الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تكون رفاتا (ترابا) فإنها تبقى على حالها، ويعتنى بحياطتها وحفظها من الامتهان. والله يحفظكم.
(ص - ف - 69 وتاريخ 16/ 5 / 1381هـ)
صورة الجواب
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي
أمير منطقة الرياض المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فبالإشارة إلى هذه المعاملة الواردة إلينا منكم مناولة خادمكم والتي وردت إليكم من سمو وزير الداخلية برقم 1095 وتاريخ 26/ 5 / 1386هـ، حول ما كتب بجريدة الرياض في عددها رقم 74 وتاريخ 27/ 3 / 85هـ، عن موضوع المقابر القديمة التي تقع في وسط مدينة الرياض وتعترض الشوارع، وما ارتآه سموه من اتصالكم بنا لمعرفة رأينا حول ذلك، فقد جرى تأمل ما نوه عنه ووجدنا هذه المسألة قد بحثت سابقا، وجرى مخابرة حولها بيننا وبين الجهات المختصة، وقد كتب عنها كتابة مستوفاة (1) نلخص لكم منها ما يلي:
لا ريب أن الميت إذا وضع في قبره فقد تبوأ هذا المنزل وسبق إليه وصار داره ومنزله وهو حبس عليه، وقد سلمه أهله إلى ربه، فهذا أول منازل
(1) بتاريخ 10/ 2 / 76هـ وقد احتواها هذا الجواب.
الآخرة، وهو مرتهن فيه إلى يوم البعث والنشور، فلا يحل لأحد أن ينبشه ويخرجه من قبره وينقله إلى غيره إلا لغرض صحيح شرعا وهو ما كان من مصلحة الميت أو كف الأذى عنه ونحو ذلك وأما إذا كان لمصلحة غيره من الأحياء أو من الأموات فلا يحل، كما لا يجوز لأحد أن يهينه في قبره أو يطأ عليه أو يمشي فوقه أو يجلس عليه كما يأتي. قال الله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (1)، وقال تعالى ممتنا على عباده:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} (2){أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} (3)، وقال تعالى في سياق امتنانه على الإنسان في خلقه وتقديره وتيسيره السبيل:{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} (4)، وقال تعالى في قصة ابني آدم:{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} (5).
فدلت هذه الآيات الكريمات على عظم منة الله ورحمته وستره لابن آدم وأنه أكرمه بالدفن وستر عورته وسوأته، ولم يجعله مثل ميتة غيره من الحيوانات التي إذا ماتت طرحت على وجه الأرض كسائر الجيف تأكلها الطيور وتنهشها السباع وتسفي عليها الرياح فله الحمد والشكر على ذلك. ونبشه من قبره وإخراجه منه مخالف لهذا كله.
وهو أيضا مما يسبب كسر عظامه وإزالة كل عضو من محله ونحو ذلك
(1) سورة الإسراء الآية 70
(2)
سورة المرسلات الآية 25
(3)
سورة المرسلات الآية 26
(4)
سورة عبس الآية 21
(5)
سورة المائدة الآية 31
فيدخل في المثلة المنهي عنها، كما أخرج البخاري من حديث عبد الله بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنه نهى عن المثلة (1)» وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر (2)» رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخسف نعلي برجلي أحب إلي من أن أمشي على قبر (3)» رواه ابن ماجه. وعن عبد الله بن مسعود قال: لأن أطأ على جمرة أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم. رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن، «وعن عمرو بن حزم قال:" رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على قبر، فقال: يا صاحب القبر انزل من على القبر لا تؤذ صاحب القبر ولا يؤذيك (4)» رواه الطبراني في الكبير من رواية ابن لهيعة، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسره حيا (5)» رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه. وعن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها (6)» رواه أبو داود. وعن بشير مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة فإذا رجل يمشي على القبور عليه نعلان فقال: " يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك فنظر الرجل فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى
(1) صحيح البخاري المغازي (4192)، سنن أبي داود الحدود (4364).
(2)
صحيح مسلم الجنائز (971)، سنن أبي داود الجنائز (3228)، مسند أحمد (2/ 389).
(3)
سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1567).
(4)
مسند أحمد (5/ 223).
(5)
سنن أبي داود الجنائز (3207)، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616)، مسند أحمد (6/ 105).
(6)
صحيح مسلم الجنائز (972)، سنن الترمذي الجنائز (1050)، سنن أبي داود الجنائز (3229)، مسند أحمد (4/ 135).
بهما (1)» رواه أبو داود (2).
وقال ابن القيم رحمه الله: من تدبر نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبر والاتكاء عليه والوطء عليه علم أن النهي إنما كان احتراما لسكانها أن يوطأ بالنعال فوق رؤوسهم. ولهذا ينهى عن التغوط بين القبور، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الجلوس على الجمر حتى تحرق الثياب خير من الجلوس على القبر، ومعلوم أن هذا أخف من المشي بين القبور بالنعال، وبالجملة فاحترام الميت في قبره بمنزلة احترامه في داره التي كان يسكنها في الدنيا؛ فإن القبر قد صار داره، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم:«كسر عظم الميت ككسره حيا (3)» فدل على أن احترامه في قبره كاحترامه في داره. والقبور هي دار الموتى ومنازلهم ومحل تزاورهم، عليها تنزل الرحمة من ربهم، والفضل على محسنهم، فهي منازل المرحومين، ومهبط الرحمة، ويلقى بعضهم بعضا على أفنية قبورهم يتجالسون ويتزاورون كما تظافرت به الآثار. ومن تأمل (كتاب القبور) لابن أبي الدنيا رأى فيه آثارا كثيرة من ذلك، فكيف يستبعد أن يكون من محاسن الشريعة إكرام هذه المنازل عن وطئها بالنعال واحترامها، بل هذا من إتمام محاسنها. انتهى كلامه رحمه الله.
وأما كلام الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم فكثير معروف قال في " المغني ": (فصل): وإن تيقن أن الميت قد بلي وصار
(1) سنن النسائي الجنائز (2048)، سنن أبي داود الجنائز (3230)، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1568)، مسند أحمد (5/ 83).
(2)
والنسائي والقزويني.
(3)
سنن أبي داود الجنائز (3207)، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616)، مسند أحمد (6/ 105).
رميما جاز نبش قبره ودفن غيره فيه، وإن شك في ذلك رجع إلى أهل الخبرة، وإن حفر فوجد عظما دفنها وحفر في مكان آخر نص عليه الإمام أحمد، واستدل بأن كسر عظم الميت ككسر عظم الحي. اهـ.
قال في (الإقناع وشرحه): ولا ينبش قبر ميت باق لميت آخر؛ أي يحرم ذلك لما فيه من هتك حرمته. ومتى علم، ومرادهم ظن، أنه بلي وصار رميما جاز نبشه ودفن غيره فيه. إلى أن قال: وإذا صار رميما جازت الزراعة والحراثة وغير ذاك كالبناء، وإلا فلا. والمراد إذا لم يخالف شرط الواقف لتعيينه الجهة، فإن عين الأرض للدفن فلا يجوز حرثها ولا غرسها. وذكر في موضع آخر عن ابن عقيل رحمه الله: أن جميع بدن الميت عورة؛ ولهذا يشرع ستر جميعه بالكفن. قال: فيحرم نظره، ولا يجوز نظره إلا لمن يتولى أمره؛ ولهذا يشرع ستره عن العيون، ولا يمس الغاسل عورته ولا سائر جسده إلا بحائل كخرقة ونحوها.
وقال في (المنتهى وشرحه): ولا يباح نبش قبر مسلم مع بقاء رمته إلا لضرورة كأن دفن في ملك غيره بلا إذنه، أو كفن بغصب، أو بلع مال غيره بلا إذنه وبقي كالذهب ونحوه، وطلبه ربه، وتعذر غرمه. اهـ. فهذا كلام فقهاء الحنابلة رحمهم الله.
وأما كلام الشافعية فقال الإمام النووي في (المجموع شرح المهذب): وأما نبش القبر فلا يجوز لغير سبب شرعي باتفاق الأصحاب، ويجوز للأسباب الشرعية كنحو ما سبق، ومختصره أنه يجوز نبش القبر إذا بلي الميت وصار ترابا، وحينئذ يجوز دفن غيره فيه. ويجوز زرع تلك الأرض
وبناؤها وسائر وجوه الانتفاع والتصرف فيها باتفاق الأصحاب، وهذا كما إذا لم يبق للميت أثر من عظم أو غيره. اهـ.
وأما كلام الحنيفية فقال الإمام السرخسي في كتابه (المبسوط): وإن دفن قبل الصلاة عليه صلى على القبر؛ لأنه قد سلم إلى الله تعالى وخرج من أيديهم. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القبر أول منازل الآخرة (1)» . اهـ.
وأما كلام المالكية فقال في (شرح أقرب المسالك) للشيخ أحمد بن محمد الدردير رحمه الله: والقبر حبس على الميت لا ينبش. أي يحرم نبشه ما دام الميت به، إلا لضرورة شرعية. إلى آخر كلامه رحمه الله.
فهذا ما تيسر إثباته هنا من النصوص الشرعية الواردة في هذه المسألة وكلام أهل العلم، وفيه كفاية ومقنع إن شاء الله، وحيث إن المقابر أوقاف على الموتى وحبس عليهم فإن مجرد الحاجة إلى الانتفاع بها لتوسعة طريق ونحوه لا يكون مسوغا لاستعمالها أصلا، ولأن استعمالها على هذه الصفة مفسدة متحققة، وتوسعة الطريق جلب مصلحة، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، مع أن الغالب في مثل هذه الأمور أن للناس مندوحة عن نبش المقابر؛ لإمكانهم من إدراك غرضهم من ناحية أخرى من دون مفسدة ولا مشقة. والله ولي التوفيق.
مفتي الديار السعودية
(1) سنن الترمذي الزهد (2308)، سنن ابن ماجه الزهد (4267)، مسند أحمد (1/ 64).