الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«أدخل الله الجنة رجلا كان سهلا مشتريا وبائعا وقاضيا ومقتضيا (1)» ولأحمد من حديث عبد الله بن عمرو نحوه، وفيه الحض على السماحة في المعاملة واستعمال معالي الأخلاق وترك المشاحة والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة وأخذ العفو منهم " اهـ (2).
(1) سنن النسائي البيوع (4696)، سنن ابن ماجه التجارات (2202)، مسند أحمد (1/ 70).
(2)
فتح الباري (4/ 307).
المطلب الرابع: أسباب تعود إلى غير ما سبق:
هناك أسباب تؤدي إلى تعثر الديون وتأخير الوفاء بها لا تعود إلى العلاقة بين الدائن والمدين ولا إلى أي منهما، بل تعود إلى أمور أخرى لا علاقة لواحد منهما بها.
وهذه الأسباب هي ما يسمى عند الفقهاء بالجوائح.
والجائحة كما يقول ابن قدامة رحمه الله: كل آفة لا صنع للآدمي فيها " (1).
وعرفها أبو العباس ابن تيمية رحمه الله بقوله: " الجائحة هي الآفات السماوية التي لا يمكن معها تضمين أحد "(2).
غير أن المذهب المالكي له تفصيل في معنى الجائحة على ثلاثة أقوال:
الأول: منهم من يرى إلى أن الجائحة في الأمور السماوية وحدها، ولا خلاف بينهم أنها جائحة.
الثاني: ومنهم من يرى أن الجائحة تشمل أيضا أعمال الآدميين
(1) المغني (6/ 179).
(2)
مجموع الفتاوى (30/ 278)
التي لا يمكن التحرز عنها وكان غالبا مثل الجيش يمرون بالنخل، فيأخذون ثمرته هو جائحة.
الثالث: ومنهم من يرى أن الجائحة تشمل جميع أعمال الآدميين حتى تلك التي يمكن التحرز منها ما دامت من غير فعل المتعاقدين.
وهذه تسمى عند الفقهاء المعاصرين بنظرية الظروف الطارئة، وبعضهم يرى أن ثمة فرقا بين نظرية الجوائح وبين نظرية الظروف والحوادث الطارئة ومنهم الدكتور عبد الرزاق السنهوري الذي فرق بينهما بقوله: " نظرية الحوادث الطارئة تفترض أن عقدا يتراضى تنفيذه إلى أجل، أو آجال كعقد التوريد، وعند حلول أجل التنفيذ تكون الظروف الاقتصادية قد تغيرت تغيرا فجائيا لحادث لم يكن في الحسبان بحيث يختل التوازن الاقتصادي للعقد اختلالا خطيرا
…
ولو أن هذا الحادث الطارئ قد جعل تنفيذ الالتزام مستحيلا لكان قوة قاهرة، ولا نقضي به الالتزام. ولو أنه لم يكن من شأنه إلا أن يجعل تنفيذ الالتزام يعود بخسارة على التاجر لا تخرج عن الحد المألوف لما كان له من أثر ولا التزام المدين بتنفيذ التزامه التزاما كاملا، ولكنا نفترض من جهة أن تنفيذ الالتزام لم يصبح مستحيلا، ونفرض من جهة أخرى أن تنفيذه يعود بخسارة على المدين تخرج عن الحد المألوف ثم نفرض أن هذا كله لم يكن قائما وقت نشوء العقد، بل وجد
عند تنفيذه. فماذا يكون الحكم في المثل الذي أسلفناه؟ تقول نظرية الحوادث الطارئة: لا ينقضي التزام المدين؛ لأن الحادث الطارئ ليس قوة قاهرة، ولا يبقى التزامه كما هو؛ لأنه مرهق، ولكن يرد القاضي الالتزام إلى الحد المعقول، حتى يطيق المدين تنفيذه، يطيقه بمشقة ولكن في غير إرهاق
…
".
فالظروف الطارئة قد تكون سببا من أسباب تأخير الحقوق والالتزامات العقدية، فمثلا لو أن عقد مقاولة قد تم بين طرفين على إنشاء بناية كبيرة يحتاج إنشاؤها إلى مدة طويلة، وحدد فيه سعر المتر المكعب من البناء وكسوته بمبلغ 1000 ريال مثلا، وكانت كلفة المواد الأولية من حديد وأسمنت وأخشاب وسواها وأجور عمال تبلغ عند العقد للمتر الواحد (800) ريال، فوقعت حرب غير متوقعة، أو حادث آخر خلال التنفيذ قطعت الاتصالات والاستيراد وارتفعت بها الأسعار ارتفاعا كبيرا مما يجعل تنفيذ الالتزام مرهقا جدا في حق المقاول، مما يترتب على ذلك تأخير التزامه بالعقد ويماطل في الالتزام، وربما تأخر رب العمل أيضا بتسديد المبالغ المستحقة عليه لأن المقاول قد تأخر فيتأثر الالتزام بسبب هذه الظروف، وكذلك لو أن متعهدا في عقد توريد أرزاق عينية يوميا من لحم وجبن ولبن وبيض وخضروات وفواكه ومشروبات ونحوها إلى مستشفى أو إلى جامعة
فيها أقسام داخلية أو إلى دار ضيافة حكومية بأسعار اتفق عليها في كل صنف لمدى عام، فحدثت جائحة في البلاد أو طوفان أو زلزال أو جاء جراد جرد المحاصيل الزراعية فارتفعت الأسعار إلى أضعاف كثيرة عما كانت عليه عند العقد، فيترتب على ذلك تأخير التزام المورد، وبالتالي تأخير تسديد الأموال التي استحقت له.
ولا شك أن هذا يسبب التنازع بين الطرفين مما يكون سببا إلى الاتجاه إلى القضاء للفصل بين الطرفين، وقد عرض موضوع هذه الظروف الطارئة على مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من رابطة العالم الإسلامي وقرر ما يلي:
1 -
في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلا غير الأوضاع والتكاليف والأسعار تغييرا كبيرا، بأسباب طارئة عامة، لم تكن متوقعة حين التعاقد، فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي، يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة، من تقلبات الأسعار في طرق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحالة عند التنازع، وبناء على الطلب تعديل الحقوق والالتزامات العقدية، بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز له أن يفسخ العقد، فيما لم يتم تنفيذه منه، إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له
صاحب الحق في التنفيذ، يجبر له جانبا معقولا من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد، بحيث يتحقق عدل بينهما، دون إرهاق للملتزم، ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعا رأي أهل الخبرة الثقات.
2 -
ويحق للقاضي أيضا أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيرا بهذا الإمهال " (1).
ونظرية الظروف الطارئة تناولها الفقهاء رحمهم الله عندما تحدثوا عن " الفسخ بالأعذار " وعن " الجوائح في بيع الثمار " وعن " تعديل العقد في حالة تقلب النقود " ووضعوا ضابطا للعذر الطارئ الذي يجيز فسخ عقد الإجارة وهو أن عجز العاقد عن المضي في موجب العقد إلا بتحمل ضرر زائد لم يلتزمه بموجب العقد يحق له بعد التقاضي التخفيف عنه أو الفسخ.
وقد ذكر ابن تيمية، رحمه الله، في مختصر الفتاوى المصرية:" أن من استأجر ما تكون منفعة إجارته لعامة الناس، مثل الحمام والفندق والقيسارية فنقصت المنفعة المعروفة، لقلة الزبون، أو لخوف، أو حرب، أو تحول سلطات ونحوه، فإنه يحط عن المستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة "(2).
(1) انظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي (ص 107 - 108).
(2)
مختصر الفتاوى المصرية ص 376.
وقال الكاساني: "إن الفسخ في الحقيقة امتناع من التزام الضرر، وأن إنكار الفسخ عند تحقق العذر، خروج عن العقل والشرع؛ لأنه يقتضي أن من اشتكى ضرسه فاستأجر رجلا لقلعها، فسكن الوجع يجبر على القلع، وهذا قبيح عقلا وشرعا"(1).
وقد ذكر بعض الباحثين صورا من جوائح القرض فقال: القروض قد تكون عرضة للجوائح فإنها إن كانت نقودا مثلا فقد تكسد، وقد ترخص وقد تغلو وقد يبطل التعامل بها إلى غير ذلك من جوائح النقود (2).
2 -
ومن الأسباب أيضا تلك الأسباب التي تتعلق بالعوامل السياسية والاقتصادية والنظامية التي تؤثر على النشاط الائتماني، وكلما كانت هذه العوامل تتصف بعدم الاستقرار كلما زادت درجة المخاطر، وتزايدت ظروف عدم التأكد عما سيكون عليه الحال مستقبلا، وأثر ذلك بالسلب على الوفاء بالالتزامات المالية. وترجع هذه العوامل إلى اعتبارات محلية داخلية أو إلى اعتبارات عالمية دولية. من ذلك:
أ - سياسات التسعير بغير ضوابط شرعية وما لها من أثر مباشر أو غير مباشر على الأرباح، ومن ثم المقدرة المالية على الوفاء بالالتزامات المالية.
ب - السياسات المالية للدولة وبصفة خاصة السياسات الضريبية
(1) بدائع الصنائع (4/ 197).
(2)
انظر: الجوائح وأحكامها ص 241 د / سليمان الثنيان.