الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: ثمرات التفكر ومعوقاته.
المطلب الأول: ثمرات التفكر.
المطلب الثاني: معوقات التفكر.
وأخيرا الخاتمة وفيها ذكرت أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا البحث.
أسأل الله تبارك وتعالى التوفيق والسداد وأن يجعل هذا البحث نافعا مفيدا، وخالصا لوجهه تعالى، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
المبحث الأول: مفهوم التفكر وأهميته:
المطلب الأول: مفهوم التفكر وكيفيته:
التفكر في آيات الله تعالى ومخلوقاته من العبادات الجليلة التي أمر بها الشارع وحث عليها في آيات كثيرة من القرآن الكريم.
ومفهوم التفكر لا يتضح لنا إلا عندما نعود إلى أصل الكلمة، كما يتضح لنا أيضا عندما نعلم كثيرا من الشواهد العملية للتفكر في السنة وفي سير الصالحين.
التفكر لغة:
جاء في لسان العرب: التفكر التأمل، والفكر: إعمال الخاطر في شيء (1).
وقال ابن فارس: " الفاء والكاف والراء: تردد القلب في
(1) انظر: ابن منظور، لسان العرب، ج5، ص65
الشيء، يقال: تفكر إذا ردد قلبه معتبرا " (1).
فالتفكر: (جولان العقل في طريق استفادة علم صحيح)(2).
ومن المعنى اللغوي ندرك أن التفكر عمل قلبي مستمر، ومناطه العقل، وهو عملية لا تقصد بذاتها وإنما بما يحصله المرء منها، وهو العمل والطاعة، ولذلك فسر مجاهد رحمه الله قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (3) قال: يطيعون (4)، فالتفكر مآله الطاعة والتسليم والانقياد لله رب العالمين، وإلا فلا فائدة منه.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: (التفكر هو أن يعمل الإنسان فكره في الأمر حتى يصل فيه إلى نتيجة، وقد أمر الله تعالى به وحض عليه في كتابه لما يتوصل إليه الإنسان به من المطالب العالية والإيمان واليقين)(5).
والتفكر يحتاج إلى شيء من الصبر والتكلف، وتصرف القلب في طلب المعنى، ومبدأ ذلك معنى يخطره الله تعالى على بال الإنسان فيطلب متعلقاته التي فيها بيان عنه من كل وجه يمكن منه (6).
(1) ابن فارس، معجم مقايس اللغة، ج 4، ص 446.
(2)
الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير، جـ 4، ص 244
(3)
سورة النحل الآية 44
(4)
ابن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج 4 ص 11
(5)
ابن عثيمين، شرح رياض الصالحين، ج 2، ص 244
(6)
البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، ج 4، ص 11
قال في التحرير والتنوير عند تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1)(أجرى صفة التفكير على لفظ قوم إشارة إلى أن التفكير المتكرر المتجدد هو صفة راسخة فيهم بحيث جعله من مقومات قوميتهم أي: جبلتهم، وجيء بالتفكير بالصيغة الدالة على التكلف وبصيغة المضارع للإشارة إلى تفكير شديد ومكرر)(2).
وقد جاءت آيات عديدة في القرآن تدعو إلى التفكر والنظر والتأمل والسير في الأرض قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (3) وقال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (4).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (والتذكر والنظر والتأمل والاعتبار والتدبر والاستبصار كلها معان متقاربة)(5).
والتفكر والتذكر فيهما معنى التكرير ويفرق بينهما الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله: (كل من التفكر والتذكر له فائدة غير فائدة الآخر، فالتذكر يفيد تكرر القلب على ما علمه وعرفه ليرسخ فيه
(1) سورة الرعد الآية 3
(2)
الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ج7، ص 58
(3)
سورة آل عمران الآية 137
(4)
سورة الذاريات الآية 49
(5)
ابن القيم مفتاح دار السعادة، ج1، ص 182
ويثبت ولا ينمحي فيذهب أثره من القلب جملة، والتفكر يفيد تكثير العلم واستجلاب ما ليس حاصلا عند القلب) (1).
والتفكر من العبادات التي تتطلب صفاء النفس والقدرة على طرد الأفكار والهواجس التي تعيق التفكر. وقد سئل بعض العلماء ما الذي يفتح الفكر؟ قال: اجتماع الهم؛ لأن العبد إذا اجتمع همه فكر، فإذا فكر نظر، فإذا نظر أبصر، فإذا أبصر عمل (2).
واجتماع الهم يتطلب من المرء أن يخلو بنفسه، ليكون ذلك أدعى إلى التفكر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(لا بد من أوقات ينفرد بها المرء بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره، فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه، إما في بيته كما قال طاوس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيها بصره ولسانه، وإما في غير بيته)(3).
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: (التمس وجود الفكر في مواطن الخلوات)(4) وقد جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله «ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (5)» .
(1) المرجع السابق، ج1، ص 183
(2)
انظر: أبا نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء، ج10، ص 144
(3)
انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى ج10، ص 426
(4)
أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء، ج9، ص 288
(5)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، رقم الحديث 660 ص132
قال ابن علان رحمه الله: قوله: ذكر الله، أي: بقلبه من التذكر، أو بلسانه من الذكر، وقوله: خاليا أي: عن الخلق؛ لأنه حينئذ يكون أبعد من الرياء، أو المراد خاليا عن الالتفات إلى غير الله، ولو كان في ملأ (1).
وقال ابن عثيمين رحمه الله: قوله (خاليا، يعني خالي القلب مما سوى الله عز وجل خالي الجسم أيضا، ليس عنده أحد حتى لا يكون بكاؤه رياء وسمعة، فهو مخلص حاضر القلب؛ لأنه لا يمكن أن يبكي الإنسان وقلبه مشغول بشيء آخر)(2).
ولا يعني ذلك أن يغلق المرء على نفسه أو يتكلف وضعا معينا، أو هيئة معينة، كما يفعله بعضهم عند التأمل أو التفكير، إذ أن حقيقة التفكر: ترديد العلم بالقلب (3).
وليس المقصود بالتفكر الصمت عن الكلام؛ لأن الصمت المجرد من عمل الجاهلية، وليس من هدي الإسلام، وقد جاء النهي عن ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:«لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل (4)» .
(1) انظر: ابن علان الصديقي، دليل الفالحين، ج 2، ص 253
(2)
انظر: ابن عثيمين، شرح رياض الصالحين، ج5، ص 404
(3)
انظر: ابن العربي، أحكام القرآن، ج 2 ص 333
(4)
رواه أبو داود، كتاب: الوصايا، باب ما جاء متى ينقطع اليتم، رقم الحديث 2489، ص 445، وصححه الألباني صحيح سنن أبي داود ج2، ص 1261رقم الحديث 7609
قال المناوي رحمه الله: (أي لا عبرة ولا فضيلة له، وليس مشروعا عندنا، كما شرع للأمم قبلنا، فنهى عنه لما فيه من التشبه بالنصرانية)(1).
ولما رأى أبو بكر رضي الله عنه امرأة لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ قالوا: حجت مصمتة، فقال لها:(تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية)(2).
قال ابن تيمية رحمه الله: (أخبر أبو بكر رضي الله عنه أن الصمت المطلق لا يحل، وعقب على ذلك بقوله: هذا من عمل الجاهلية قاصدا بذلك عيب هذا العمل وذمه)(3).
وقال الخطابي رحمه الله: (كان أهل الجاهلية من نسكهم الصمات، وكان الواحد منهم يعتكف اليوم والليلة فيصمت ولا ينطق، فنهوا عن ذلك وأمروا بالذكر والنطق بالخير)(4).
وصمت المسلم إنما يكون للتفكر، وكان من دعاء طلحة بن مصرف رحمه الله:(اللهم اجعل صمتي تفكرا، واجعل نظري عبرا، واجعل منطقي ذكرا)(5).
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: (المؤمن قليل الكلام كثير
(1) المناوي: فيض القدير، ج6، ص 444
(2)
رواه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية، رقم الحديث 3734
(3)
ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستيقم في مخالفة أصحاب الجحيم، جـ1 ص 327
(4)
الخطابي، معالم السنن، ج4، ص 87
(5)
انظر: أبا نعيم حلية الأولياء ج5، ص 15
العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل، كلام المؤمن حكم، وصمته تفكر، ونظره عبرة، وعمله بر) (1).
كما أن التفكر لا يستلزم سكون البدن وعدم تحرك شيء منه، جاء في صحيح البخاري كتاب الأدب، باب من نكت العود في الماء والطين، عن أبي موسى رضي الله عنه «أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة، وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم عود يضرب به بين الماء والطين (2)» الحديث (3).
وعن علي رضي الله عنه قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فجعل ينكت الأرض بعود فقال: ليس منكم من أحد إلا وقد فرغ من مقعده من الجنة والنار، فقالوا: أفلا نتكل؟ قال: اعملوا فكل ميسر، ثم قرأ الآية (5)» .
قال ابن حجر رحمه الله عند شرح الحديث الأول: (وفقه الترجمة أن ذلك لا يعد من العبث المذموم، لأن ذلك إنما يقع من العاقل عند التفكر في الشيء، ثم لا يستعمله فيما لا يغير تأثيره فيه بخلاف من يتفكر وفي يده سكين فيستعملها في خشبة تكون في البناء
(1) انظر: أبا نعيم حلية الأولياء ج8، ص98
(2)
صحيح البخاري الأدب (6216)، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (2403)، سنن الترمذي المناقب (3710)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 393).
(3)
رواه البخاري، كتاب الأدب، باب من نكت العود في الماء والطين، رقم الحديث 6216 ص 1317
(4)
رواه البخاري، كتاب الأدب، باب الرجل ينكت الشيء بيده في الأرض، رقم الحديث 6217 ص 1317، والآية من سورة الليل، الآية (5).
(5)
سورة الليل الآية 5 (4){فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}
الذي فيها فذاك من العبث المذموم) (1).
وإذا كان التفكر يكون بتقليب النظر، أو ترديد القلب، اعتبارا وتفكرا، فإنه يكون مع ترديد الآيات القرآنية والأذكار الشرعية. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام ليلة يردد قوله تعالى:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} (2) قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح).
وعقد الإمام النووي رحمه الله فصلا في كتاب التبيان في استحباب ترديد الآية للتدبر، وقال:(وقد بات جماعة من السلف يتلون آية واحدة يرددونها إلى الصباح)(3).
أما ترديد الأذكار الشرعية فقد ضلت فيه طوائف عندما ابتدعوا ألفاظا يرددونها مرات ومرات، يتعبدون بها أو يظنون بها صلاحا لأنفسهم.
والتكرير الوارد في السنة إنما هو لأذكار مخصوصة، وليس لأحد أن يبتدع أذكارا أو ألفاظا لم يأذن بها الشارع، ولو فعل ذلك لم ينتفع بها في الدنيا ولا في الآخرة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (4)» .
(1) ابن حجر، فتح الباري، ج10، ص597
(2)
سورة المائدة الآية 118
(3)
النووي، كتاب التبيان في آداب حملة القرآن، ص 45
(4)
رواه البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، رقم الحديث 2499، ورواه مسلم كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور رقم الحديث 3243
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولو كرر الإنسان اسم الله ألف ألف مرة لم يصر بذلك مؤمنا ولم يستحق ثواب الله ولا جنته)(1).
وقال أيضا: (الشرع لم يستحب من الذكر إلا ما كان كلاما تاما مثل لا إله إلا الله، ومثل الله أكبر، ومثل سبحان الله. . . فأما الاسم المفرد مظهرا مثل الله، الله، أو مضمرا مثل: هو هو، فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة، ولا هو مأثور أيضا عن أحد من سلف الأئمة، ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم، وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين)(2).
وهدي الإسلام في الذكر أكمل هدي وأحسنه، فقد شرع للمسلم أن يذكر الله من حين أن يصبح، إلى أن يمسي، بأذكار مخصوصة في أوقات مخصوصة، كما شرع له أذكارا مطلقة يعمل بها متى وجد في نفسه نشاطا وهمة، وهذه الأذكار سبب في انشراح الصدر وطمأنينة القلب وسعادة المرء في الدنيا والآخرة.
ولذلك فإن تقريب هدي الإسلام وطريقته في التفكر مطلب أساسي، لا سيما في هذا العصر الذي ظهرت فيه بعض الطرق في
(1) ابن تيمية مجموع الفتاوى، جـ 10، ص 562
(2)
ابن تيمية مجموع الفتاوى، جـ 10، ص 556
التأمل، بحثا عن الصحة والسعادة، حيث يسعى كثير من الناس اليوم إلى محاربة القلق والاضطراب، وقد لجأ كثيرون في بلاد الغرب والشرق إلى العلاج عن طريق الأدوية أو التأمل أو الرياضة وغيرها، ليصلحوا أنفسهم ويتخلصوا من الملل والإرهاق - ولو لفترة وجيزة - ويكبحوا جماح شهواتهم ورغباتهم.
وظهر لذلك مدارس ومؤسسات تفرض على الأفراد طرقا معينة في سبيل تحقيق الراحة لجسمه وذهنه. فهناك على سبيل المثال ما يسمى التأمل المتسامي، وهو من الأساليب التي ابتدعها الإنسان لراحة الجسم، وقد طورها أحد الهنود في خلال الخمسينات من القرن العشرين، ويهدف من خلاله إلى الوصول إلى حالة الوعي الصافي، بحثا عن السعادة - بزعمهم - حيث يقوم من يمارس ذلك بالجلوس هادئا في وضع مريح، ويغلق عينيه مرددا كلمات مقتبسة من الكتب الهندوسية (1).
ولقد أنعم الله علينا - نحن المسلمين - بنعم لا تعد ولا تحصى، وأرشدنا في كتابه إلى ما فيه صلاح قلوبنا وأبداننا (وإن المؤمن المتفكر يجد كل الفوائد الصحية والجسمية والنفسية التي يلقاها الممارس للتأمل، بل ويزيد عليها بسبب صحة عقيدته وبساطتها ونفاذ بصيرته، ووضوح رؤيته الدينية وتدريبه المستمر على التأمل
(1) انظر: الموسوعة العالمية ج 6، ص 29