل لاختلال بعض المقدمات، فقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه، بخلاف الكذب فإنه مناف للصدق (4)، فلهذا يؤمر
(1) روضة الطالبين (11/ 248)، نهاية المحتاج (8/ 308)، والحاوي للماوردي (17/ 31، 32).
(2)
مغني المحتاج (4/ 439)، ونهاية المحتاج (8/ 308).
(3)
نهاية المحتاج (8/ 308).
(4)
نهاية المحتاج (8/ 308)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 203).
القاذف بأن يقول: قذفي باطل، أو نحوه، ولا يؤمر بأن يقول كنت كاذبا.
وأجيب عن هذه الإجابة:
بأن القاذف إذا لم يحقق قذفه ببينة، أو إقرار من المقذوف، فإنه في حكم الله كاذب، وإن كان في نفس الأمر صادقا (1)؛ لقوله تعالى:{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (2) فتكذيب الصادق نفسه يرجع إلى أنه كاذب في حكم الله، وإن كان في نفس الأمر صادقا (3).
أدلة القول الرابع:
أولا: إذا كان القذف سبا فأدلته ما سبق أن استدل بها أصحاب القول الأول (4).
ثانيا: إذا كان القذف على صورة شهادة، فأدلته ما سبق أن استدل به أصحاب القول الثالث (5).
ثالثا: دليل الفرق بين القذف على صورة الشهادة، وقذف
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (112/ 203)، والمغني لابن قدامة (14/ 192).
(2)
سورة النور الآية 13
(3)
المغني لابن قدامة (14/ 192).
(4)
انظر: ص (312) من هذا البحث
(5)
انظر: ص (330) من هذا البحث
السب، أن الشهادة على الزنا لحق الله، ولو كمل عدد الشهود للزمه أن يشهد، فلهذا لا يقول: إني كنت كاذبا، ولا يقول: لا أعود (1).
بخلاف قذف السب والإيذاء، فإنه معصية تعلق حق آدمي، فلا بد أن يكذب نفسه؛ ليزول العار الذي لحق بعرض المقذوف بسبب القذف.
ونوقش: بأن هذا استدلال بالمعقول، وهو مخالف للمنقول، والمنقول مقدم على المعقول.
فهو مخالف لقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (2) فإن هذه الآية تدل بعمومها على أن كل قاذف لم يأت ببينة فهو في حكم الله كاذب، من غير فرق بين قذف السب، والقذف على صورة الشهادة.
أدلة القول الخامس:
أولا: إذا علم من نفسه الصدق فيما قذف به، فتوبته الاستغفار، والإقرار ببطلان ما قاله، وتحريمه، وأن لا يعود إلى مثله، ولا يؤمر بإكذاب نفسه؛ لأنه صادق، والصادق لا يؤمر بالكذب (3).
ثانيا: إذا لم يعلم صدق نفسه، فتوبته إكذاب نفسه لأنه لا
(1) الحاوي للماوردي (17/ 33).
(2)
سورة النور الآية 13
(3)
المغني لابن قدامة (14/ 191، 192).