الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأول من قال بهذا المذهب الباطل هو الجعد بن درهم، وعن الجعد بن درهم أخذ هذا المذهب تلميذه الجهم بن صفوان مؤسس فرقة الجهمية. فقد تلقى عنه هذه البدعة مع بدع أخرى أصبحت فيما بعد من أسس الجهمية، حتى أن هذه الفرقة هي التي قامت بهذا المذهب ونشرته وأيدته ببعض الشبهات الباطلة، وأصبح يطلق عليهم الجبرية لقولهم بهذا المذهب الباطل، وقد تبعهم على ذلك الأشاعرة.
ب -
عقيدتهم في القدر:
عقيدة الجبرية في هذه المسألة أنه لا فعل لأحد غير الله تعالى، والإنسان مجبور على عمله، والأعمال تنسب إليه مجازا كما تنسب إلى
الجماد، فالإنسان والجماد لا يختلفان، فكتب فلان وقتل مجاز كما يقال: أثمر الشجر وتحرك الحجر.
والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال جبر: وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضا كان جبرا (1).
يقول البغدادي: (وقال - أي الجهم - لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز كما يقال: زالت الشمس ودارت الرحى من غير أن تكونا فاعلتين أو مستطيعتين لما وصفتا به)(2).
ويقول الشهرستاني - وهو يعدد آراء الجهم بن صفوان -: (
…
ومنها قوله في القدرة الحادثة: إن الإنسان ليس يقدر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور في أفعاله، لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار، وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وينسب إليه الأفعال مجازا، كما ينسب إلى الجمادات، كما يقال: أثمرت الشجرة وجرى الماء
…
إلى غير ذلك، والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال جبر، وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضا جبر) (3).
ج - شبهاتهم والردود عليها:
عرفنا أن الجبرية أثبتوا مشيئة الله العامة، وخلقه الشامل، ونفوا
(1) انظر: التبصير في الدين (107)، والفصل (3/ 22)، والملل والنحل (1/ 110 - 111)
(2)
الفرق بين الفرق ص (211)
(3)
الملل والنحل (1/ 110 - 111)
ذلك عن العبد، واستدلوا على ذلك بكثير من نصوص الشرع منها:
قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (1).
وقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (2).
وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3).
وقوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (4).
وقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (5).
وغير ذلك من الآيات التي زعموا أنها تدل على أقوالهم الباطلة.
وقبل الرد على استدلالهم بالآيات السابقة لا بد من بيان أنهم أخطئوا في جانبين:
الأول: زعمهم أن كل ما قدره الله وأراده فإنه يحبه ويرضاه، أن ما وقع في الأرض من الكفر والفسوق والعصيان محبوب ومراد لله ما دام الله قد خلقه؛ لأنه في زعمهم لا يخلق إلا ما يحبه ويريده (6)، وكلامهم هذا
(1) سورة الزمر الآية 62
(2)
سورة الرعد الآية 16
(3)
سورة التكوير الآية 29
(4)
سورة الأنفال الآية 17
(5)
سورة الواقعة الآية 64
(6)
مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 127).
باطل لأنهم ظنوا أن كل مخلوق لا بد أن يكون محبوبا ومرادا لله، فخلطوا بين الإرادتين؛ الإرادة الكونية والإرادة الدينية الشرعية، فالإرادة الكونية تستلزم وقوع المراد، وهو ما قدره الله عز وجل وشاءه من الحوادث، والتي منها الكفر وسائر المعاصي والله عز وجل أرادها ولم يأمر بها ولم يرضها ولم يحبها؛ لأن الله عز وجل لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا مشيئة الله وقدرته وخلقه لما كانت، ولما وجدت، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومن أدلة هذا النوع قوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (1). وأما النوع الثاني من الإرادة فهو الإرادة الدينية الشرعية وهي التي تستلزم محبة المراد ورضاه، ومحبة أهله، والرضا عنهم، والتي منها ما أمر الله به عز وجل من الأعمال الصالحة، فإن الله عز وجل أراد ذلك دينا وشرعا، فأمر به وأحبه ورضيه، وأراده إرادة كون فوقع، ولولا ذلك لما كان، ومن أدلة هذا النوع قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2).
الثاني: أنهم سلبوا العبد قدرته ومشيئته واختياره، وهذا الزعم في الحقيقة مخالف للشرع والعقل والحس.
والأدلة الشرعية متضافرة في نسبة أفعال العباد إليهم، وأن العبد يمدح أو يذم على ما يصدر عنه من أفعال ممدوحة أو مذمومة، وليس لأحد أن يفعل
(1) سورة البقرة الآية 253
(2)
سورة البقرة الآية 185
المعاصي ويحتج بأنه مسلوب القدرة والاختيار، وأنه فعل ما فعل مجبرا دون إرادة منه.
ويقول ابن الوزير اليماني: (وقد تتبعت القرآن والسنة والآثار الصحابية فلم أجد لما ادعوه في ذلك أصلا، بل وجدت النصوص في جميع هذه الأصول رادة لهذه البدعة)(1).
ثم ذكر كثيرا من الآيات والأحاديث والآثار الدالة على أن العباد هم الفاعلون حقيقة، فالنصوص الشرعية متواترة في بيان أن للعبد قدرة ومشيئة، كما قال تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (2)، وقال تعالى:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (3)، وقال تعالى:{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} (4)، وقال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} (5) وغير ذلك من الآيات.
(1) إيثار الحق على الخلق ص (330).
(2)
سورة التكوير الآية 28
(3)
سورة البقرة الآية 79
(4)
سورة آل عمران الآية 112
(5)
سورة فصلت الآية 46
وكما أن هذا المذهب النافي لقدرة العبد واختياره مخالف للشرع فهو مخالف للحس كذلك، فإن الشخص السوي يشعر ويعلم بأن له قدرة واختيارا، ويفرق بين أفعاله التي يفعلها باختياره كصلاته ومشيه ونحو ذلك، وبين ما يصدر عنه من أفعال لا قدرة له فيها ولا اختيار، كحركة يد المرتعش، ونبضات القلب.
فالجبر الذي أنكره سلف الأمة وعلماء السنة هو أن يكون الفعل صادرا عن الشيء من غير إرادة ولا مشيئة ولا اختيار، مثل حركة الأشجار بهبوب الريح، وحركة المحموم والمرتعش، فإن كل عاقل يجد تفرقة بديهية بين قيام الإنسان وقعوده وصلاته وجهاده وزناه وسرقته، وبين انتفاض المحموم، ونعلم أن الأول قادر على الفعل، مريد له مختار، وأن الثاني غير قادر عليه، ولا مريد له، ولا مختار، والجبرية جعلوا جميع أفعال العباد من قسم الاضطرار، وهو قول ظاهر الفساد؛ إذ إن كل شخص يفرق بين فعله الاضطراري، وفعله الاختياري (1).
وقول الأشاعرة مثل قول الجبرية في ذلك - كما سبق - إلا أن الأشاعرة قالوا بالكسب، وهذا المذهب في الحقيقة يرجع إلى الجبر، فهم فسروا الكسب بأنه عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، من غير أن يكون لها أثر فيه، وعليه فما دام العبد ليس بفاعل ولا له قدرة مؤثرة في الفعل، فالزعم بأنه كاسب وتسمية فعله كسبا لا حقيقة له، فإنه لا يمكن
(1) انظر: مجموع الفتاوى (8/ 393 - 394، 463)، وشفاء العليل ص (312 - 313).
أن يوجد فرق بين الفعل الذي نفي عن العبد والكسب الذي أثبت له (1).
ثم إنه (من المستقر في فطر الناس أن من فعل العدل هو عادل، ومن فعل الظلم فهو ظالم، ومن فعل الكذب فهو كاذب، فإذا لم يكن العبد فاعلا لكذبه وظلمه وعدله، بل الله فاعل ذلك لزم أن يكون هو المتصف بالكذب والظلم)(2)، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
فالأشاعرة لم يجعلوا العبد فاعلا حقيقة، بل جعلوا ما يصدر عنه من أفعال حاصلا بالقدرة القديمة عند الاقتران بالقدرة الحادثة، دون أن يكون للعبد أي تأثير في الفعل.
يقول الإيجي مقررا مذهب الأشاعرة في هذا الأمر: (المقصد الأول في أفعال العباد الاختيارية وأنها واقعة بقدرة الله وحدها وليس بقدرتهم تأثير فيها، بل الله تعالى أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما فيكون فعل العبد مخلوقا لله إبداعا وإحداثا، ومكسوبا للعبد، والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون منه تأثير). (3).
والظاهر أن الذي حملهم على ذلك هو عدم تصورهم للجمع بين كون الله خالقا لأفعال العباد، وكون العباد فاعلين حقيقة، وهم بقولهم هذا أرادوا أن
(1) انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة ص (1419).
(2)
مجموع الفتاوى (8/ 119 - 120).
(3)
انظر المواقف في علم الكلام للإيجي ص (237).
يوفقوا بين الجبرية والقدرية ولكنهم عجزوا عن فهمها فضلا عن إفهامها لغيرهم.
وقد بين هذا الأمر شيخ الإسلام ابن تيمية: وأزال ما فيه من اشتباه فقال: " قول القائل: هذا فعل هذا، وفعل هذا،
…
لفظ فيه إجمال، فإنه تارة يراد بالفعل نفس الفعل، وتارة يراد به مسمى المصدر - أي المفعول - فيقول: فعلت هذا أفعله فعلا، وعملت هذا أعمله عملا، فإذا أريد بالعمل نفس الفعل الذي هو مسمى المصدر، كصلاة الإنسان وصيامه ونحو ذلك، فالعمل هنا هو المعمول، وقد اتحد هنا مسمى المصدر والفعل، وإذا أريد بذلك ما يحصل بعمله كنساجة الثوب، وبناء الدار، ونحو ذلك، فالعمل هنا غير المعمول، قال تعالى:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} (1)، فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن.
والمقصود هنا أن القائل إذا قال هذه التصرفات فعل الله أو فعل العبد، فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعنى المصدر فهذا باطل باتفاق المسلمين، وبصريح العقل، ولكن من قال: هي فعل الله، وأراد به أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات فهذا حق
…
" (2).
(1) سورة سبأ الآية 13
(2)
أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل (8/ 121 - 122).
وعلى هذا فإضافة الفعل إلى العبد هي من باب إضافة المسبب إلى سببه، وإضافته إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى الخالق.
يقول ابن القيم: (الفعل وقع بقدرة الرب خلقا وتكوينا، كما وقعت سائر المخلوقات بقدرته وتكوينه، وبقدرة العبد سببا ومباشرة، والله خالق الفعل، والعبد فعله وباشره، والقدرة الحادثة وأثرها واقعان بقدرة الرب ومشيئته). (1).
وأما استدلالهم بالآيات التي قد يفهم من ظاهرها سلب العبد قدرته واختياره، وأن الفاعل هو الله وحده، كقوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (2)، وقوله تعالى:{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} (3)، ونحو ذلك من الآيات
…
فيقال فيه: نعم، إن ظاهر قوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (4) أنه سبحانه هو الخالق وحده، وما سواه مخلوق، وهذا حق، فالله سبحانه بذاته وصفاته الخالق، وكل ما عداه فهو مخلوق، ولا يخص شيء من هذا العموم، فتدخل أفعال العباد من جمله المخلوقات، ولكن لا يلزم من قولنا: إن الله خالق أفعال العباد، أن يكون العباد مجبورين ومضطرين على أفعالهم، بل لهم قدرة ومشيئة واختيار، كما جاءت بذلك النصوص الشرعية، وليس في إثبات القدرة
(1) شفاء العليل ص (311).
(2)
سورة الزمر الآية 62
(3)
سورة الرعد الآية 16
(4)
سورة الزمر الآية 62
والاختيار للعبد جعل خالق مع الله، وإثبات شريك له، بل الله سبحانه هو الخالق، والعباد فاعلون مختارون حقيقة غير خالقين لأفعالهم، ولا مضطرين عليها (1)، وهذا معلوم بالاضطرار حسا وشرعا.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2) فنقول: إن هذه الآية تثبيت لمشيئة الله سبحانه وتعالى وحده، وهذا حق، ولكنها تدل أيضا على إثبات المشيئة للعباد، وهذا يؤيد قول أهل السنة بإثبات المشيئة للعباد ولكنها واقعة وخاضعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى، وهذه الآية قد استدل بها المعتزلة على مذهبهم، وهذا يبين بطلان قول كل من المعتزلة والجبرية، وأن أدلة كل طرف ترد على أدلة الطرف الآخر؛ لأن كلا منهم أخذ بشيء من الدليل وترك شيئا.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (3)، فهو في الحقيقة دليل عليهم لا لهم، وليس فيه دليل على قولهم، وذلك أن القتل الذي حصل في وقعة بدر، والتي نزلت فيها هذه الآيات إنما حصل بأمور خارجة عن قدرتهم، مثل إنزال الملائكة، وإلقاء الرعب في قلوبهم، فقتلهم حاصل بأمر خارج للعادة، ولم ينفرد المسلمون بقتلهم، بل قتلهم الملائكة، فصارت رؤوس
(1) انظر شفاء العليل ص (118).
(2)
سورة التكوير الآية 29
(3)
سورة الأنفال الآية 17
المشركين تطير قبل وصول السلاح إليها بالإشارة (1).
وكذلك الرمي، لم يكن في قدرته صلى الله عليه وسلم أن التراب يصيب أعينهم كلهم، فهذا الرمي الخارج عن قدرة العباد المعتادة هو الذي نفاه الله عنه، فلم يكن من فعله صلى الله عليه وسلم بل من فعل الله، فالرمي يراد به الحذف والطرح، كما يراد به الإيصال والإصابة، فنفى عنه الإيصال والإصابة، بقوله:{وَمَا رَمَيْتَ} (2)، وأثبت له الطرح والحذف بقوله:{إِذْ رَمَيْتَ} (3)، ثم قال:{وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (4) أي: أصاب.
يقول الإمام البغوي: في هذه الآية: (ليس في وسع أحد من البشر أن يرمي كفا من الحصى إلى وجوه جيش فلا يبقى فيهم عين إلا ويصيبها منه شيء، وقيل: معناه: وما بلغت إذ رميت، ولكن الله بلغ). (5).
ويقول العلامة ابن القيم: (اعتقد جماعة أن المراد بالآية: سلب فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، وإضافته إلى الرب تعالى، وجعلوا ذلك أصلا في الجبر، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد، وتحقيق نسبتهما إلى الرب وحده. وهذا غلط منهم في فهم القرآن. فلو صح ذلك لوجب طرده في جميع الأعمال، فيقال: ما صليت إذ صليت، وما صمت إذ صمت، وما ضحيت إذ ضحيت، ولا فعلت كل فعل إذ فعلته، ولكن الله فعل ذلك؛ فإن طردوا
(1) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 633).
(2)
سورة الأنفال الآية 17
(3)
سورة الأنفال الآية 17
(4)
سورة الأنفال الآية 17
(5)
معالم التنزيل للبغوي (2/ 238)، وانظر تفسير ابن كثير (3/ 295).
ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد - طاعاتهم ومعاصيهم - إذ لا فرق؛ فإن خصوه بالرسول صلى الله عليه وسلم وحده وأفعاله جميعها، أو رميه وحده: تناقضوا. فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية.
وبعد. فهذه الآية نزلت في شأن رميه صلى الله عليه وسلم المشركين يوم بدر بقبضة من الحصباء، فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصابته، ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ. فكان منه صلى الله عليه وسلم مبدأ الرمي. وهو الحذف، ومن الله سبحانه وتعالى: نهايته، وهو الإيصال، فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه، ونفى عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته، ونظير هذا قوله في الآية نفسها:{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} (1). ثم قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (2) فأخبره: أنه هو وحده هو الذي تفرد بقتلهم، ولم يكن ذلك بكم أنتم، كما تفرد بإيصال الحصى إلى أعينهم، ولم يكن ذلك من رسوله، ولكن وجه الإشارة بالآية: أنه سبحانه أقام أسبابا ظاهرة، كدفع المشركين، وتولي دفعهم، وإهلاكهم بأسباب باطنة غير الأسباب التي تظهر للناس، فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافا إليه، وبه وهو خير الناصرين (3).
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (4).
(1) سورة الأنفال الآية 17
(2)
سورة الأنفال الآية 17
(3)
مدارج السالكين (3/ 426 - 427).
(4)
سورة الواقعة الآية 64
فالجواب: أن معنى الآية: أأنتم تنبتونه وتجعلونه زرعا، أم نحن المنبتون له، الجاعلون له زرعا لا أنتم؟ (1).
يقول ابن كثير في تفسير الآية: " {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} (2) أي: تنبتونه، {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (3) أي: بل نحن الذين نقره قراره وننبته في الأرض ". (4).
فالله سبحانه نفى عنهم قدرتهم على إنبات ما حرثوا، ولهذا أثبت لهم فعل الحرث، الذي هو وضع الحب في باطن الأرض، كما قال في الآية التي قبل هذه الآية:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} (5)، فأثبت لهم فعلا لقدرتهم عليه، وهو الحرث، ونفى عنهم ما هو خارج عن قدرتهم، وهو الإنبات.
والجواب عن بقية الآيات التي ربما يستدل بها الجبرية ومن قاربهم لا يخرج في الغالب عن نحو الجواب عن الآيات التي سبق إيرادها، كما أنه بفهم المسائل التي سبق طرقها وبيان الحق فيها تزول الإشكالات والشبه التي تثيرها الجبرية وتفهم الآيات التي يدعون فيها التعارض، ويتضح وجهها ومعناها، وأن قول سلفنا الصالح أهل السنة والجماعة هو القول الوسط الذي يتفق مع نصوص الكتاب والسنة، وقول الجبرية قول فاسد باطل مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة من السلف والخلف.
(1) انظر: زاد المسير (8/ 148)، فتح القدير (5/ 157).
(2)
سورة الواقعة الآية 64
(3)
سورة الواقعة الآية 64
(4)
تفسير ابن كثير (6/ 532)، وانظر: فتح القدير للشوكاني (5/ 157).
(5)
سورة الواقعة الآية 63