الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لتسديد الأموال التي يطالب بها أصحاب السيارات مثلا.
سادسا: ومن الأسباب أيضا، أن المرء قد يكون قليل ذات اليد وعنده زوجة لا يستطيع الإنفاق عليها، مع العلم بأن نفقة الزوجة واجبة سواء أكان الزوج موسرا أم معسرا، فإن كان الزوج حاضرا وله مال، أنفق من ماله جبرا عنه، وإن كان معسرا، فإن فقهاء الحنفية يرون أن القاضي يفرض لها النفقة، ثم يأمرها بالاستدانة عليه، فإن لم تجد من تستدين منه، أوجب القاضي نفقتها على من تجب عليه من أقاربها لو لم تكن متزوجة، أما إن كان غائبا، وليس له مال حاضر، فإنه لا تفرض لها نفقة عليه، خلافا لزفر من الحنفية، علما بأن قوله هو المفتى به عند الحنفية.
ومذهب الشافعية والحنابلة قريب من ذلك حيث يرون أنه يجب عليه أن يستدين لها، ولها أن تستدين، ولو بغير إذن، وترجع عليه بما استدانت.
وبهذا الوجوب تجعل كثيرا من المعدمين يستدينون لأجل إطعام من تحت أيديهم.
المبحث الأول، وجوب إبراء الذمم من الحقوق
وتحته ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: أهمية إبراء الذمم من الحقوق
حقوق العباد مبناها على المشاحة، فلا يجوز إسقاط حق الغير بغير إذنه ولا يجوز أخذ ماله من غير رضاه، قال صلى الله عليه وسلم:«لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس (1)»
(1) أخرجه الإمام أحمد (24/ 241) والدارقطني في السنن (3/ 26) والحديث حسن بشواهده راجع إرواء الغليل (5/ 279).
ولقد حرص الإسلام بتعاليمه وتوجيهاته أن لا تكون ذمة المرء مشغولة بحقوق العباد ومظالمهم، فحذر ورغب، ووعد وتوعد، تارة بالتهديد والتخويف، وتارة بالترغيب والتحفيز، كي يلقى المرء ربه، وليس أحد يطلبه في مظلمة في عرض ولا مال.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه، فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه (1)» .
وفي هذا الحديث العظيم دلالة ظاهرة على وجوب التخلص من حقوق العباد في الدنيا، وطلب التحلل والسماح منهم، قبل أن يأتي يوم القيامة، ولا ينفع بعد ذلك دينار ولا درهم، {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} (2){وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} (3){وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} (4){وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} (5).
والمصيبة والفضيحة يوم أن لا يكون عند المرء حسنات يقتص بها منه لصاحبه، فحينئذ يؤخذ من سيئات صاحبه فتطرح عليه ثم يلقى في النار. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من مغبة أخذ أموال الناس بأي وسيلة كانت وهو ينوي عدم إرجاعها إلى
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6534).
(2)
سورة المعارج الآية 11
(3)
سورة المعارج الآية 12
(4)
سورة المعارج الآية 13
(5)
سورة المعارج الآية 14
أصحابها، سواء كانت باسم البيع أو الإجارة أو القرض أو الوديعة، بأن مآله الخسران في الدنيا، والعذاب الشديد ينتظره في الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم:«من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله (1)» .
فمن كانت نيته الوفاء بالديون التي عليه وهو قادر على ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى يعينه على ذلك، ولو مات أدى الله عنه ذلك لما يعلم سبحانه من عبده الصدق في الوفاء.
وهل إذا أخذها، وهو يعلم من نفسه العجز عن الوفاء، يكون كمن أخذها يريد أداءها أم يريد إتلافها؟
ذكر ابن المنير أن الأخذ مقيد بالعلم بالقدرة على الوفاء، قال: لأنه إذا علم من نفسه العجز، فقد أخذ لا يريد الوفاء، إلا بطريق التمني، والتمني خلاف الإرادة.
وقد تعقب الحافظ ابن حجر فهم ابن المنير هذا وقال: وفيه نظر؛ لأنه إذا نوى الوفاء مما سيفتحه الله عليه، فقد نطق الحديث بأن الله يؤدي عنه، إما بأن يفتح عليه في الدنيا، وإما بأن يتكفل عنه في الآخرة فلم يتعين التقييد بالقدرة في الحديث، ولو سلم ما قال، فهناك مرتبة ثالثة، وهو أن لا يعلم هل يقدر أو يعجز (2)
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2387) وفتح الباري (5/ 53)
(2)
انظر: فتح الباري (5/ 54).
أما من كانت نيته المماطلة والجحود وعدم الوفاء - كما هو عمل بعض المسلمين اليوم والله المستعان - فقد قصد إتلاف حق الدائن، ومن أراد إتلاف حق الدائن أتلفه الله سبحانه وتعالى، والويل لمن يكون الله تعالى خصمه، وظاهر الحديث أن الإتلاف يقع له في الدنيا، وذلك في معاشه أو في نفسه كما قال الحافظ ابن حجر ثم قال: وهو علم من أعلام النبوة، لما نراه بالمشاهدة ممن يتعاطى شيئا من الأمرين (1).
وقيل المراد بالإتلاف عذاب الآخرة، غير أن إطلاق الحديث يفيد العموم والله أعلم.
وفي هذا الحديث الشريف الحض على ترك استئكال أموال الناس والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة، وأن الجزاء قد يكون من جنس العمل، كما قال ابن بطال رحمه الله (2).
وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على عدم التسارع إلى أخذ أموال الناس حتى لا يبقى المسلم مدينا، وحذر من مغبة الدين، فمن تشديد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: أنه «كان عليه الصلاة والسلام إذا مات الميت وأتي به للصلاة عليه سأل عليه الصلاة والسلام هل عليه دين، فإن قيل نعم قال: فهل ترك شيئا، فإن قالوا: ترك صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم (3)»
(1) انظر: فتح الباري (5/ 54)
(2)
انظر: فتح الباري (5/ 54)
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2289 و 2298) ومسلم في صحيحه (3/ 1237).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي هذا الحديث إشعار بصعوبة أمر الدين، وأنه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة " (1).
وكأن الذي فعله صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة على من عليه دين ليحرض الناس على قضاء الديون في حياتهم، والتوصل إلى البراءة منها لئلا تفوتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (2).
وهل كانت صلاته على من عليه دين محرمة عليه الصلاة والسلام أو جائزة؟ فيه وجهان عند أهل العلم رجح النووي رحمه الله الجزم بجوازه مع وجود الضامن كما في حديث مسلم " ا. هـ (3).
ولم يكتف عليه الصلاة والسلام بترك الصلاة على المدين، ليبين خطورة بقاء أموال الناس في ذممهم، ووجوب المسارعة بإبراء الذمم من حقوق العباد، بل أخبر عليه الصلاة والسلام «أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه (4)» .
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم «معلقة بدينه (5)» أي محبوسة عن
(1) انظر: فتح الباري (4/ 468).
(2)
انظر: شرح الإمام مسلم للنووي (11/ 60) وفتح الباري (4/ 478).
(3)
انظر: فتح الباري (4/ 478).
(4)
أخرجه الترمذي في جامعه (3/ 389) وابن ماجه في سننه (2/ 806) وأحمد في مسنده (15/ 425) والحديث حسن الإسناد حسنه الترمذي. وصححه يحيى بن سعيد القطان انظر التمهيد لابن عبد البر (23/ 236).
(5)
سنن الترمذي الجنائز (1079)، سنن ابن ماجه الأحكام (2413)، مسند أحمد (2/ 507)، سنن الدارمي البيوع (2591).
مقامها الكريم وقال العراقي: أي أمرها موقوف لا حكم لها بنجاة، ولا هلاك حتى ينظر هل يقضى ما عليها من الدين أم لا (1).
وظاهر الحديث على عمومه سواء ترك الميت وفاء أم لا، وهذا ما عليه أكثر الشافعية.
وقال الشوكاني رحمه الله: وفي الحديث الحث للورثة على قضاء دين الميت، والإخبار لهم بأن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى عنه، وهذا مقيد بمن له مال يقضى منه دينه، وأما من لا مال له ومات عازما على القضاء، فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله تعالى يقضي عنه
…
" (2).
ولقد كان السلف الصالح يحرصون على أداء ديون موتاهم لعلمهم الأكيد أن الميت محبوس بدينه، قال معمر بن راشد رحمه الله قيل لابن طاوس بن كيسان التابعي المشهور في دين أبيه: لو استنظرت الغرماء قال: أستنظرهم، وأبو عبد الرحمن - يعني أباه طاوسا - عن منزله محبوس!: قال: فباع مال ثمنه ألف بخمسمائة " (3) استعجالا لتسديد الدين فرحمهم الله رحمة واسعة.
(1) انظر: تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (4/ 164) دار الكتب العلمية.
(2)
انظر: نيل الأوطار (4/ 53) ط. دار الجيل. 1973.
(3)
انظر: شرح السنة للبغوي (8/ 203)
فإذا كان الدين بهذه المثابة من التغليظ والتشديد والوعيد، فلماذا إذن يتساهل الكثير بأمره، ولم يقدروه حق قدره، حتى أصبح غالب الناس إما مدينا يطالبه غرماؤه، وإما منتظرا حلول أقساطه التي عليه، وإذا كان من أعظم القربات وأجل الطاعات هو إراقة الدماء في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وبذل النفس في الجهاد في سبيله تعالى وقد جاء في فضله وفضل المجاهد في سبيله من الفضائل والمكرمات، والشرف في القرب عند الرحمن ما جاء.
ومع ذلك كله فإن حقوق العباد تقف حاجزا منيعا دون نيل هذه المكرمات والفضائل، «فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل، فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت: قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك) (1)» رواه مسلم (2). فانظر رحمك الله فضل المجاهد في سبيل الله وأنه إن قتل وهو صابر محتسب مقبل غير مدبر فإن خطاياه كلها مكفرة، وذنوبه
(1) صحيح مسلم الإمارة (1885)، سنن الترمذي الجهاد (1712)، سنن النسائي الجهاد (3157)، الجهاد (3158)، مسند أحمد (5/ 304)، موطأ مالك الجهاد (1003)، سنن الدارمي الجهاد (2412).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (13/ 1501).
مغفورة، وسيئاته معفوة، ومعايبه مستورة، إلا الدين، فهذا يدل على عظم حقوق الآدميين ولهذا قال النووي رحمه الله وأما قوله صلى الله عليه وسلم (إلا الدين) ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر، لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوق الله تعالى ا. هـ (1) فإذا كان كبار الصحابة الذين شهدوا بدرا وأحدا والخندق وغيرها من الغزوات العظيمة الذين شهد بصدقهم الكتاب والسنة وإجماع سلف هذه الأمة يخاطبون بذلك، ويطبق عليهم هذا الحكم، فما ظنك بغيرهم الذين هم أقل منهم في المنزلة، والعبادة والتقوى، فالبدار البدار والنجاة النجاة فلقد نزل من السماء تشديد ووعيد في الدين وحقوق الآدميين جعلت الحبيب عليه الصلاة والسلام يتعجب منه فهذا محمد بن جحش الصحابي رضي الله عنه يقول:«كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء، ثم وضع راحته على جبهته ثم قال: سبحان الله ماذا نزل من التشديد، فسكتنا وفزعنا، فلما كان من الغد سألته يا رسول الله ما هذا التشديد الذي نزل فقال: والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه (2)» .
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم أن من أعظم الذنوب بعد
(1) انظر: شرح مسلم للنووي (13/ 29) والتمهيد لابن عبد البر (23/ 232).
(2)
أخرجه النسائي في المجتبى (7/ 314).