الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للمكلف فيه البتة، وينهى عما فيه مصلحة، والجميع بالنسبة إليه سواء، ويجوز عندهم أن يأمر بكل ما نهى عنه، وينهى عن جميع ما أمر به، ولا فرق بين هذا وهذا إلا لمجرد الأمر والنهي، ويجوز عندهم أن يعذب من لم يعصه طرفة عين، بل أفنى عمره في طاعته وشكره وذكره، وينعم على من لم يطعه طرفة عين بل أفنى عمره في الكفر به والشرك والظلم والفجور، فلا سبيل إلى أن يعرف خلاف ذلك منه إلا بخبر الرسول وإلا فهو جائز عليه، وهذا من أقبح الظن وأسوئه بالرب سبحانه، وتنزيهه عنه كتنزيهه عن الظلم والجور، بل هذا هو عين الظلم الذي يتعالى الله عنه " (1). وبهذا يتبين بطلان استدلال القدرية بهذه الآية.
(1) شفاء العليل ص (416 - 418).
الشبهة الرابعة:
قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (1) الآية.
وجه الاستدلال:
يقول القاضي عبد الجبار: " لا تخلو الآية؛ إما أن يكون المراد بها أن جميع ما فعله الله سبحانه وتعالى فهو إحسان أو المراد أن جميعه حسن. ولما كان لا يجوز أن يكون المراد بها الإحسان؛ لأن في أفعاله تعالى ما لا يكون إحسانا كالعقاب، فليس إلا أن المراد بها الحسن على ما نقول، إذا ثبت هذا ومعلوم أن أفعال العباد تشتمل على الحسن والقبيح، فلا يجوز أن تكون
(1) سورة السجدة الآية 7
مضافة إلى الله تعالى " (1).
مناقشة الشبهة:
يقال لهم: ليس " أحسن " من معنى " حسن "؛ وإنما معناها أنه يحسن ويعلم كيف يخلق، كما يقال: فلان يحسن الظلم، ويحسن السفه، ويحسن فعل الخير والجميل، أي: يعلم كيف يفعل ذلك (2).
يقول ابن الجوزي: " قوله تعالى: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (3) الآية، أي: لم يتعلمه من أحد كما يقال: فلان يحسن كذا، إذا علمه، قاله مقاتل والسدي "(4)، وعلى ذلك، فقولهم: إن أحسن من معنى حسن باطل، وعليه فيبطل استدلالهم بالآية، وقد سبق الرد على مثل هذه الشبهة في الرد على الشبهة الأولى.
ومن شبه القدرية قولهم:
لما كانت القبائح - من الكفر والظلم والمعاصي وغير ذلك - كلها غير متقنة ولا حسنة قطعنا بأن الله لم يخلقها.
كما قالوا: إن هذه القبائح لو كانت مرادة لكان الله مريدا خلاف ما يأمر به، وهذا سفه، أو لكان الفاعل لهذه الأشياء موافقا لمراد الله فيكون مثابا طائعا، ولو كانت مرادة لله لوجب الرضا بها، ومعلوم أن الرضا
(1) شرح الأصول الخمسة ص (357).
(2)
التمهيد للباقلاني ص (312).
(3)
سورة السجدة الآية 7
(4)
زاد المسير في علم التفسير (6/ 334).
بالكفر كفر، فوجب ألا تكون مرادة لله.
ونرد على هذه الشبهة بأن نقول: إن هذه الشبهة ناشئة من أمرين:
أحدهما: عدم التفريق بين الخلق والمخلوق.
الثاني: عدم التفريق بين نوعي الإرادة والأمر، والظن بأن الإرادة توافق الأمر، وتستلزم المحبة والرضا دائما.
وبمعرفة الصواب في هاتين المسألتين تزول أكثر الإشكالات في هذا الباب، كما أنه يمكن الرد على كل الشبه التي يثيرها القدرية، والتأويلات التي يؤولون بها النصوص الشرعية المخالفة لآرائهم بذلك.
- فأما المسألة الأولى، وهي الفرق بين الخلق والمخلوق، فالصواب في ذلك ما عليه أهل الحق أهل السنة والجماعة من أن الفعل غير المفعول، والخلق غير المخلوق، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: في بيان هذه المسألة: " والتحقيق ما عليه أئمة السنة، وجمهور الأئمة، من الفرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق، فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة، مفعولة لله، كما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة مفعولة لله، وليس ذلك نفس خلقه وفعله، بل هي مخلوقة ومفعولة، وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به ليست قائمة بالله، ولا يتصف بها، فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته، وإنما يتصف بخلقه وفعله، كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته، والعبد فاعل لهذه الأفعال، وهو المتصف بها، وله عليها قدرة، وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل
العبد، وهي مفعولة للرب " (1).
ففرق بين فعل الله تعالى القائم به، ومفعولاته المنفصلة عنه الكائنة بفعله، يقول الحافظ ابن القيم:" اعلم أن الرب سبحانه فاعل غير منفعل، والعبد فاعل منفعل، وهو في فاعليته منفعل للفاعل الذي لا ينفعل بوجه .. ".
ثم ذكر أمثلة وأدلة على ذلك، ومنها: نطق العبد، فإن نطقه حقيقة وإنطاق الله له حقيقة، كما قال سبحانه:{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (2).
ثم قال ابن القيم: " فالإنطاق فعل الله الذي لا يجوز تعطيله، والنطق فعل العبد الذي لا يمكن إنكاره، كما قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (3)، فعلم أن كونهم ينطقون هو أمر حقيقي حتى شبه به في تحقيق كون ما أخبر به، وأن هذا حقيقة لا مجاز ". (4).
فالحق " أن الله سبحانه أفعل العبد، والعبد فعل، فهو الذي أقام العبد، وأضله، وأماته، والعبد هو الذي قام وضل ومات ". (5).
(1) مجموع الفتاوى (2/ 119 - 120)، وانظر أيضا:(6/ 230 - 232).
(2)
سورة فصلت الآية 21
(3)
سورة الذاريات الآية 23
(4)
شفاء العليل ص (285).
(5)
المصدر السابق ص (288).
والصواب أن الشر لا يضاف إلى الرب لا وصفا ولا فعلا، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " ولهذا لا يجيء في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إضافة الشر وحده إلى الله، بل لا يذكر الشر إلا على أحد وجوه ثلاثة:
إما أن يدخل في عموم المخلوقات
…
وإما أن يضاف إلى السبب الفاعل وإما أن يحذف فاعله.
فالأول: كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (1)، ونحو ذلك.
وأما حذف الفاعل فمثل قول الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} (2).
وإضافته إلى السبب كقوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (3) وقوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} (4) ".
وعلى هذا يقال في الرد على شبهة القدرية: إنه لا تناقض بين كون فعل الله وخلقه حسنا ومتقنا، ووجود القبائح والمعاصي التي هي من مخلوقات الله، فخلق الله الذي هو فعله، وصفته كله حسن وخير، أما مخلوقاته فهي موطن الانقسام.
(1) سورة الزمر الآية 62
(2)
سورة الجن الآية 10
(3)
سورة الفلق الآية 2
(4)
سورة الكهف الآية 79
وأما المسألة الثانية وهي خلطهم بين الإرادة والأمر، والمحبة والرضا، فإن الحق والصواب هو التفريق بين الإرادة والأمر الكوني، والإرادة والأمر الديني الشرعي، وأن النوع الأول يستلزم الوقوع ولا يستلزم المحبة والرضا، بخلاف الثاني فإنه مستلزم للمحبة والرضا غير مستلزم للوقوع.
فلا يصح إطلاق القول بأن الله مريد لهذه القبائح، ولا أنه غير مريد لهذه القبائح، ولا أنه غير مريد له، بل لا بد من الاستفصال، فإن أريد بكونه مريدا لها الإرادة الكونية القدرية فنعم، وإن أريد الإرادة الدينية الشرعية فلا.
وعلى هذا فقد يريد الله ما لا يحبه ولا يرضاه، وذلك كالكفر الواقع. إنه مراد كونا وقدرا، وغير محبوب ولا مرضي، وقد يحب سبحانه وتعالى ما لا يريده كونا وقدرا، وذلك كمحبته الإيمان من الكفار الذي لم يرد الله أن يهديهم.
وبهذا التفصيل وبمعرفة الفرق بين الإرادتين يزول الإشكال.
يقول ابن القيم: " فإذا قيل: هو مريد للشر أوهم أنه محب له، راض به، وإذا قيل: إنه لم يرده أوهم أنه لم يخلقه، ولا كونه، وكلاهما باطل، ولذلك: إذا قيل إن الشر فعله أو أنه يفعل الشر، أوهم أن الشر فعله القائم به، وهذا محال، وإذا قيل: لم يفعله، أو ليس بفعل له، أوهم أنه لم يخلقه ولم يكونه، وهذا محال "(1).
(1) شفاء العليل ص (565).
وعلى هذا فلا تلازم بين خلق الله الشيء والرضا به.
ولا يلزم الرضا بكل ما خلق، بل من مخلوقاته ما لا يجوز الرضا به، كالكفر والفساد، كما قال تعالى:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (1)، وقال تعالى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (2).
كما أنه سبحانه لا يأمر شرعا بكل ما يريده كونا، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} (3).
وبهذا ندرك أن الله تعالى خالق كل شيء، وأن وجود الشرور والفساد والقبائح في مخلوقاته لا يخرجها عن كونها مخلوقة له، ولا يلزم من كون الله خالقا لها تنقص ولا قدح في ذات الرب ولا صفاته سبحانه وتعالى؛ لأن إيجاد الله سبحانه وتعالى ومشيئته لها لحكم يعلمها عز وجل، منها الاختبار للعباد.
وأما تأويلهم للآيات التي علقت الهداية بمشيئة الله، كقوله تعالى:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (4)، ونحوها من الآيات التي أولوها، على معنى: لو شئنا لأجبرناهم على الإيمان، ولكن هذا لم يحصل (5).
فالجواب عنه: بأن نعلم أن القدرية إنما أرادوا بهذا التأويل نفي هداية
(1) سورة الزمر الآية 7
(2)
سورة البقرة الآية 205
(3)
سورة الأعراف الآية 28
(4)
سورة السجدة الآية 13
(5)
انظر متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار ص 371، وشرح الأصول الخمسة ص 362.
التوفيق والإلهام من الله، وهذا النفي باطل، فإن الآية تدل على ذلك، وهي كقوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ} (1) وهذا لم يحصل؛ لأن الله سبحانه إنما وفق للإيمان بعضهم دون بعض (2)، حكمة منه وفضلا، فهداية البيان والدلالة عامة، وأما هداية التوفيق والإلهام فهي خاصة، يختص الله بها من يشاء من عباده، كما قال سبحانه:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (3).
ثم إن زعمهم بأن معنى الآية: لو شئنا لأجبرناهم وألجأناهم إلى الإيمان، ولكن هذا لم يحصل لئلا تزول حكمة التكليف، هذا الزعم باطل؛ لأنه يقتضي أن الله تعالى لا يقدر أن يهديهم إلا بطريق الإلجاء، ولا يخفى ما في هذا من تنقص الرب تعالى، ونسبته إلى ما لا يليق به سبحانه وتعالى.
والحق أن هداية الله تعالى لعباده وتوفيقه لهم ليست من باب الإلجاء والاضطرار، ولو كانت من هذا الباب لم يسم ذلك إيمانا، ولم ينتفع به صاحبه.
يقول ابن القيم: في ذكره لرد أهل السنة والجماعة على شبهة القدرية هذه: " هذا كلام باطل، فإنه سبحانه قادر على أن يخلق فيهم
(1) سورة يونس الآية 99
(2)
انظر: معالم التنزيل للبغوي (3/ 499)، وتفسير ابن كثير (5/ 408)، وفتح القدير للشوكاني (4/ 252).
(3)
سورة البقرة الآية 272
مشيئة الإيمان وإرادته ومحبته، فيؤمنون بغير قسر ولا إلجاء، بل إيمان اختيار وطاعة، كما قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ} (1)، وإيمان القسر والإلجاء لا يسمى إيمانا، ولهذا يؤمن الناس كلهم يوم القيامة، ولا يسمى ذلك إيمانا؛ لأنه عن إلجاء واضطرار، قال تعالى:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (2).
وما يحصل للنفوس من المعرفة والتصديق بطريق الإلجاء والاضطرار والقسر لا يسمى هدى، وكذلك قوله:{أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} (3).
فقولكم: لم يبق طريق إلى الإيمان إلا بالقسر باطل، فإنه بقي إلى إيمانهم طريق لم يرهم الله إياه، وهو مشيئته وتوفيقه وإلهامه وإمالة قلوبهم إلى الهدى، وإقامتها على الصراط المستقيم، وذلك أمر لا يعجز عنه رب كل شيء ومليكه، بل هو القادر عليه كقدرته على خلقه ذواتهم
…
ولكنه عز وجل منع الكفار من ذلك لحكمته وعدله فيهم، وعدم استحقاقهم وأهليتهم لبذل ذلك لهم، كما منع السفل خصائص العلو، ومنع الحار خصائص البارد، ومنع الخبيث خصائص الطيب، ولا يقال: فلم فعل هذا؟ فإن ذلك من لوازم ملكه وربوبيته، ومن مقتضيات
(1) سورة يونس الآية 99
(2)
سورة السجدة الآية 13
(3)
سورة الرعد الآية 31
أسمائه وصفاته
…
(1).
وأما تأويلهم قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} (2)، بمعنى: يكلف من يريد، أو الهداية إلى الثواب، فهذا خلاف ظاهر الآية، بل معناها: أنه سبحانه يهدي من يشاء إلى طريق الحق ابتداء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في ذلك (3).
ويجوز أن يكون معناها أنه سبحانه يزيد من اهتدى هدى (4).
وتأويلهم لهذه الآية ونحوها بمعنى: يكلف من يريد، باطل، فإن التكليف عام، والهدى المذكور في الآية خاص، والهدى للثواب حاصل لكل من استحقه، بل ذلك واجب على أصل القدرية، فلا يكون للتقييد بالإرادة معنى، فوجب أن يكون الهدى المذكور خاصا ببعض المكلفين، وليس هذا إلا التوفيق الذي يمن الله به على من يشاء من عباده، وهم المؤمنون المهتدون.
وقد رد عليهم الجويني في تأويلهم للهداية على معنى الإرشاد إلى طريق الجنان، كما في قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5)، فقال: (فخصص الهداية وعمم الدعوة.
(1) شفاء العليل ص (191 - 192).
(2)
سورة الحج الآية 16
(3)
انظر تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار ص (271).
(4)
انظر: تفسير ابن كثير (4/ 621)، وفتح القدير للشوكاني (3/ 441).
(5)
سورة يونس الآية 25
ولا وجه لحملها على الإرشاد إلى طريق الجنان، فإن الله تعالى علق الهداية على مشيئته وإرادته واختياره، وكل مستوجب الجنان فحتم على الله - عند المعتزلة - أن يدخله الجنة). (1).
وأما تأويلهم إضلال الله تعالى لبعض خلقه على معنى: وجده ضالا، أو عاقبه، أو حكم عليه وسماه، وشهد عليه بذلك، وجعل له علامة على ذلك، أو أضله عن زيادة الهدى، أو عن طريق الجنة، وحملهم آيات الإضلال على ذلك فغير صحيح، لا لغة ولا شرعا (2).
يقول أبو الحسن الأشعري في رده على تأويلات القدرية هذه: (فمن أين وجدتم في لغة العرب أن يقال: أضل فلان فلانا، أي: سماه ضالا؟ فإن قالوا: وجدنا القائل يقول: إذا قال رجل لرجل ضال: " قد ضللته "، قيل لهم: قد وجدنا العرب يقولون: " ضلل فلان فلانا " إذا سماه ضالا، ولم نجدهم يقولون: " أضل فلان فلانا " بهذا المعنى، فلما قال الله عز وجل: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} (3)، لم يجز أن يكون معنى ذلك الاسم والحكم، إذا لم يجز في لغة العرب أن يقال:" أضل فلان فلانا " إذا سماه ضالا، بطل تأويلكم إذ كان خلاف لسان العرب). (4).
(1) الإرشاد للجويني ص (212).
(2)
انظر متشابه القرآن ص (65 - 67).
(3)
سورة إبراهيم الآية 27
(4)
الإبانة للأشعري ص (66، 67).
فسياق النصوص الشرعية يبطل تأويلات القدرية، ويبين أنها قيلت وصيغت بعيدا عن النصوص الشرعية، ثم حاولوا بعد ذلك تأويل النصوص التي تخالفها لتوافق هذه المعاني التي سطروها، والتي لا تتوافق مع بدعتهم وضلالهم.
ومن الآيات الصريحة في ذلك قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} (1)، وقوله تعالى:{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (2)، وقوله:{إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} (3).
فهذه النصوص وغيرها صريحة في خلق الله تعالى للضلالة، وفيها إبطال لهذه التأويلات البعيدة التي لا تشهد لها لغة ولا شرع.
يقول ابن القيم: عن تحريفات القدرية للنصوص بما ذكروه من معان باطلة: " فهذه أربع تحريفات لكم، وهو أنه سماهم بذلك، وعلمهم بعلامة يعرفهم بها الملائكة، وأخبر عنهم بذلك، ووجدهم كذلك.
فالإخبار من جنس التسمية، وقد بينا أن اللغة لا تحتمل ذلك، وأن النصوص إذا تأملها المتأمل وجدها أبعد شيء من هذا المعنى.
(1) سورة الجاثية الآية 23
(2)
سورة الرعد الآية 33
(3)
سورة الكهف الآية 57
وأما العلامة فيا عجبا لفرقة التحريف وما جنت على القرآن والإيمان! ففي أي لغة وأي لسان يدل قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (1) على معنى: إنك لا تعلمه بعلامة، ولكن الله هو الذي يعلمه بها، وقوله:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} (2) من يعلمه الله بعلامة الضلال لم يعلمه غيره بعلامة الهدى
…
وفي أي لغة يفهم من قول الداعي: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (3) علمنا بعلامة يعرف الملائكة بها أننا مهتدون، وقولهم:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (4) لا تعلمها بعلامة أهل الزيغ
…
" (5).
وأما قولهم بأن الله نسب الإضلال إلى الكفار والشياطين فيقال: نعم، إن الإضلال قد يحصل من هؤلاء، ولكن لا بمعنى الخلق، بل بمعنى التزيين والإغراء والإغواء، والفرق بين الأمرين ظاهر.
ثم إن الشبهة التي نفوا بها أفعال الله من الإضلال ونحوه (6)، حيث زعموا أنه يلزم من نسبة هذه الأفعال إلى الله الظلم منه تعالى لعباده، فهذه الشبهة ناشئة من مذهبهم العقلي، وتشبيههم الله بخلقه.
(1) سورة القصص الآية 56
(2)
سورة الأعراف الآية 186
(3)
سورة الفاتحة الآية 6
(4)
سورة آل عمران الآية 8
(5)
شفاء العليل ص (179)، وانظر أيضا ص (177، 121، 140).
(6)
انظر المغني للقاضي عبد الجبار (8/ 193)، وشرح الأصول الخمسة ص (779).
فعندهم أن ما حسن من المخلوق حسن من الخالق، وما قبح من المخلوق قبح من الخالق، وهذا الكلام ليس على إطلاقه، فالله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) " كما أننا لا نحيط علما بحكمته سبحانه، وإن كنا نقطع أن الله سبحانه حكيم عليم، وأن جميع أفعاله لحكم وغايات محمودة قد ندرك بعضها، ونجهل الكثير منها.
ومما يزيل الشبهة في ذلك أيضا التفريق بين الخلق والمخلوق كما سبق إيضاحه، فلا تلازم بين فعل الله ومفعولاته، ففعله سبحانه كله حسن وحكمة وخير، وأما مفعولاته ففيها الخير والشر، والصلاح والفساد، والجميع خلقه سبحانه وتعالى.
- وأما تأويلاتهم الطبع والختم على القلوب وجعل الأكنة عليها على معنى تسميتها بذلك، أو وسمها، أو الحكم والشهادة عليهم بذلك (2) " فهذه التأويلات لا يشهد لها شرع، ولا لغة، بل هي من بدع القدرية، وقد قصدوا بها إنكار أن يكون لله أي فعل حقيقي في إضلال من ضل من عباده، والختم والطبع على بعض القلوب بحيث يمتنع عليها قبول الهداية أو الخروج من الغواية.
ومما يدل على بطلان تأويلاتهم هذه أن الله سبحانه ذكر الطبع والختم ونحو ذلك في معرض امتناع الإيمان منهم لأجل ذلك (3)، كما قال
(1) سورة الشورى الآية 11
(2)
انظر: الكشاف للزمخشري (1/ 158)، ومتشابه القرآن ص (53).
(3)
انظر: تأويلات الطبع والرد عليها في: المواقف ص (319).
تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (1)، وقال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} (2).
ومعنى الآية: أن الله أضله عالما به وبأقواله وما يناسبه ويليق به، ولا يصلح له غيره قبل خلقه وبعده، وأنه أهل للضلال وليس أهلا أن يهدى.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الإضلال نوعان:
- أحدهما: عقوبة لمن رد الحق، أو أعرض عنه فلم يقبله، فإنه يصرف عنه ويختم على قلبه.
- والثاني: إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى ولا يليق به، وأن محله غير قابل له، فالله أعلم حيث يضع هدايته وتوفيقه (3).
وعلى كلا الأمرين: فالإضلال والختم والطبع هو من فعل الله وهو مانع من قبول الحق واعتناقه.
يقول ابن كثير: في معرض رده على الزمخشري في تأويله للختم على القلوب، بعد أن ذكر أن تأويلاته كلها ضعيفة: وما جرأه على ذلك
(1) سورة النساء الآية 155
(2)
سورة الجاثية الآية 23
(3)
انظر: شفاء العليل ص (68 - 70).
إلا اعتزاله؛ لأن الختم على قلوبها، ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده، تعالى الله عنه في اعتقاده، ولو فهم قوله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (1)، وقوله:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (2)، وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق، وهذا عدل منه تعالى حسن، وليس بقبيح، فلو أحاط علما بهذا لما قال ما قال (3).
وهذه الردود على القدرية تدل على فساد قولهم وتأويلاتهم الباطلة: (فإن اطراد قولهم ولازمه وحاصله هو إخراج أفعال العباد عن خلقه وملكه وأنها ليست داخلة في ربوبيته عز وجل، فلا يستعينون على طاعته ولا ترك معصيته، ولا يعوذون به من شرور أنفسهم، ولا سيئات أعمالهم، ولا يهتدون الصراط المستقيم، فقول: إياك نعبد وإياك نستعين وقول: لا حول ولا قوة إلا بالله لا معنى له عندهم، وربما استنكروه، كما جحدوا قوله تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4). هذا مع إنكارهم علم الله عز وجل وقدرته ومشيئته وإرادته،
(1) سورة الصف الآية 5
(2)
سورة الأنعام الآية 110
(3)
تفسير ابن كثير (1/ 81).
(4)
سورة الأنعام الآية 39